سُبُل حزب الله إلى قلوب وعقول محبّيه (1/ 3)... إعلام

سُبُل حزب الله إلى قلوب وعقول محبّيه (1/ 3)... إعلام "ببركة صاحب العصر والزمان"

سياسة نحن والتاريخ

الاثنين 28 يوليو 202519 دقيقة للقراءة

في تشبيه يحكي الكثير، يقول مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية روح الله الخميني إنَّ "أهمية المطبوعات مثل أهمية الدماء التي تُراق في الجبهات"، ولا يكتفي بهذا التشبيه بل يضيف أنَّ "تأثير الأقلام أكثر" من تأثير "دماء الشهداء".

كلام الخميني هذا، والموثّق في كتاب "التربية والمجتمع في فكر الإمام الخميني" الصادر عن "جمعية المعارف الإسلامية الثقافية" في بيروت، ليس غريباً إذا وضعناه في سياق منظومته الفكرية ذات الطابع التبشيري التي تنظر إلى وسائل الإعلام كجهاز توجيهي له مهمات مثل "توعية جميع فئات الشعب" و"تربيتهم" و"تخليصهم من التغرّب" و"حمْل نداء الإسلام" و"تهذيب المجتمع" و"نشر الأخلاق الإلهية".

في لبنان، بدأ مَن يسمّيهم الخميني بـ"فِتية حزب الله"، أي المؤمنين بالثورة الإيرانية في أي مكان كانوا، بالعمل والنشاط الجدّي منذ عام 1982، قبل نحو ثلاث سنوات من "الرسالة المفتوحة" التي أعلنوا بها عن أنفسهم كتنظيم سياسي يحمل اسم "حزب الله".

ومنذ البدايات، كان هؤلاء حريصين على إيصال أفكارهم إلى عدد كبير من الناس، نظراً إلى طبيعة حركتهم الناشئة والتبشيرية في ميدانَيْ الدين والسياسة، فساروا على هدى أفكار الخميني، واعين لأهمية وسائل الإعلام العادية.

"المطبوعات" وما بعدها

بعد تجارب عدّة لم يدم كل منها أكثر من بضعة أشهر، صدرت في 18 حزيران/ يونيو 1984 جريدة "العهد"، وكانت أسبوعية تغطي مروحة من المواضيع السياسية والاجتماعية. ومنذ تأسيسها، عمد حزب الله إلى "تأمين وصولها إلى عدد كبير من القراء. فلم تَبقَ مؤسسة، أو مركز له أو مسجد أو مكتبة عامة، إلا وحرص على إيصالها إليها"، بحسب غسان فوزي طه في كتابه "شيعة لبنان… العشيرة، الحزب، الدولة (بعلبك- الهرمل نموذجاً)".

عبر توثيق عملياته العسكرية، مَنَع حزب الله إسرائيل من إنكار خسائرها وأوصل إلى الجمهور الإسرائيلي صوراً تشعره بالضعف، كما نجح في أن يفرض على وسائل الإعلام الإسرائيلية تناول بعض ما ينتجه من مواد إعلامية، ليوصل عبرها جزءاً من خطابه إلى الإسرائيليين

كانت أعداد الجريدة "تُباع عبر توزيعها على المنازل أسبوعياً"، وعمل حزب الله أيضاً على توفيرها في القرى النائية. ففي جرود الهرمل، على سبيل المثال، كانت تُسَلَّم كل أسبوع إلى المسؤول الإعلامي في المنطقة، و"يعمد هذا الأخير إلى توزيعها على الروابط الإعلامية، حيث يوجد في كل قرية مسؤول إعلامي، يعاونه عدد من الأفراد الذين يتولّون توزيعها على الأهالي الراغبين في الاطّلاع على أخبار المقاومة"، يروي طه.

وعوّل حزب الله على جريدته هذه كثيراً في تواصله مع الناس، فجاءت موادُها سهلة وذات طبيعة تعبوية، ويلخّص وضاح شرارة في كتابه "دولة حزب الله… لبنان مجتمعاً إسلامياً" فحواها بأنها "تقول كل أسبوع للمناضل المؤمن، ولأصدقائه وأصحابه وأهله، ما يحسن به أنْ يفكره، وما ينبغي أنْ يعرفه ويقوله ليصح فيه نعت الإسلام".

