أوْلى الخميني أهمية فائقة للمساجد، ليس لدورها في المسائل العبادية بل لتأثيرها في الحياة السياسية والاجتماعية. كان ينظر بعين الإعجاب إلى "ما كانت عليه في صدر الإسلام". فبرأيه، كان المسجد حينذاك "مركزاً للتحرك الإسلامي" و"للقضايا الاجتماعية والسياسية" و"كان الإعلام الإسلامي يبدأ من المسجد، وتنطلق الجيوش وقوى المسلمين منه لدحر الكفار وإدخالهم تحت لواء الإسلام".
ولم تنطلق رؤيته هذه، والتي يمكن التعرف عليها في كتاب "المسجد في فكر الإمام الخميني" الصادر عن "جمعية المعارف الإسلامية" في بيروت، من فراغ أو من مجرّد رصد نظري تاريخي لأهمية المساجد والأدوار التي يمكن أن تلعبها، بل أتت من ملاحظة عملية للدور الذي اضطلعت به في إيران قبيل الثورة الإسلامية وأثناءها: "المساجد هي التي حقّقت النصر لأبناء شعبنا"، قال الخميني، و"هي مراكز حسّاسة ينبغي للشعب الاهتمام بها".
في لبنان، ورث حزب الله عن الخميني هذا الاهتمام، بجانب التنبّه إلى أهمية استخدام المناسبات الدينية في الدعاية السياسية ونشر الخطاب.
نجح حزب الله في استقطاب الكثير من الشيعة إلى مساجده ودروسه الدينية. كما نجح الحزب في نشر فكره القائم على "فكرة الولاية"، أي الطاعة للولي الفقيه الإيراني، بين شرائح ليست بقليلة من المجتمع الشيعي. كيف ذلك؟
بيوت لله وللسياسة
منذ انطلاقته، "فطن حزب الله إلى الأهمية الكبيرة للمساجد في عملية التبليغ والاستقطاب"، يقول غسان فوزي طه في كتابه "شيعة لبنان… العشيرة، الحزب، الدولة (بعلبك- الهرمل نموذجاً)". وشكّلت الخطب التي ألقاها قادته في المساجد في ثمانينيات القرن الماضي، قبل تأسيس تلفزيون المنار وإذاعة النور، بحسب مسعود أسد اللهي في كتابه "الإسلاميون في مجتمع تعدّدي… حزب الله في لبنان نموذجاً"، "أهم تواصل بين حزب الله ومؤيديه، ومصدراً دائماً لتعبئة أنصار الحزب". ولذلك قام ببناء وترميم عشرات المساجد والحسينيات، كما استفاد من أخرى موجودة ولكن لا يتوفر لها رجال دين يتولون مسؤوليتها، فمدّها بــ"معمَّمين" أعدّهم دينياً وسياسياً في حوزات راح ينشئها.
وكان الحدث الأسبوعي الأبرز في المساجد صلاة الجمعة التي أعاد حزب الله العمل بها، بعد أنْ كان قسم كبير من الشيعة يعلّقون إقامتها حتى ظهور الإمام المهدي. هكذا، "أعيد الاهتمام بإقامة صلاة الجمعة التي لم تكن تقام من ذي قبل، وفيها الخطبة التي تتناول المسائل الدينية والسياسية وشؤون المقاومة"، كما يروي عبد الغني عماد في كتابه "حزب الله… إشكالية السياسة والمقاومة في مجتمع متنوّع"، وراح في شق الخطبة السياسي يتناول "حال الأمة الإسلامية". وبحسب طه، "كان لهذه الصلاة التي بدأت تقام أسبوعياً تأثيرها في بث الوعي الديني، فضلاً عن الوعي السياسي المنفتح على مشكلات الحياة السياسية اللبنانية والمرتبطة بالنظام اللبناني".
إكثار حزب الله من نشر رموزه لا يأتي عن عبث. يعرف أن مَن ينشأ في فضاء عام يعجّ برموزه سينظر إلى هيمنته كشيء من طبائع الأمور في المجتمع الشيعي، لا كشيء سياسي قابل للضمور والتغيّر.
