بعد هزيمة الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية في عام 1948، في ما أُطلق عليه فلسطينياً وعربياً مسمّى "النكبة"، تراجعت -إن لم نقل انتهت- الزعامات الوطنية الفلسطينية ذات المرجعية العائلية والعشائرية. جزء من هذه الزعامات فقد البيئة العائلية الحاضنة لما تسببت فيه النكبة من تهجير، وجزء آخر وجد في الولاء للنظامين المصري والأردني مظلّةً مناسبةً للعمل، أو هو أُجبر على ذلك بحكم الفراغ المفاجئ في الحقل السياسي أو تشتت هذا الحقل تحت وقع الهزيمة، ولأسباب التقارب الجغرافي وتداخلات القرابة.
كما لا يمكن إهمال جزء ثالث من الزعامات العائلية التقليدية، خصوصاً في مدينة القدس، الذي كان يحاول، لكن دون كثير من وضوح الرؤيا وامتلاك الأدوات. لم يكُفّ الفلسطينيون، بالطبع، عن محاولات استرجاع أرضهم أو على الأقل عن التعبير عن أنفسهم كجماعة، لكن هذا التعبير كان في مراحله الأولى يجد طريقه عبر الجمعيات والاتحادات والتنظيمات السرّية الصغيرة.
في العام 1964، قام النظام العربي من خلال جامعة الدول العربية، ولأسباب لا يعنينا هنا تفصيلها، بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، كجسم يتولّى تمثيل الفلسطينيين في أماكن تواجدهم، وأوكل إلى أحمد الشقيري مهمة تجميعهم تحت هذه المظلّة. لكن هزيمة السابع من حزيران/ يونيو عام 1967، كان لها رأي آخر، بحيث تحولت المنظمة، على إثرها، من أداة مضبوطة ومحتواة من قبل النظام الذي أسّسها، إلى جسم مستقلّ عنه تماماً، ومن منظمة تجمع الفلسطينيين كزعامات فردية وشخصيات عائلية أو اعتبارية، إلى جسم سياسي تنضوي تحته فصائل عمل سياسي وعسكري، وشخصيات فكرية وثقافية ذات أهداف تخصّ مشروعاً متكاملاً، وبنية مؤسساتية تقود هذه الأهداف وتوجهها لخدمة المشروع.
لطالما كانت إسرائيل تخشى أن يكون للفلسطينيين ممثل وحيد وشرعي. لذا حاولت توفير وطرح وتمويل "بدائل" قادرة على كسب ودّ الفلسطينيين تتبع لها أو على أقل تقدير لا تعاديها. نظرة على هذه "البدائل" من "المجمع الإسلامي" إلى الجعبري وأبو شباب
لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية، بعد هذا التحوّل السريع، مجرد تجميع عددي للفصائل المسلّحة داخل جسم تمثيلي واحد، بل بوتقة استطاعت أن تصهر كل التناقضات الفكرية والأيديولوجية، وكل التوجّهات السياسية المتباينة والمتناقضة، وأن تستوعب تحت عنوانها الكبير مختلف شرائح واتحادات ونقابات الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم كافة، ثم تتقدّم بكل هذا الخليط إلى العالم بتعريف واحد متّفق عليه: الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
لم يكن هذا نوعاً من أنواع السحر أو ألعاب خفّة اليد، ولم يكن حظاً أغدقته الطبيعة ولا حظوة إلهية، بل تم بفضل حنكة قيادتها، وبالفكر والمعرفة اللذين تقدّمهما مؤسساتها، وقبل كل ذلك وبعده بالانتماء الحقيقي والإيمان الصادق لدى كل فلسطيني بأنّ هذه المنظمة عنوانه الذي يُعرّف نفسه من خلاله، وبيته الذي يدافع عنه. يكفي للتدليل على هذا الإطلاق في الحكم أن نورد، على سبيل المثال، الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي لم يكن له أي تمثيل داخل مؤسسات المنظمة إلا أننا لو سألنا أي عضو في هذا الحزب، آنذاك، لأجاب دون تفكير أن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
إذاً، صار للفلسطينيين ممثّل له مطالب سياسية تخصّهم كجماعة، وتتجاوز فكرة تحسين أوضاعهم كلاجئين في الجوار العربي، وهنا بدأت إسرائيل بمحاربة هذا الممثّل بكل ما أوتيت من سُبل. كان أول ما أعلنته إسرائيل هو إطلاق تسمية "منظمة المخرّبين"، لتشويه هذا الكيان، بحيث صار كل من ينتمي إلى أي فصيل من فصائل المنظمة أو حتى يؤيدها أو يتحدّث عنها "مخرّباً" تتم محاربته. وهكذا شُنّت على المنظمة وفصائلها عشرات الهجمات العسكرية، والتي تم تتويجها باجتياح لبنان في عام 1982، والقضاء على تواجدها المسلح هناك.