مع الوقت، ومع تزايد عمليات حزب الله على مواقع عسكرية في جنوب لبنان يحتلها جنود إسرائيليون أو أعضاء في ميليشيا أنطوان لحد المتعاملة معها، صار الطلب على الجريدة أعلى لأن "الفضول" كان يدفع الناس إلى التعرّف على تفاصيل هذه العمليات و"كانت تنفرد الجريدة بنشرها"، ما دفع إلى إصدار المزيد من الأعداد، بحسب طه.

في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر 1999، انتقلت العهد إلى الفضاء الإلكتروني، كما حال معظم المطبوعات، قبل سنتين من مزاوجتها بين اسمَيْ العهد والانتقاد. وبعد بضعة سنوات تحوّلت إلى موقع إخباري يومي سياسي شامل.

بجانب هذه الجريدة، أطلق حزب الله في شباط/ فبراير 1991، "ببركة اسم صاحب العصر والزمان"، مجلة "بقية الله" الشهرية التي تركز على مواضيع ثقافية ودينية مثل "ثقافة الولاية"، "الجهاد" و"الشهادة"، وفيها باب باسم "في رحاب بقية الله"، يختص بـ"معالجة الموضوعات التي ترتبط بصاحب العصر والزمان، ثقافة الانتظار الإيجابي، التمهيد للإمام...".

ولتوسيع دائرة المتأثّرين بموضوعاتها أبعد من قرائها أنفسهم، أعدّ القائمون عليها عام 2014 خطة لتصل إلى الناس وهم في منازلهم وسياراتهم، وجرى "الاتفاق مع القنوات الإعلامية (قناة المنار، إذاعة النور، تلفزيون الصراط، قناة الكوثر) على تخصيص برامج ترويجية عن كل عدد جديد، أو عن بعض مواضيعه، أو إعداد تقارير تغطي محاور ثقافية مفصلية تناولها عددٌ صادر"، بحسب محمد بزي، الموكل بملف العلاقات والتسويق حينذاك.

إضافة إلى ذلك، يشرف حزب الله على عشرات المواقع الإلكترونية، وعام 2017، كانت "وحدة الإعلام الإلكتروني المركزي في حزب الله" تعمل مع نحو مئة موقع، بحسب المسؤول عنها آنذاك حسين رحال.

جزء من إعلام حزب الله المكتوب يُعنى بالأطفال، كما حال "مجلة المهدي" التي انطلقت عام 2003، ولخّص مديرها العام عباس شرارة عام 2014 هدفها بـ"تعليم الأطفال قيم المقاومة"، وكان توزيعها حينذاك يصل إلى 30 ألف نسخة.

وبجانب كل هذه الوسائل الإعلامية المكتوبة، ينشر حزب الله والمؤسسات التابعة له أو الدائرة في فلكه وبعض المراكز الثقافية المرتبطة به، مثل "مركز الإمام الخميني الثقافي" (مركز إيراني تأسّس فرعه اللبناني عام 1991 ويترجم آثار الخميني ومواد أخرى مرتبطة بالثورة الإيرانية)، كتباً وكتيّبات كثيرة، تستهدف العناصر الحزبيين لرفع ثقافتهم "الولائية"، كما افتتاح علاقة "عقائدية" مع جمهور أوسع.

كذلك يوزّع حزب الله نشرات وتقارير خاصّة حصراً على عناصره لإبقاء معلوماتهم بشأن مواقفه محدّثة. أحد الأمثلة نشرة وجدها الجيش الإسرائيلي في لبنان، أثناء عدوان تموز/ يوليو 2006، وكانت مطبوعة على ورق عادي، وتحمل عنوان "التحليل السياسي الأسبوعي"، وتحته ملاحظة أنّه "يوزع على أعضاء المجالس ومسؤولي الأقسام والشعب"، وفي موضع آخر كُتب "للاطّلاع والتلف".

