لم يخطر ببالي يوماً، أنا ابن حوران التي أحب فنها كما أحب تربتها الحمراء وثورتها، أن أسمع معزوفة "ستي" الدمشقية على آلة المجوز الشهيرة في منطقتنا. كانت مفاجأة بالنسبة لي أن يطلب المطرب الحوراني الشهير، أحمد القسيم، من عازف المجوز أن يعزف ذلك اللحن.
بات مألوفاً في السنوات الأخيرة في حوران، أن يُعزف لحن من خارجها، وكأنه خُلق للدبكة الحورانية، فقد نجح الفنانون من أبناء المنطقة، والذين لا يطرب أهل حوران إلا لهم، بغناء العديد من الألحان بعد تطويعها لتصبح حورانيةً، وهو ما يمكن أن نصطلح على تسميته بـ"الحورنة"، لتصطبغ الألحان والأغنيات بنكهة وبطربية خاصتين.
قبل سنوات، أي منذ العام 2011، وكشكل جديد، دخل العديد من الأغنيات الخليجية، وحتى العربية، باللهجة المتمدنة ضمن إطار "الحورنة"، فمن أغنية "لنا الله" لمحمد عبده، إلى أغنية "يا خالي" لأصالة نصري، وغيرهما، استطاعت آلة المجوز عزفها جميعاً.
في جلسة جمعت فيروز مع ابنها الملحن زياد الرحباني، كانت ضحكة فيروز المليئة بالفرح واضحةً، وهي تستمع إلى أغنيتها "ما شاورت حالي" التي غنّاها فنان شعبي حوراني في أحد الأعراس على أنغام المجوز.
يتحدث زياد الرحباني، بأنه للمرة الأولى يشعر بأن تطبيق واتس آب مفيد، عندما وصله مقطع لأغنية والدته تغنّيها مجموعة من الشباب في حوران، بعد أن فقد رغبته في سماعها بصوت والدته. ويتابع أنه كان يتمنى لو استطاع هؤلاء الشباب من حوران تسجيل الأغنية مع فيروز، بدلاً من الكورال الذي يغنّي معها، لكانت الأغنية لا تزال مسموعةً حتى الآن.
تاريخ المجوز في حوران
لا يوجد تاريخ دقيق لآلة المجوز في حوران، لكنها بلا شك تعود إلى مئات السنين، كونها من بنات الناي، وهناك روايات تاريخية تُفيد بأن المجوز وُجد أيام الفينيقيين في عام 2500 قبل الميلاد، من خلال إحدى الرسومات على أحد الجدران في جزيرة قبرص.
وتربط أهالي حوران علاقة قوية به، فهو الآلة الأشهر التي ترتبط بمناسباتهم السعيدة، إذ يردد البعض أنه عند سماع عزفه يتراقص القلب قبل الجسد والأرجل، فيما يصف آخرون أن المجوز يجعل الفرح والنشوة يصلان إلى أعلى المستويات وكأنه خمرة ينتشي معها العقل فيتحول الشخص إلى مرحلة ما بين الوعي واللا وعي.
تبقى الدبكة التي تُعرف بـ"الدرازي" هي الأجمل، وسُمّيت كذلك لأن إيقاعها بطيء أكثر من الدبكة التقليدية، بالإضافة إلى الهدوء فيها وتشابك أيدي المشاركين، وتُسمّى محلياً "دبكة الكبارية"، أي دبكة كبار السن
وللدبكة على المجوز العديد من الأشكال التي يعرفها أبناء سهل حوران الممتد من مدينة عجلون في الأردن، إلى حدود مدينة الكسوة في ريف دمشق، من بينها دبكات مستحدثة خاصة بالشباب.
عاطف زكي العصافرة، وهو شاعر وعازف على آلة الربابة، من بلدة الكرك الشرقي، في ريف درعا الشرقي، يبيّن خلال حديثه إلى رصيف22، أن أشهر دبكة في حوران وأقدمها هي دبكة "حبل مودع"، وتتكون من اصطفافات متتالية من شاب وفتاة، وشاب وفتاة... وهكذا حسب العدد الموجود، وعادةً ما يكون هؤلاء من الأقارب.
ولكن تبقى الدبكة التي تُعرف بـ"الدرازي" هي الأجمل، وسُمّيت كذلك لأن إيقاعها بطيء أكثر من الدبكة التقليدية، بالإضافة إلى الهدوء فيها وتشابك أيدي المشاركين، وتُسمّى محلياً "دبكة الكبارية"، أي دبكة كبار السن الذين يصطفون في مقدمة الدبكة باللباس الحوراني التقليدي.