لم تكتفِ إسرائيل بمحاربة المنظمة وفصائلها عسكرياً، بل بدأت بالبحث عن "بدائل" قادرة على كسب ودّ الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزّة، خصوصاً بعد أن بدأ تأثير المنظمة يشقّ طريقه بسرعة في هاتين الساحتين، وذلك عبر الجبهة الوطنية التي تم تأسيسها في الضفة والقطاع عام 1973، والتي أعلنت في بيانها الأول أنها امتداد للنضال الفلسطيني عبر منظمة التحرير، وأنها الذراع السياسية للمنظمة في الأراضي المحتلة.
استطاع قادة هذه الجبهة ومناصروها أن يفوزوا في انتخابات البلديات عام 1976، والتي دعت إليها السلطات العسكرية الإسرائيلية، إلا أن نتائجها أتت بعكس ما أرادت تلك السلطات، ما سرّع من وتيرة البحث عن بديل يمنع تغلغل المنظمة ويحدّ من تأثيرها على الفلسطينيين.
بدائل في كل الاتجاهات
لعلّ أول وأهم بديل حاولت إسرائيل خلقه وتشجيعه، وذلك بالتزامن مع تأسيس الجبهة الوطنية عام 1973، هو "المجمع الإسلامي" في غزة. وهذا كان بديلاً أيديولوجياً كما هو معروف، ولهذا السبب بالتحديد فقد حقّق نتائج مبهرةً، بدأت بحرق الهلال الأحمر الفلسطيني في القطاع، وامتدت لتعلن أنّ قتلى منظمة التحرير في مواجهة إسرائيل ليسوا شهداء، بل تم اختيار تسميات مقزّزة لهم، واستمر هذا المجمع ومن ورثوه في عدم الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين إلى يومنا هذا.
البديل الثاني الذي اشتغلت عليه السلطات الإسرائيلية تمثّل في الزعامات العائلية المقرّبة من النظام الأردني. لكنها لم تكن تحمل برنامجاً سياسياً يمكنه أن يشكّل بديلاً على الأرض، ما جعلها استثماراً خاسراً، بل استطاعت منظمة التحرير في نهاية المطاف أن تستوعب هذه الزعامات وأن تضعها تحت مظلّتها.
أما البديل الثالث، والذي استثمرت فيه إسرائيل بالمال والدعاية والمشاريع، وحتى بالسلاح في مرحلة من مراحله، فهو روابط القرى. ففي العام 1976، زار الحاكم العسكري لمدينة الخليل إيغال كرمون، أحد شيوخ عائلة الجعبري، في منزله، وهو محمد علي الجعبري، وناقشا فكرة إنشاء رابطة لقرى الخليل، تستطيع من خلالها الإدارة العسكرية تقديم الخدمات التنموية لتلك القرى. لكن هذه الفكرة بقيت حبراً على ورق، إلى أن التقطها البروفيسور مناحيم ميلسون، عالم الاجتماع، ومستشار الشؤون العربية في القيادة العسكرية الإسرائيلية للضفة الغربية، وشرع في تنفيذها مع الوزير في الحكومة الأردنية سابقاً، مصطفى دودين، ابن بلدة دورا، مباشرةً بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في العام 1978.
حدث ذلك من أجل إيجاد جسم، في الضفة الغربية تحديداً، يستطيع أن يُزاحم شعبية منظمة التحرير، وأن يشكل إطاراً مستقبلياً لـ"السلام" دون الخوض في الحقوق السياسية للفلسطينيين، أي حكماً ذاتياً تقوم من خلاله البلديات والمجالس القروية والمحلية بإدارة شؤون السكان.
في خضّم الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة، نشأت ظاهرة ياسر أبو شباب في غزة، ويبدو أنه يتم دعمها بشكل معقول لتتولّى، ربما مع تشكيلات أخرى، مسؤولية الإدارة في القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، وذلك بهدف منع أي سلطة تحمل مشروعاً سياسياً يطالب بحقوق قومية من الظهور واكتساب الشرعية. فما هي فرص نجاحها؟
اجتهد مناحيم ميلسون، واستطاع بالمال والمشاريع وبناء العلاقات مع شخصيات محلية، مستخدماً خبرته العالية في التعامل مع المجتمع العربي وإجادته اللغة العربية، أن ينشر الفكرة وينفّذها في العديد من المناطق في الضفة الغربية، إلى درجة أن هذه الروابط شكّلت، شئنا أم أبينا، تهديداً جدّياً لشعبية المنظمة في حينه. لكن قوة المنظمة في الخارج وفي الأراضي المحتلة، والتفاف النخب السياسية والنقابية والثقافية حولها أفشلا هذا المخطّط وأجهضاه بعد أقل من ست سنوات، أي مع بداية عام 1984.
ثم اندلعت الانتفاضة الشعبية الأولى في العام 1987، وعمّت مناطق الضفة الغربية كافة وقطاع غزة والقدس، وانتهت بأن اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير كممثّل سياسي للفلسطينيين، وجلست معه للتفاوض، وهو ما أنتج تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية. وهنا، احتدم الخلاف بين قيادة المنظمة وبين البدائل "الميتة" منها و"الحيّة".