كلام عبر الأثير

تجربة حزب الله مع الإعلام الإذاعي بدأت عام 1983 في بعلبك بتأسيسه محطة حملت اسم "صوت المستضعفين"، وصَفَها أول مَن تولّى إدارتها، الشيخ الراحل خضر طليس، في مقابلة منشورة في العدد 283 من جريدة العهد، بأنها "المتراس الإعلامي الأول للحالة الإسلامية في لبنان".

بجانب تغطيتها أخبار نشاطات حزب الله ودعوتها الناس إلى المشاركة فيها، وبثّها أخبار عملياته العسكرية، كانت هذه الإذاعة تخصّص فترات للإجابة عن الأسئلة الفقهية وتبث برامج دينية و"ساهمت (...) في بلورة الوعي الديني وترسيخه عبر البرامج التي خُصصت لهذا الشأن، على غرار نقل الخطبة الكاملة ليوم الجمعة، التي كانت تقام في مسجد الإمام علي في مدينة بعلبك والتي عكف على أدائها السيد عباس الموسوي حتى بداية التسعينيات، ليحل بعده الوكيل الشرعي للولي الفقيه وعضو شورى الحزب الشيخ محمد يزبك"، ما أوصلها إلى غير القادرين على القدوم إلى مكان إلقائها، في أقصى قرى سلسلتيْ جبال لبنان الشرقية والغربية، بحسب غسان فوزي طه.

وفي بيروت، ظهرت عام 1987 إذاعة "صوت الإيمان"، وكانت تدور في فلك السيد محمد حسين فضل الله، أحد وجوه الحركة الخمينية البارزين قبل انفصاله عنها في بداية تسعينيات القرن الماضي بإعلانه نفسه مرجعية فقهية مستقلة.

وفي 9 أيار/ مايو 1988 أُطلقت إذاعة النور، درّة تاج إعلام حزب الله الإذاعي، وبدأت تدريجياً تستقطب جمهوره وتحلّ مكان الإذاعتين المذكورتيْن أعلاه؛ ولكن بما أنَّ إرسالها لم يكن يغطّي كل لبنان، "بقيت إذاعة المستضعفين تشكل الوسيلة الوحيدة للبث المسموع التابع لحزب الله في منطقة بعلبك- الهرمل" حتى منتصف التسعينيات، يروي طه. وعام 1999، نالت "النور" ترخيصاً رسمياً بعد إعادة تنظيم الإعلام في لبنان، وأقفلت الإذاعتان الآنفتا الذكر لعدم الحصول على ترخيص رسمي.

وحتى الآن، لا تزال "النور" إذاعة مؤثرة فهي رفيقة محبّي حزب الله وكثيرين من المهتمين بالبرامج السياسية في سياراتهم، وتصل رسائلها يومياً بشكل غير اختياري إلى آلاف ركاب سيارات التاكسي.

انظر واسمع

في الرابع من حزيران/ يونيو 1991، تأسّست قناة المنار على أيدي "عدد من تلامذة وعشاق الإمام الخميني"، في الذكرى السنوية الثانية لرحيله. وهَدَفها، بحسب مديرها العام الأول علي ضاهر، تحقيق أمرين: "وقف أو تخفيف الانحراف الحاصل في المجتمع، وإيجاد منبر للمقاومة يطلّ على الناس من باب أوسع" (جريدة العهد، العدد 659).

قبلها عرف حزب الله تجربة تلفزيونية متواضعة حين أنشأ عام 1987 في البقاع قناة سمّاها "الفجر"، كانت "تبث صوراً لآية الله الخميني وخطب الجمعة للعلامة محمد حسين فضل الله، وتقارير عن عمليات عسكرية للحرس الثوري الإيراني إضافة إلى أناشيد ثورية عربية وإيرانية" (جريدة السفير، العدد 4797).

نجحت "المنار" في التحوّل إلى أيقونة إعلام حزب الله. فإلى تشكيلها منصة لمواقف قادته، وكونها وسيلة يعرض عبرها الأخبار من وجهة نظره، وبالإضافة إلى ما كانت تبثه من برامج دينية وسير "الشهداء" و"كليبات" دعائية ينتجها إعلام هذا الحزب الحربي، كان من أهم ما تبثه مشاهد من عملياته العسكرية.

اشتهر حزب الله في حربه الإعلامية والنفسية على إسرائيل بقدرته على تضخيم أثر الفعل الذي يقوم به، في ما يُعرف بـ"الدعاية العملية" (Propaganda of the Deed).

