أصدر صندوق الأمم المتحدة للسكان -وكالة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنجاب- تقريراً حديثاً كشف عن انخفاض واضح في معدلات الخصوبة في العالم في السنوات الأخيرة، حيث بات مئات الملايين من الناس غير قادرين على إنجاب عدد الأطفال الذي يريدونه.
الصندوق الأممي أجرى استطلاعاً حول النوايا المتعلقة بالخصوبة، شمل 14 ألف شخص في 14 دولةً هي: كوريا الجنوبية، تايلاند، إيطاليا، هنغاريا، ألمانيا، السويد، البرازيل، المكسيك، الولايات المتحدة، الهند، إندونيسيا، المغرب، جنوب إفريقيا، ونيجيريا"، ويقدّر تعدادهم بنحو ثلث سكان العالم، إلا أنّ النتائج كانت صادمةً، فقد أفاد واحد من كل خمسة أشخاص بأنه لم يُرزق أو يتوقع ألا يُرزق بالعدد الذي يتمنى من الأطفال، في حين كان لافتاً تصدّر العوامل الاقتصادية أسباب تراجع الإنجاب، حيث قال 39% من الأشخاص، إنّ القيود المالية هي السبب الرئيسي في إنجاب عدد أطفال أقل مما يطمحون إليه.
انخفاض غير مسبوق في معدلات الخصوبة
تؤكد رئيسة صندوق الأمم المتحدة للسكان، الدكتورة ناتاليا كانيم، أنّ انخفاضاً غير مسبوق في معدلات الخصوبة قد بدأ في العالم، حيث تتراجع المعدلات بشكل كبير، في ظل شعور كثيرين بعدم قدرتهم على تكوين الأسر التي يرغبون فيها.
بينما يقول الخبير الاقتصادي السياسي في معهد "أمريكان إنتربرايز"، نيكولاس إيبرشتات، إنّ حقبةً تاريخيةً جديدةً تواجهها البشرية يمكن تسميتها بـ"عصر الانخفاض السكاني"، مشيراً إلى أنّ عدد سكان العالم سينخفض للمرة الأولى منذ الطاعون في القرن الرابع عشر.
أصدر صندوق الأمم المتحدة للسكان -وكالة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنجاب- تقريراً حديثاً كشف عن انخفاض واضح في معدلات الخصوبة في العالم في السنوات الأخيرة، حيث بات مئات الملايين من الناس غير قادرين على إنجاب عدد الأطفال الذي يريدونه
ويُعرف معدل الخصوبة الإجمالي، بأنه متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة بين سنّ الـ15 و49 عاماً، في الوقت الذي يُعدّ فيه تحقيق معدل خصوبة يبلغ 2.1 طفل لكل امرأة الهدف المثالي لتحقيق ثبات سكاني على المدى الطويل.
وتشهد معدلات الخصوبة العالمية انخفاضاً مستمراً منذ عقود، فيكفي القول إنّ معدل الخصوبة الإجمالي العالمي في 1950، بلغ 5 أطفال، أي أنّ المرأة في المتوسط تنجب خمسة أطفال خلال سنوات الإنجاب وفقاً لشعبة السكان في الأمم المتحدة، بينما يقف العالم اليوم عند معدل خصوبة 2.24.
ومن المتوقع بحسب صندوق النقد الدولي، أن ينخفض إلى أقل من 2.1 بحلول عام 2050، بالتزامن مع تراجع معدل الخصوبة في الـ25 سنةً المقبلة، إلى أقل من مستوى الإحلال في 76% من البلدان في جميع أنحاء العالم.
الشرق الأوسط... أكبر انخفاض في معدلات المواليد
من جانبه، يقول المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان، الدكتور مجدي خالد، لرصيف22، إنّ متوسط عدد الأطفال لكل سيدة وفقاً للتقرير الأممي الأخير بلغ 2.4، ما يعكس تراجعاً كبيراً في معدلات الخصوبة والإنجاب مقارنةً بما قبل بداية الألفية الثالثة (كان المعدل 5 في العام 1950)، عادّاً أنّ غالبية الدول تحاول إيجاد توازن بين معدلات النمو الاقتصادي والزيادة السكانية، ولذلك تجدها حريصةً على تقليل معدلات زيادة السكان بكل الطرق المتاحة.
ويتفق مجدي خالد، مع نتائج تقرير "حالة السكان في 2025" الصادر عن الصندوق الأممي، في كون العامل الاقتصادي يأتي في مقدمة الأسباب وراء تراجع معدلات الخصوبة، ولا سيّما في ظل موجة الغلاء والتضخم التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة.
وفي حين برزت مشكلة انخفاض الخصوبة في الدول الغربية خلال العقود الأخيرة، إلا أنّ الشرق الأوسط لم يعُد بمنأى عن هذه المعضلة، حيث باتت المنطقة والدول العربية التي لطالما تصدرت مؤشرات الخصوبة المرتفعة على مستوى العالم، في خطر حقيقي، بعدما أفاد الباحثون بأنّ الشرق الأوسط يشهد "أكبر انخفاض في معدلات المواليد في جميع أنحاء العالم خلال الثلاثين عاماً الماضية".