يرصد وضاح شرارة، في كتابه "دولة حزب الله… لبنان مجتمعاً إسلامياً"، أشهر المساجد التي استخدمتها الحركة الخمينية في بداياتها، وكانت ثلاثة كبيرة في ضواحي بيروت الجنوبية هي مسجد الإمام الرضا في بئر العبد (وكان إمامه السيد محمد حسين فضل الله)، مسجد الإمام المهدي في الغبيري (وكان إمامه الشيخ حسن طراد)، ومسجد الرسول الأعظم في الرمل العالي/ طريق المطار (وكان إمامه حسن نصر الله). وفي بيروت، برز مسجد فاطمة الزهراء في زقاق البلاط، وفي الجنوب مسجد جبشيت الذي كان الشيخ راغب حرب إمام صلاة الجمعة فيه، ثم خلفه بعد اغتياله الشيخ عبد الكريم عبيد إلى حين خطفه الإسرائيليون، ومسجد الغازية وكان يخطب فيه الشيخ عفيف النابلسي. وفي البقاع، لعب جامع الإمام علي في النبي شيت - وكان يخطب فيه السيد عباس الموسوي والشيخ صبحي الطفيلي - دوراً كبيراً، وكذلك مسجد بوداي بإمامة الشيخ محمد يزبك.
نجح حزب الله في استقطاب الكثير من الشيعة إلى مساجده ودروسه الدينية، أكان في بعلبك حيث بدأ نشاطه، أو في ضواحي بيروت الجنوبية حيث مجتمع واسع من النازحين الذين تقطّعت علاقاتهم الاجتماعية بفعل نزوحهم عن قراهم فراحوا يبحثون عن روابط جماعية جديدة ووجد كثيرون منهم في "مجتمع حزب الله" ضالتهم. كما نجح الحزب في نشر فكره القائم على "فكرة الولاية"، أي الطاعة للولي الفقيه الإيراني، بين شرائح ليست بقليلة من المجتمع الشيعي.
وفي سبيل ربط محازبيه ومؤيديه سياسياً وعاطفياً بإيران، أسقط حزب الله مَرْويات من تراث الشيعة على السلطة الإيرانية ليصوّرها كسلطة لا تُهزم لأنها مرتبطة بقدوم المهدي، الإمام الثاني عشر الذي ينتظر الشيعة الاثني عشريون عودته ليعمّ العدل في العالم.
لا يحرص حزب الله على الاستفادة من المناسبات الدينية الشيعية فقط بل يصنعها، ولطالما استخدم إحياء الاحتفالات بها كـ"وسيلة مهمة في بث الخطاب وترسيخه"، وكثُرت المناسبات التي استحدثها و"بلغت نحو ثلاثين احتفالاً سنوياً"، وهي "لم تكن تحظى بهذا النوع من الاهتمام والانتشار قبلِهِ"
في إحدى خطبه قال الأمين العام الحالي لحزب الله نعيم قاسم، وكان وقتها نائباً للأمين العام، "إن أبرز الروايات المتواترة، تلك التي تتحدث عن الرايات السود التي تخرج من خراسان... ويعمل قائدها الأعلى وكل قادتها تحت لواء إمام الزمان... ]و[ إنَّ مسيرة إيران من انطلاقة الإمام المقدس الخميني... وقيادة ]مرشد الثورة الإيرانية علي[ الخامنئي... وتضحيات الشعب الإيراني، وثباته على الإسلام والحق، يجعل التماهي كبيراً جداً بين إيران وما ورد من روايات".
ولا يكتفي حزب الله بإشعار محازبيه ومناصريه بأنهم يؤيدون سلطةً مرتبطة بظهور إمامهم المنتظر، بل يشعرهم بأنهم جزء من هذه العملية عبر فكرة "التمهيد" للظهور أو "تهيئة" الظهور في تعبير آخر مستخدَم. "علينا أن نعمل على تهيئة العالم لظهور الإمام المهدي الموعود- سلام الله عليه"، كما قال الخميني في الجزء 21 من كتابه "صحيفة الإمام… تراث الإمام الخميني".
شعائر دينية وسياسية
لا يحرص حزب الله على الاستفادة من المناسبات الدينية الشيعية فقط بل يصنعها، ولطالما استخدم إحياء الاحتفالات بها كـ"وسيلة مهمة في بث الخطاب وترسيخه"، وكثُرت المناسبات التي استحدثها و"بلغت نحو ثلاثين احتفالاً سنوياً"، وهي "لم تكن تحظى بهذا النوع من الاهتمام والانتشار قبلِهِ"، بحسب عماد.
أهم تلك المناسبات عاشوراء التي يحيي حزب الله خلالها مجالس يومية في ضواحي بيروت ومختلف المناطق ذات الغلبة السكانية الشيعية، وفي اليوم العاشر منها يحرص على رسم مشهدية شعبية عبر تجمعات ومسيرات ضخمة. ويقول طه إنه "إذا كانت مجالس التعزية تعبّر عن أحد مؤشرات حالة الاستقطاب، فإن اليوم العاشر يغدو بمثابة يوم الفصل في إعلان الولاء. ففيه يظهر التمازج الديني- السياسي لهذه الشعيرة بأوضح تجلياته".