ففي حين عدّت الأولى أنّ السلطة هي الخطوة الأولى في تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية على حدود السابع من حزيران/ يونيو، رأت الثانية أنّ السلطة هي بديل للمنظمة، وهي بديل لا بدّ له من بديل. وهنا برز تياران يحاربان السلطة والمنظمة معاً.
التيار الأول ينادي بإنهاء السلطة بحجة أنها تخلّت عن حلم الفلسطينيين بإقامة دولتهم من النهر إلى البحر، والتيار الثاني ينادي بإنهائها لأنها لم تضع حدّاً نهائياً للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولأنها أطالت فترة المراوحة في المكان. توافق ذلك أو تم دعمه من اليمين الإسرائيلي المتمثل في رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والذي يرى أن لا مكان للفلسطينيين ضمن دولة مستقلة خاصة بهم، وأنّ حلّ الصراع يمكن أن يكون اقتصادياً، وإن لم ينفع فبالخلاص منهم تدريجياً ونهائياً.
ولأن البدائل تنتعش، عادةً، حين يصل المستبدل إلى أزمات خانقة، فقد شكّلت الحرب الحالية -بالتزامن على غزة والضفة- أرضيةً سانحةً ومثاليةً للبحث عن بدائل جديدة إضافية. عملت إسرائيل من خلال الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث المجازر اليومية بحق الغزيين ووضعهم تحت المحك الدائم للتهجير وإنهاء قضيتهم، بالتزامن مع اشتغالها الحثيث عبر مستوطنيها لتنغيص حياة الفلسطينيين في الضفة، عملت على خفض سقف توقعات الفلسطينيين أينما كانوا وتيئيسهم من أي حل.
هنا بالتحديد نشأت ظاهرة ياسر أبو شباب في غزة، ويبدو أنه يتم دعمها بشكل معقول لتتولّى، ربما مع تشكيلات أخرى، مسؤولية الإدارة في القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، وذلك بهدف منع أي سلطة تحمل مشروعاً سياسياً يطالب بحقوق قومية من الظهور واكتساب الشرعية. وهنا أيضاً، ظهرت بشكل مفاجئ حالة وديع الجعبري من الخليل، والذي ينادي بإنهاء السلطة الفلسطينية لصالح الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية والاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي.
بينما يبدو تبرّؤ عائلة الجعبري من ابنها ومن مشروعه، فضلاً عن مشايخ ووجهاء آخرين في الخليل، مؤشراً مهماً وإيجابياً على فشل مشروعه كبديل موالٍ لإسرائيل، فإنّ هذا لا يعني أن تظلّ السلطة بتكلّسها الحالي واتخاذها دور المتفرج، فالمشاريع المشبوهة لا تسقط أو تفشل من تلقاء نفسها
لا شكّ أن الجعبري تحديداً لم يكن وليد اللحظة التي أعلن فيها عن خطته، خصوصاً أن الطرف الآخر الذي تناول هذه الخطة هو وزير الاقتصاد الإسرائيلي، نير بركات، الذي يتحكم هو ووزارته في دخول العمال الفلسطينيين إلى الداخل المحتل، كما يتحكم بمعابر التجارة وبما يمرّ منها، وقد كان أيضاً رئيساً لبلدية القدس على مدار عشر سنوات بين 2008 و2018، ما أتاح له الاطلاع على مشكلات الوسط العربي ونقاط ضعفه من شخصيات واحتياجات.
لكن إن كان لا بد من مقارنة بين "روابط القرى" وبين "إمارة الخليل" المدّعاة، فيمكننا القول إنه برغم ضعف السلطة الحالية وتلاشي منظمة التحرير وتحوّل كادرها إلى مجموعة من الموظفين المستحقين للتقاعد، فإن فطنة الشعب الفلسطيني ستلفظ هذه الظاهرة في مهدها.
وبينما يبدو تبرؤ عائلة الجعبري من ابنها ومن مشروعه، فضلاً عن مشايخ ووجهاء آخرين في الخليل، مؤشراً مهماً وإيجابياً على فشل مشروعه كبديل موالٍ لإسرائيل، فإن هذا لا يعني أن تظل السلطة بتكلّسها الحالي واتخاذها دور المتفرج. فلا مشاريع مشبوهة تسقط أو تفشل من تلقاء نفسها، أو ببيانات الشجب والاستنكار، بل يحتاج الفلسطينيون إلى نهضة جدّية في الخطاب والعمل السياسيّين، واتخاذ مواقف عملية، أولاً تجاه حاجات ومطالب الشعب المسحوق في غزة والمهان في الضفة، وإلا فإنّ الفراغ سينادي من يملؤه، وإن لم يكن الجعبري نفسه فسيأتي غيره لا محالة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.