بمجرد أن تتحول "دقة المجوز" من اللحن العادي إلى اللحن "الدرازي"، فإنك لن تتمالك نفسك. وما إن تمر لحظات حتى تبدأ قدماك بالحركة تلقائياً لتتجه نحو دبكة الكبارية، والتي تستفتح أغانيها بجمل شعرية مميزة باللهجة الحورانية، عادةً تختلف بين فنان وآخر، مثل:
الدنيا مسا الله يمسيكم ويا أهل الفرح الله يهنيكم
أو:
أول ما نبدي عالنبي نصلي خلي الشيطان الملعون يولي
وفي بعض الأحيان يعبّر الفنان في الجملة الأولى عن اشتياقه ربما إلى من يحب أو إلى غائب، فيستذكره بالقول:
أول ما نبدي عالبند الأول على اللي جافاني ياناس وطول
يقول العصافرة إن الآلات الموسيقية الرئيسية في درعا هي المجوز والشبابة والربابة، بينما عُرف الأورغ خلال العقدين الأخيرين، وهو دخيل على الفن في حوران، موضحاً أن لكل آلة وقتاً للعزف عليها، فالمجوز هو الآلة الرئيسية في الأعراس، خاصةً الأعراس الكبيرة، وتحديداً في يوم العرس عندما يجتمع المئات من الناس في الدبكة.
الآلة الأكثر حميميةً هي الربابة، فهي تُستخدم للعزف والغناء في سهرات المضافات، إذ عادةً ما يجتمع كبار البلدة أو القرية كل مساء في إحدى المضافات، وتكون الربابة بمثابة الكمال للكيف في السهرة
أما الشبّابة، فكانت الآلة الموسيقية الأكثر استخداماً في سهرات الأعراس عندما تكون على نطاق ضيق، أو في مناسبات أخرى كالتخرج من الجامعات أو التسريح من الجيش وحتى حفلات الطهور للأولاد.
والآلة الأكثر حميميةً هي الربابة، فهي تُستخدم للعزف والغناء في سهرات المضافات، خاصةً في فصل الشتاء، إذ عادةً ما يجتمع كبار البلدة أو القرية كل مساء في إحدى المضافات، أو في مضافة كبير القرية، أو كبير إحدى العائلات، وتكون الربابة بمثابة الكمال للكيف في السهرة التي عادةً ما يتخللها طعام العشاء، أو طبق "اللزاقيات"، وهو أشهر أطباق الحلوى في حوران على الإطلاق، بالإضافة إلى النراجيل والقهوة المرة، فسهرات المضافات سهرات حورانية بامتياز، تكلّلها الربابة والشعر أو ما يُعرف محلياً بالقصيد.
بعد عام 2011 وتهجير عدد كبير من أبناء حوران نتيجة الحرب، أصبحت الربابة جزءاً من الذاكرة والحنين إلى حوران ودرعا، إذ تحوّل جزء من شعر الربابة إلى الشوق ومراقبة شروق الشمس من مدينة الرمثا الأردنية وهي تلقي بأشعتها فوق حوران، كما يقول الشاعر في هذا المقطع:
بالرمثا أراقب قمر ونجوم..
تا طلعت الشمس من شرقا
يا درعا قلبي يحبك دوم ..
ما دامت عين السما زرقا
الجوفية فنّ كبار السن
تتميز درعا والسويداء بفن الجوفية، وهي طريقة في الدبكة تختلف عن الدبكة على ألحان المجوز، إذ يتم غناء قصائد من دون أي لحن، وقد اشتهرت مع مطلع أربعينيات القرن الماضي لشاعر حوراني مجهول عندما بدأ التجنيد الإجباري في سوريا إذ تناقل الناس قصيدةً بقي منها بيتان حاول البعض إكمالهما:
تل قلبي تل ببور الحديدي
يوم سافر بالشباب للعسكرية
يوم أقبلنا عالمحطة من بعيد (ي)
والعذارى جمهرن كلهن سوية.
هنا وصف قائل الأبيات غليان قلب الأهالي في حوران عندما جاء القطار "الببور"، لنقل الشبان إلى الخدمة العسكرية، واصفاً توافد الأهالي إلى محطة القطار وعلى رأسهم النساء "العذارى"، إذ كان من المتعارف أن تطلق النساء الزغاريد عندما كان يذهب الأبناء إلى الخدمة العسكرية، وحتى قبل ذلك بعقود كانت زغاريد النساء تشكل دافعاً للرجال في أي معركة حتى وإن كانت على مستوى بسيط.
فالجوفية كما يعرفها أبناء حوران، دبكة تراثية خاصة بالرجال من كبار السن بشكل خاص، تتسم بالهدوء وعادةً ما تُغنّى فيها قصائد حماسية، يشترك فيها عدد من الرجال في صفّين متقابلين، ويمسك الرجال في كل صفّ بإيدي بعضهم وتكون حركتهم بشكل متوازن ومنسّق، خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الخلف، مع سير إلى اليمين بشكل دائري.
قبل سنوات وفي معظم الجوفيات، كانت تدخل امرأة جميلة بلباس حوراني وتضع برقع الزينة على وجهها لتؤدي رقصةً بين صفّي الرجال لإعطاء نوع من الحماسة والحمية إذ تعدّ المرأة الحورانية هؤلاء الرجال سنداً وعزوةً، ولطالما كان أبناء حوران ينتخون بالمرأة وخاصةً الأخت إذ اشتهرت عبارة "وأنا أخو فلانة".