كانت هذه المشاهد التي ينتجها إعلام حزب الله الحربي تُظهر "الكثير من قدرات المقاومة الفنية والأمنية"، فضلاً عمّا كانت تبثه من روح معنوية لأفراد حزب الله ومؤيديه"، بحسب طه. واحد من أشهرها هو فيديو اقتحام أربعة من عناصر حزب الله لموقع الدبشة، وهو موقع سابق لقوات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة النبطية، في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1994، وقَتْل وجرح عدد من الجنود فيه، ورَفْع راية الحزب عليه. وكان ذلك أول فيديو يوثّق وضع حزب الله علمه على موقع للاحتلال الإسرائيلي.

عبر توثيق عملياته العسكرية، مَنَع حزب الله إسرائيل من إنكار خسائرها وأوصل إلى الجمهور الإسرائيلي صوراً تشعره بالضعف، كما نجح في أن يفرض على وسائل الإعلام الإسرائيلية تناول بعض ما ينتجه من مواد إعلامية، ليوصل عبرها جزءاً من خطابه إلى الإسرائيليين.

واشتهر حزب الله في حربه الإعلامية والنفسية على إسرائيل بقدرته على تضخيم أثر الفعل الذي يقوم به، في ما يُعرف بـ"الدعاية العملية" (Propaganda of the Deed). ويُعرّف هذا المصطلح بأنه "عمل عنيف ذو طابع رمزي و/أو شديد، يهدف إلى إحداث أثر أيديولوجي يفوق بكثير الفعل نفسه من حيث الحجم أو النتيجة المباشرة"، وهو ما وصفه أحد مسؤولي حزب الله بقوله: "في الميدان، نُصيب جندياً إسرائيلياً واحداً... لكن شريطاً يُظهره وهو يصرخ طالباً النجدة يؤثِّر في آلاف الإسرائيليين".

يتطلّب هذا الأسلوب أحياناً إخبار نصف الرواية الذي يناسب الراوي فقط، ففي عملية الدبشة الشهيرة مثلاً "ما لم يُذكر في توظيف هذا الحدث هو أنَّ الوحدة التي نفّذت العملية تمَّ طردها في نهاية المطاف" من الموقع.

أسلوب دعائي مشابه يطبّقه حزب الله على جمهوره في قضايا لا علاقة لها بالصراع مع إسرائيل. هذا ما قام به مثلاً عندما أدخل إلى لبنان شاحنات محمّلة بـ"المازوت الإيراني" انطلقت من ميناء بانياس السوري في أواخر عام 2021، حيث أحيا لأجل ذلك مجموعة واسعة من الاحتفالات وأطلق مئات الخطابات والتصريحات، ولكن في النهاية كان أثرها على حياة الناس أقل بكثير من أثرها الإعلامي.

حينذاك، نظّم حزب الله "جدول فعاليات" تضمّن احتفالات شعبية لاستقبال "قافلة" الصهاريج، و"هيّأ قسم الإعلام في الحزب الصوتيات وآلاف الرايات والشعارات"، وكان لافتاً جداً أنَّ صور دخول صهاريج المازوت الإيراني إلى بيروت نشرها "الإعلام الحربي للمقاومة الإسلامية".

حمّل حزب الله في حملته الدعائية التي رافقت "المازوت الإيراني" مسؤولية الانهيار الاقتصادي إلى "حصار دولي" تقف وراءه الولايات المتحدة الأمريكية، وليس سياساته وباقي أفرقاء الحكومات اللبنانية المتعاقبة، ولا حمايته الطبقة السياسية بعد انتفاضة تشرين 2019.

ورغم أنَّ الحزب تراجع عن تهديده باستقدام بواخر إيرانية إلى مرفأ بيروت واضطر بسبب العقوبات المفروضة على طهران أن يحضرها إلى ميناء بانياس في سوريا، ومنه إلى لبنان عبر صهاريج سمّاها "صهاريج كسر الحصار"، فإنَّ رئيس مجلسه التنفيذي الراحل هاشم صفي الدين اعتبر أنَّ "المقاومة الإسلامية اليوم في هذا الموقف كسرت الطوق الذي كان محكماً على لبنان". وكذلك قال أمينه العام الراحل حسن نصر الله إنَّ "‏البواخر التي تحمل مشتقات نفطية إلى الشعب اللبناني" وصلت ضمن "معادلة الردع القائمة في لبنان".