وبحسب إحصاءات البنك الدولي، فإنّ خمس دول، هي البحرين، الكويت، قطر، تونس، والإمارات، من أصل 22 دولةً في جامعة الدول العربية، كان معدل الخصوبة الإجمالي فيها خلال العام 2023 أقل من 2.1، وهو عدد الأطفال المطلوب لكل امرأة، للحفاظ على مستوى السكان، حتى أنّ دولةً على غرار الإمارات بلغ معدل الخصوبة الإجمالي فيها 1.2 فقط أي أقل بكثير من مستوى الإحلال السكاني.
وأظهرت دراسة نُشرت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، في مجلة جمعية الخصوبة في الشرق الأوسط، أنّ دول المنطقة سجلت انخفاضاً في معدل الخصوبة الإجمالي بين 3.8% و24.3%، بين عامي 2011 و2021، في حين تصدّر الأردن والعراق واليمن، قائمة أكثر الدول حدّةً في الانخفاضات، بنسب 24.3% و22.2% و19.1%على الترتيب.
وفقاً للدراسة، فإنّ غالبية الأسر العربية تعاني من انخفاض الدخول والعجز عن الوفاء بالالتزامات الحياتية، حيث يبرز العامل الاقتصادي كسبب أساسي في ترشيد الإنجاب، فعلى سبيل المثال، تعاني شريحة عريضة من مواطني مصر والجزائر والأردن ولبنان والمغرب والعراق، الخوف من انعدام الأمن الاجتماعي.
ومؤخراً، اتجهت بعض الدول العربية نحو مسار هبوطي، على غرار المغرب التي أظهر الإحصاء الأخير للسكان فيه لسنة 2024، انخفاض معدل الخصوبة الكلي إلى 1.97 طفلاً لكل امرأة، من 2.2 طفل لكل امرأة حسب إحصاء سنة 2014، مع انخفاض نسبة الأطفال دون 15 سنةً، وتسارع معدل شيخوخة السكان. أما لبنان، فيشهد انخفاضاً لافتاً في معدلات الخصوبة، إذ تسير الولادات في منحى تنازلي منذ عام 2011، وسط مخاوف تتعلق بتزايد معدلات الشيخوخة، ولا سيّما في ظل بحث العدد الأكبر من الشباب عن الهجرة سعياً إلى مستقبل أفضل وعمل مستقر.
وتشير توقعات موقع "مارمور" الإحصائي، إلى انخفاض معدل الخصوبة الكلي لدول الخليج إلى 1.15 بحلول عام 2060، الأمر الذي يشير إلى انخفاض كبير في عدد السكان في دول مجلس التعاون إذا استمر هذا الاتجاه الهبوطي، وذلك على الرغم من أن أحدث إحصاء كشف تسجيل زيادة قدرها أكثر من 2.1 مليون نسمة في 2024، مقارنةً بعام 2023.
هل تتغيّر ديموغرافيا المنطقة؟
التراجع الواضح في معدل الخصوبة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، يدفع للتساؤل عن مستقبل التعداد السكاني، وتأثير ذلك على تغيير ديموغرافيا الدول، ولا سيّما في ظل وجود شبه إجماع عربي "غير متفق عليه" على حالة الترشيد الإنجابي في السنوات الأخيرة. إلا أن المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان، لا يتخوف من خطورة الأمر على تغيير ديموغرافيا بعض المناطق وبالتحديد الدول العربية، مؤكداً أنّ ذلك يستلزم عقوداً طويلةً، وحتى الآن العرقيات والعادات والموروثات في الشرق الأوسط تعتزّ بإنجاب عدد كبير من الأطفال، فهي ثقافة سائدة منذ قرون طويلة، وإن كان هناك تراجع في معدلات الخصوبة خلال السنوات الأخيرة.
"من الضروري البحث وراء أسباب تراجع معدلات الخصوبة في الشرق الأوسط، ولا بدّ لكل دولة أن تبحث الأمر على حدة"؛ هذا ما يطالب به مجدي خالد، محذراً من أنّ استمرار الانخفاض قد يؤدي إلى تحوّل المنطقة العربية إلى الشيخوخة، وانحسار الكتلة الشبابية اللازمة لدماء أي دولة في المنطقة وطاقتها الإنتاجية، قائلاً: "لا بد من العمل على تحقيق الاستقرار السكاني، بحيث لا تقلّ معدلات الإنجاب الكلي لكل أسرة عن معدّل 2.1 الذي يحافظ على التوازن بين الإنجاب والنمو الاقتصادي، ولا يسمح بانقراض المجتمعات".