من الجوفيات المشهورة في حوران "زغردت مكحولة العين مريوشة"، وكلماتها:
تحلالي حمرا تحت ناثر الشوشة
يا منوة اللي لي يبغون الطرادي
كرّب سروج اللي ع الخيل منقوشة
ريش النعام اللي ع الكيف وزيادي
لحقت الغلمان والخيل عالروشة
تسمع رزيزه مثل سوق الحدادي
غلمان وسيوفهم ترعش رعوشة
عطشت ومن صافي المي ورّادة
زغردت مكحولة العين مريوشة
يومِ ثاع الدخان وعلق الطرادي
والمضايف عندنا دوم مفروشة
والقهاوي فوقها الهيل وزيادة.
قصيدة تصف الشجاعة في الحرب، وصبر الرجال ودعم المرأة التي تستثير الرجال بكلماتها عن الشرف والكرامة، وتُختتم بأن بيوت أهل حوران بيوت كرم مفتوحة للضيف في أي وقت.
"تعليلة العرس والحنّة"
لطالما كانت الأعراس فرحةً لأهل حوران بالإضافة إلى كونها فرحةً لأصحاب العرس والعريس نفسه، فهي فرصة للمشاركة في الفرحة من جهة، وفرصة لأن يستعرض الشبان والفتيات وجودهم فيها وعادةً لم ينقضِ عرس في حوران، إلا وتلته خطبة لشاب وفتاة ممن حضروا العرس وتعليلته.
والتعليلة، بحسب أبو عبد الرحمن، وهو ستيني من ريف درعا، حفلة كانت تستمر قديماً لنحو أسبوع وتسبق العرس الذي يقام عادةً يوم الجمعة، لكنها في السنوات الأخيرة تقتصر على يومين أو ثلاث، تبدأ بعد صلاة المغرب وتستمر حتى منتصف الليل، ويكون المجوز هو الآلة الموسيقية الرئيسية فيها، والدبكة والفرح سمتا كل أبناء المنطقة.
التعليلة، حفلة كانت تستمر قديماً لنحو أسبوع وتسبق العرس الذي يقام عادةً يوم الجمعة، ويكون المجوز هو الآلة الموسيقية الرئيسية فيها، والدبكة والفرح سمتا كل أبناء المنطقة
يضيف أبو عبد الرحمن، أن الليلة الأخيرة من "التعليلة"، تُعرف بليلة "الحنّة"، إذ تقوم مجموعة من أصدقاء العريس وأقاربه بحمله على الأكتاف وسط ساحة الدبكة، ويكون أحد أخوته أو أصدقائه يحمل منسفاً متوسطاً مملوءاً بالحنّاء المجبولة ومزيناً بالورد، ويقوم بوضع الحنّاء على يد العريس أو إصبعه، مع ترديد أغنية خاصة بالحنّاء، وخاصة بحوران، تقول كلماتها:
حنيت إيديا ولا حنيت أصابيعي
يا ما حلا النومة بحضين المرابيعي
يا الأم يا الأم شديلي مخداتي
طلعت من البيت وما ودعت خياتي
يا الأم يا الأم شديلي عالمودع
الليلة عندك وبكرا الصبح نتودع.
تُختتم "التعليلة" و"الحنّة" بوليمة عشاء يتم تقديمها للحضور، وهي عبارة عن مناسف "المليحي"، وهي الطبق الأشهر في حوران، والتي تتكون من البرغل، والجميد "اللبن المجفف"، واللحم والسمن البلدي، ليكون اليوم التالي هو يوم العرس والزفة التي تُعرف بـ"الفاردة"، إذ يذهب العريس ومن معه ويكون عددهم عادةً كبيراً إلى منزل العروس لتتم عملية تلبيس الذهب وفق العادات في منزل أهل العروس، وبعد ذلك تخرج العروس من منزل والديها مرتديةً عباءة والدها فوق فستان العرس، يرافقها والدها أو أحد أعمامها إن كان أكبر من والدها أو أحد أخوتها، وينتهي العرس بذهاب العروس وعريسها إلى منزل الزوجية.
ذلك جانب من حوران، ربما غيّبته السنوات الماضية عن الكثيرين، وهي سنوات من الحرب ألقت بظلالها القاتمة على كل شيء، ولكن على الرغم من ذلك لا يزال أبناء حوران يعيشون الحرب والحب معاً، ويعيشون بعين ضاحكة وأخرى باكية على ما يجري، على أمل أن تعود الأحوال إلى ما كانت عليه، وعلى أمل عودة تكتنفها الصعوبة ويغلب أبناءها الشوقُ إلى أرض وأم وحبيبة، فتراهم يرددون في غربتهم:
يا طير يا اللي بالسما تزور الحمى
سلّم على اللي ساكنة حوران (ي).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...