وكثيراً ما يطلق حزب الله تصريحات حادة ضد إسرائيل والولايات المتحدة وغيرها من الدول، ليس بهدف إيصالها إلى مسؤوليها، بل لإسماعها إلى اللبنانيين، وبالأخص إلى مؤيديه من الشيعة، لرفع معنوياتهم، وإشعارهم بأنهم مسنودون بحزب شديد البأس.

هذا الأسلوب ليس جديداً. عام 1996، خلال عدوان نيسان/ أبريل، راحت المنار تبث إعلانات موجّهة إلى سكان المستوطنات في شمال إسرائيل تنذرهم فيها بقصف مناطقهم بصليات من الصواريخ كرد على الإنذارات التي كان الجيش الإسرائيلي يرسلها إلى اللبنانيين. وكان وقع ذلك المعنوي إيجابياً بشدّة عند اللبنانيين، وخاصة الشيعة منهم، على أساس أنه صار هنالك مَن ينتقم لهم مِن استهدافهم، وبنفس الوسيلة. ولكن ما لم تعلمه أكثرية الناس وقتها هو أنَّ أبناء تلك المستوطنات، أٌقله معظمهم، لا يشاهدون قناة المنار.

"تريندات" وشبكات

لحزب الله حضور قوي ومؤثر على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط بسبب كثرة حسابات محازبيه ومؤيديه، بل لقدرته على تنظيم حملات لإشاعة فكرة معيّنة وتحويلها إلى "تريند" وكذلك تنظيم حملات للهجوم على شخصية معيّنة أو دعم أخرى.

كثيراً ما يطلق حزب الله تصريحات حادة ضد إسرائيل والولايات المتحدة وغيرها من الدول، ليس بهدف إيصالها إلى مسؤوليها، بل لإسماعها إلى اللبنانيين، وبالأخص إلى مؤيديه من الشيعة، لرفع معنوياتهم، وإشعارهم بأنهم مسنودون بحزب شديد البأس

ويساعد تحليل الحملة على الكاتب والباحث والناشط السياسي اللبناني الراحل لقمان سليم، مباشرةً بعد انتشار خبر اغتياله في الرابع من شباط/ فبراير 2021، على موقع تويتر (إكس حالياً)، في فهم كيف تعمل الشبكات ذات الصلة.

تعرّض سليم لحملة "كراهية" بعد اغتياله، أدارتها شبكة "تضم 1164 مغرداً ومغردة"، وتتألّف من "مجموعات تتكون من مؤثِّرين رئيسيين يديرون الحديث ومؤيدين يكررون التغريدات أو يؤيدونها عبر التعليقات".

وتبيّن أنَّ بعض حسابات "شبكة الكراهية" هذه "إما مزيفة أو تم إنشاؤها لغرض سياسي محدد"، وأنَّ هنالك 27 مجموعة ضمن هذه الشبكة "تتألف كل واحدة منها من 2 إلى 211 مستخدماً"، بينها شبكات تأثير مركزية تتحلّق حول حسابات أظهرت أكثر من 50 متفاعلاً، وكُثر من أصحاب هذه الحسابات عُرفوا في مناسبات عدة بمشاركتهم في حملات لصالح حزب الله وبعضهم يُعتبرون من وجوهه البارزين في عالم التواصل الاجتماعي.

قبل نحو عقدين، ظهر الحديث عن "جيش حزب الله الإلكتروني" الذي يراوح نشاطه بين حملات لاختراق خوادم عامة إسرائيلية أو غربية، وشنّ حملات إعلامية. وبعض أدوار هذا "الجيش" الإعلامية لا يرتبط بأي حدث له علاقة بلبنان أو بالصراع اللبناني الإسرائيلي، بل يقتصر على "تبييض" وجه إيران، ما دفع البعض إلى وصفه بأنه "مقاول فرعي" sub-contractor لها. ومن الأمثلة على ذلك قيام شبكات مرتبطة بهذا "الجيش" بترداد تعليق السيد حسن نصر الله على مقتل مهسا أميني بأنها "توفيت في حادثة غامضة".