كذلك، يحيي حزب الله بعض المناسبات السياسية المطعّمة بخطاب ديني، وأبرزها "يوم القدس"، وهو مناسبة أطلقها الخميني، وموعدها يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان، ولا يزال النظام الإيراني والقوى المرتبطة به يواظبون على إحيائها.
ولهذه المناسبة أهمية كبيرة لدى محور إيران والجماعات العربية المرتبطة بها، فالثورة الإسلامية الإيرانية رفعت شعار الدفاع عن القضية الفلسطينية، ثم حملته بالتبعية الجماعات المذكورة المؤسَّسة لاحقاً. وكان غرضه الأساسي الاستفادة من التعاطف الشعبي العربي الواسع مع هذه القضية بغية إدخال نفوذ طهران، بشكل ناعم (الخطاب نفسه) أو صلب (الميليشيات التي تحمل هذا الخطاب)، إلى قلب المجتمعات العربية.
في البيوت والحسينيات
وسيلة تواصل لا تقل فعالية عن الجوامع، وأحياناً تبزّها، هي المناسبات الاجتماعية، وعلى رأسها العزاءات. يشارك حزب الله في تلك المناسبات بطريقتين… الأولى تحدث في منزل المتوفى حيث يقف مسؤولوه المحليون بجانب أعضاء الأسرة وقد يسبقونهم في القيام ببعض الترتيبات الضرورية أحياناً، وكثيراً ما يزور نائب المنطقة الأسرة بدون شرط سابق معرفة بها. وعادةً ما تلاقي هذه الأمور استحسان الناس، وينظرون إليها على أنها نوع من الاحترام أو التقدير لـ"الوفاء السياسي".
أما الطريقة الثانية فمكانها الحسينيات في الأسبوعات، حيث يعتلي المنبر غالباً خطيب يتكلّم باسم حزب الله أو يردد صدى خطابه، وقد يكون رجل دين أو رجل سياسة، وكثيراً ما يكون أحد نواب المنطقة، أو أحد المحللين المرتبطين مصلحياً بحزب الله.
في هذه المناسبات يتحدث حزب الله لجمهوره عن الأمور التي يفضّل تجنّب الحديث عنها على المستوى الوطني العام، مثل الحديث الذي بدأ ينشره اعتباراً من عام 2013 بغرض تحفيز الناس على تقبّل مشاركته في الحرب الأهلية السورية. وكان لا بد له من التطرّق إلى الموضوع حينذاك لأنَّ جثامين عناصره الذين بدأوا يسقطون في سوريا كانت تصل إلى القرى.
بجانب نشاطه في المساجد والمناسبات الدينية، لم يترك حزب الله وسيلة للتواصل إلا استخدمها، ومنذ بداياته. فمَن لا يصل إليه بالراديو أو بالتلفزيون يصل إليه بشريط كاسيت أو لوحة إعلانية، "فمن الملصق والصورة، والكتابة على الحائط واللافتة، إلى الكتاب والشريط السينمائي…"
رموز في كل مكان
بجانب نشاطه في المساجد والمناسبات الدينية، لم يترك حزب الله وسيلة للتواصل إلا استخدمها، ومنذ بداياته. فمَن لا يصل إليه بالراديو أو بالتلفزيون يصل إليه بشريط كاسيت أو لوحة إعلانية، "فمن الملصق والصورة، والكتابة على الحائط واللافتة، إلى الكتاب والشريط السينمائي، من غير إغفال الكلام الموقع (اللطمة أو الردة) والبيان والخطبة والدرس والحديث الإذاعي والشريط المصور بكاميرا 8 ملم أو 16 ملم، استعمل الإسلاميون آلات الدعاوة كلها"، يقول شرارة.
ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي راح حزب الله يغرق الفضاء العام برموزه ليتحوّل إلى فقرة يومية في حياة المقيمين في مناطق ذات أغلبية سكانية شيعية. فصار من العادي أن تشكّل اللوحات الإعلانية التي تحمل دعايته السياسية أو صور شهدائه، وصولاً إلى روزنامات وصناديق التبرع الخاصة بمؤسساته المنتشرة تقريباً في كل متجر وفي بعض البيوت الخاصة أيضاً، جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للشيعة.
وإكثار حزب الله من نشر رموزه لا يأتي عن عبث. يعرف أن مَن ينشأ في فضاء عام يعجّ برموزه سينظر إلى هيمنته كشيء من طبائع الأمور في المجتمع الشيعي، لا كشيء سياسي قابل للضمور والتغيّر.
*هذا التقرير جزء من دراسة بعنوان "بين المخاطَبة والتنشِئة... سُبُل حزب الله إلى عقول محبّيه" أُعدّت بالتعاون مع مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.