كما يحذّر خالد من خطورة تكرار السيناريو الأوروبي (أعداد المواليد أقلّ من أعداد الوفيات)، في بعض الدول العربية، ضارباً مثالاً دولة الإمارات التي تسجل معدلات خصوبة أقلّ من المتوسط العالمي في السنوات الأخيرة.
الثقافة الإنجابية في المنطقة العربية
يُضيف المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان: "إنّ ثقافة الأسرة تغيرت في المنطقة بشكل واسع، وفي الخليج على وجه الخصوص، حتى باتت الأسرة تفضّل إنجاب طفل واحد أو اثنين كحدّ أقصى، بالإضافة إلى حالة عزوف عن الزواج"، مشيراً إلى أنّ السياسة السكانية في المنطقة تختلف من بلد إلى آخر، وتتوقف بشكل أساسي على الاحتياجات الاقتصادية، لذلك قد توظف بعض الأنظمة الحاكمة، الثقافة الإنجابية بما يخدم مصالحها.
وفي هذه النقطة، يقول الأكاديمي السعودي وأستاذ علم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية "غراند فالي" الأمريكية، عبد الله فيصل آل ربح، أنّ التراجع الكبير في أعداد ونسب المواطنين في معظم دول الخليج يشكل تهديداً ناعماً للمنطقة بما تملكه من موارد وقدرات، مقترحاً تقديم امتيازات للمواطن الذي يزيد عدد أولاده على الأربعة، من تسهيلات مالية أو لوجيستية تساعده في رعاية الأولاد وتوفير حياة كريمة لهم، خاصة في ظل تراجع ثقافة الإنجاب بكثرة لدى عدد كبير من الأسر.
إلى ذلك، يتفق استشاري التوليد وأمراض النساء في كلية الطب في جامعة أسيوط، الدكتور شريف بدران، مع الدكتور مجدي خالد، في تغيّر الثقافة الإنجابية للأسر في المنطقة العربية، حيث باتت الشريحة الأكبر من السكان على درجة مرتفعة من الوعي المجتمعي، في ما يتعلق بآلية جلب طفل يحظى بالقدر المناسب من التعليم والرفاهية، عوضاً عن إنجاب عدد كبير من الأطفال لا يحظون بالقدر نفسه من التعليم والرفاهية، بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية المختلفة من غلاء وارتفاع في الأسعار، والتي تدفع شباب الدول ذات الكثافة السكانية المرتفعة على غرار مصر كمثال، للسفر إلى الخارج بحثاً عن مصدر دخل مناسب، والغياب عن الأسرة لفترات طويلة تمتد لسنوات متواصلة، مع ما لذلك من تأثير في تقليل فرص حدوث الحمل والإنجاب.
وفي أحدث إحصاء، شهدت مصر تراجعاً قياسياً في النمو السكاني للمرة الأولى منذ عام 2007، حيث انخفضت أعداد المواليد في عام 2024 إلى 1،968 مليون مولود مقابل 2،045 مليوناً في عام 2023، لتحتفي وزارة الصحة والسكان المصرية، مؤكدةً أنّ البلاد نجحت في تحقيق أدنى معدّل إنجاب خلال الـ17 عاماً الماضية، بعدما تراجع معدل الخصوبة إلى 2.41 طفلاً لكل سيدة من 2.54 طفلاً في 2023.
وبحسب الإحصاءات، تحتل مصر المركز الأول في قائمة الدول العربية الأكثر تعداداً للسكان، حيث بلغ إجمالي عدد السكان أكثر من 114 مليون نسمة، بينهم قرابة 108 ملايين في الداخل.
هل ينقلب الهرم السكاني في الدول العربية؟
وفي ما يتعلق بوجود خطورة على مستقبل التعداد السكاني في المنطقة وانقلاب الهرم السكاني في اتجاه هبوطي، يؤكد الدكتور شريف بدران، في حديثه إلى رصيف22، أنّ "الأمر مُستبعد"، قائلاً: "شريحة كبيرة من العقل العربي جزء من سعادتها جلب أطفال، وتعدّ الأمر إنجازاً تتفاخر به".
أفاد الباحثون بأنّ الشرق الأوسط يشهد "أكبر انخفاض في معدلات المواليد في جميع أنحاء العالم خلال الثلاثين عاماً الماضية"
يضيف: "هذه الثقافة لا تزال منتشرةً لدى قطاع كبير من العرب، فلذلك الثقافة والموروثات هي التي ستحكم، وستمنع التحول نحو النموذج الأوروبي الذي لا يضع الإنجاب في مقدمة أولوياته".
يختم شريف بدران حديثه بالتأكيد على أنّ الموقف الحالي يتمثل في رغبة غالبية الأنظمة الحاكمة لدول الشرق الأوسط في تقليل معدلات الزيادة السكانية، لما لذلك من تأثير إيجابي على النمو الاقتصادي، خاصةً أنها تواجه صعوبات بالغةً في جعل الطريقين يتحركان بالقدر نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.