ولا يكتفي "جيش حزب الله الإلكتروني" بما سبق، إذ قام بتدريب "آلاف الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي المدعومين من إيران"، مِن دول عربية مختلفة بينها العراق والسعودية والبحرين وسوريا، بحسب تحقيق نشرته صحيفة "ذا تلغراف" البريطانية عام 2020، "مساعداً في خلق جيوش إلكترونية" في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط.

في إعلام "الآخرين"

يعرف حزب الله كيف يوصل رسالته عبر إعلام الآخرين منذ وقت طويل. يحكي المدير العام السابق لقناة المنار عبد الله قصير قصة تعود إلى عام 1985 حين وقع تفجير ضخم في منطقة بئر العبد، في ضواحي بيروت الجنوبية، لمحاولة اغتيال السيد محمد حسين فضل الله، واتُّهم جهاز المخابرات المركزية الأمريكية بالوقوق وراءه: وقتها "بادر حزب الله فور وقوع الانفجار إلى رفع لافتات في المكان تحمل عبارة ‘صنع في أمريكا’ Made in USA"، واضطرت الصحافة العالمية والمحلية لنشر صور المجزرة، وفي وسطها هذه العبارة، فـ"كانت رسالة حزب الله موجودة داخل هذه الصور".

حزب الله وأخباره دائِما الحضور في وسائل إعلامية غير تابعة له بشكل مركزي، ويبدأ ذلك من قنوات وصحف مقرّبة جداً منه أو مرتبطة به مثل قناة الميادين وصحيفة الأخبار اللبنانية، وقنوات إيرانية مثل فضائية العالم ومجموعة واسعة من القنوات الصغيرة؛ ويصل إلى وجود صحافيين موالين له في عدد كبير من الصحف والقنوات التلفزيونية اللبنانية والعربية، وهؤلاء يعكسون الأفكار التي يريد إيصالها إلى الناس. ومن الدارج في لبنان أنْ توظّف كل صحيفة صحافيين تابعين للأحزاب السياسية الكبرى كي تصل إلى الأخبار الخاصة بها.

وحيث أنّه حزبٌ فاعل في الداخل اللبناني واضطلع طوال سنوات بدور في السياسات الإقليمية، فهو بطبيعة الحال جزء من الأخبار، وبالتالي يحضر في الإعلام غير التابع له عبر تصريحات لقيادييه ونوابه وبيانات يرسلها إلى وسائل الإعلام، أكان بشكل مباشر أو عبر مواضيع تستند إلى ما يقوله.

كذلك يوصل حزب الله أفكاره ورسائله عبر استقبال قنوات غير معادية له مسؤولين فيه أو محللين مقرّبين منه، يزكّيهم للقنوات جهازه الإعلامي فيصيرون معروفين كـ"ممثلين غير مباشرين" له، أو عبر بث قنوات لخطاب أمينه العام، وهي عادة درجت عليها سابقاً وسائل إعلامية لبنانية عدة، وبعض القنوات التلفزيونية العربية أحياناً نظراً إلى المكانة التي كان أمينه العام الراحل حسن نصر الله يحظى بها محلياً وعربياً في بعض الفترات.

كما يستجيب حزب الله لتواصل مراسلي الصحف والقنوات الأجنبية العاملين في لبنان معه، وينسق معهم لزيارات ميدانية لمناطق معيّنة لكتابة مواضيع معيّنة ويسهّل لهم مقابلة مسؤولين فيه. وعادةً لا يمكن لهؤلاء القيام بعملهم هذا إلا إذا التزموا بمجموعة تعليمات صارمة تُعطى لهم، وتقيّد قدرتهم على الحديث مع الناس والتصوير. ويزيد مرافقة عنصر من حزب الله لهم خلال تجوّلهم بين الناس من الحدّ من قدرتهم على الخروج بمواد صحافية متوازنة تُبنى على مقاربات مختلفة عن تلك الخاصة بالحزب.

"انفتاح" للانتشار

في بدايات تجربة حزب الله مع الإعلام، كان يتوجّه بشكل أساسي إلى عناصره والدائرة الصغيرة المحيطة بهم والمرتبطة به عقائدياً بدرجة أو بأخرى، فكان تلفزيون المنار على سبيل المثال "نسخة عن التلفزيون الإيراني من حيث الصور والبرامج والأناشيد التي يبثها"، بحسب وصف مسعود أسد اللهي في كتابه "الإسلاميون في مجتمع تعدّدي… حزب الله في لبنان نموذجاً".

"نقلة نوعية على مستوى العلاقة مع الناس" فرضها اتخاذه قرار المشاركة في الانتخابات النيابية للعام 1992. قبل ذلك كان يحتاج إلى مقاتلين ومراكز قوّة في المناطق الشيعية أكثر من أي شيء آخر، ولكنه منذ تلك اللحظة تنبّه إلى أهمية التقرب من شرائح واسعة من المواطنين لأنه صار يحتاج إلى ناخبين.

لحزب الله حضور قوي ومؤثر على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط بسبب كثرة حسابات محازبيه ومؤيديه، بل لقدرته على تنظيم حملات لإشاعة فكرة معيّنة وتحويلها إلى "تريند" وكذلك تنظيم حملات للهجوم على شخصية معيّنة أو دعم أخرى

"الشباب كانوا منصرفين في السنوات السابقة إلى كل ما يغذّي العمل العسكري، فكانوا بعيدين نسبياً عن الاحتكاك الواسع ببعض شرائح المجتمع في القرى والمدن"، يقول الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم في كتابه "حزب الله… المنهج، التجربة، المستقبل (لبنان ومقاومته في الواجهة)"؛ لكن عندما قرّر الحزب المشاركة في الانتخابات النيابية الأولى بعد انتهاء الحرب الأهلية "رتّب القرار مسؤوليات جديدة وعلاقات مطلوبة، فتمَّ رسم خطط وسياسات عامة وتعيين المسؤولين الذين يحققون هذا الهدف، إضافة إلى التوجيه المركّز بدعوة جميع الأخوة إلى المزيد من الارتباط الشعبي مع الناس".

أفضى هذا التوجه الجديد إلى تخلي حزب الله عن مطلبه بإقامة دولة إسلامية في لبنان، كما تكيّف بطريقة براغماتية مع حقيقة أنَّ المجتمع اللبناني متنوع دينياً ومذهبياً، وذلك على أساس أنه "وبما أن الإرادة العامة للشعب اللبناني ضد إقامة دولة إسلامية، فإنه من غير المحتمل إقامة واحدة".

ثم أتى عام 1996 الذي شهد "عدوان نيسان" الإسرائيلي على لبنان، وحمل معه تغيّراً نوعياً في خطاب حزب الله ومحتوى إعلامه السياسي فـ"طرحت القضايا الوطنية، وكانت المرة الأولى التي يطرح حزب الله نفسه كحزب لبناني وطرح شعارات أخرى مثل 'كلنا مقاومة' و'كلنا للوطن'"، بحسب أسد اللهي.

ونتيجة لهذه السردية الوطنية "حظي الحزب بدعم قوي في لبنان لدرجة أنه لم يجرؤ أي سياسي من أي طائفة على انتقاد تمرده، وكانت الحكومة مستعدة للدفاع عنه أمام الأمم المتحدة". ومنذ ذلك الوقت، راح خطابه الجديد يتمحور حول الوطنية، وقادته "واصلوا تصوير أنفسهم باعتبارهم الوحيدين القادرين على الدفاع عن جنوب لبنان".

وأخذ حزب الله يستثمر في فكرة دفاعه عن لبنان، طالباً من الناس ولاءهم وأصواتهم في الانتخابات مقابل ما يقدّمه من دماء في سبيلهم، وهو ما يلخّصه شعار "يستحق الاختيار من ضحى لأجلي وحرر أرضي وفك أسري" الذي استخدمه في انتخابات 2005 النيابية.

*هذا التقرير جزء من دراسة بعنوان "بين المخاطَبة والتنشِئة... سُبُل حزب الله إلى عقول محبّيه" أُعدّت بالتعاون مع مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image