عاش الشيعة منذ تاريخ نشأتهم في لبنان، صراعات مختلفةً عدة، بدايةً من نشأة الدويلات الشيعية، وصولاً إلى الاعتراف بهم كطائفة مؤسسة ومستقلّة، في 30 كانون الثاني/ يناير 1926، من خلال قرار أصدره حاكم لبنان الكبير هنري دو جوفينيل، رقمه 3503، انتهاءً بالتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل والتعهّد بتطبيق القرار 1701.
في الجزء الأول من هذا الرصد، تناولنا تاريخ الشيعة في لبنان حتى مطلع خمسينيات القرن الماضي. في الجزء الثاني منه، نسرد تنامي هذه الطائفة وحصصها في الدولة على مختلف المستويات، حتى كسبت فائض قوّة، وبات جزءٌ منها أكبر من مشروع لبنان، خاصةً بعد وصول موسى الصدر، الزعيم الإيراني الذي وضع حجر الأساس لهذه السردية، إلى لبنان، وصولاً إلى تأسيس حركة أمل وحزب الله.
ترتيب الزعامات وظهور موسى الصدر
بعد فشل منظمتَي "الطلائع" و"النهضة"، في محاولة احتواء الشيعة الذين كانوا متفرّقين بين الأحزاب الطائفية والعلمانية، وصل السيد موسى الصدر إلى لبنان مطلع عام 1960، وذلك بعد وفاة العلامة الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين، وكان الزعيم الجنوبي أحمد الأسعد وابنه كامل لا يزالان يحظيان بشعبية كبيرة في جبل عامل، وذلك بالتزامن مع التنافس مع آل الزين في النبطية، وكاظم الخليل الشمعوني الهوى في صور، ومع رئيس مجلس النواب في العهد الشمعوني عادل عسيران في منطقة صيدا وجوارها. أما في البقاع، فقد استمرت زعامة آل حمادة ، مع بقاء حضور آل مرتضى وحيدر وسواهما من عشائر البقاع على صعيد ساحل المتن الجنوبي، وفي بيروت ثبّت رشيد بيضون موقعه کمرشح شيعي دائم للنيابة والوزارة.
بدأ السيد موسى الصدر مسيرته في لبنان، في إطار العمل الاجتماعي. وكان الصدر طوال حكم الرئيس فؤاد شهاب، يُعامَل كمواطن من التابعية الإيرانية إلى أن حصل في 24 آذار/ مارس 1964، في آخر سنة من العهد الشهابي، على الجنسية اللبنانية، وكان ذلك كان وقتها نادر الحدوث لشخص غير مسيحي
بدأ السيد موسى الصدر مسيرته في لبنان، في إطار العمل الاجتماعي بإنشاء مجموعة من المؤسسات الهادفة إلى تقديم مساعدات ونشر برامج ثقافية واجتماعية. فقد أسس عام 1960، جمعية "البرّ والإحسان"، و"معهد الدراسات الإسلامية"، ومؤسسة التعليم المهني، ومدرسةً داخليةً خاصةً للبنات باسم "بيت الفتاة". وشارك مع الحركة الاجتماعية في عشرات المشاريع وأنشأ في صور مؤسسةً لإيواء الأيتام وذوي الحالات الاجتماعية الصعبة وتعليمهم، وكذلك مدرسةً فنيَّةً عاليةً للتمريض.
وكان الصدر طوال حكم الرئيس فؤاد شهاب، يُعامَل كمواطن من التابعية الإيرانية إلى أن حصل في 24 آذار/ مارس 1964، في آخر سنة من العهد الشهابي، على الجنسية اللبنانية، وهو أمر كان وقتها نادر الحدوث لشخص غير مسيحي، ليتحرر بعدها من فكرة الغربة عن المجتمع اللبناني. ففي 6 نيسان/ أبريل 1964، باشر التعاون مع الندوة اللبنانية (MIT)، التي أشرفَ عليها ميشال أسمر، في مسألة الحوار الإسلامي-المسيحي، وبدأ بجولات على بلدان عربية وإسلامية وأوروبية وإفريقيّة عدة، مساهماً في المؤتمرات الإسلامية، ومحاضراً ومتفقداً أحوال الجاليات اللبنانية والإسلامية فيها، بحسب ما ورد في كتاب "تاريخ شيعة لبنان من عام 1959 حتى ترسيم الحدود"، الصادر عن أمم للتوثيق.
الصراع بين الأسعد والصدر لحصد المكاسب
يمكننا القول إنه منذ بدء الترويج لسردية المحرومين في الأوساط الشيعية من قبل الزعامات والأحزاب السياسية، استغلّ الصدر هذه السردية، وبدأ باستقطاب الفئات الشعبية الشيعية، وظهرت شعبيته بفعل حركته النشطة دينياً ودنيوياً.
لم تكن حركة الصدر السياسية والاجتماعية، مصدر ارتياح لكامل الأسعد، الزعيم السياسي الأوحد للجنوب، بعد أن كان يحاربه عبر انتخابات الـ1964، فقد ارتاب منه حين شعر بأنه يحاربه عبر الشخصيات الإقطاعية الأخرى المنافسة له كآل الزّين وعسيران. وكان الأسعد، يرى أنّ دور رجل الدين هو أن يكون مراقباً وشاهداً وألا يتدخل في دهاليز السياسة، بينما غريمه له يدٌ في الكبيرة والصغيرة، خصوصاً في الجنوب.
في 15 آب/ أغسطس 1966، كانت أول خطوة للصدر لحصد المكاسب، حيث عقد مؤتمراً صحافياً في دار الصحافة اللبنانية في بيروت، وتلا بياناً تحدّث فيه عن أبعاد الاحتضان الشعبي له، منطلقاً منه لعرض جغرافيا الشيعة في لبنان والاغتراب، رابطاً بين بُعد مناطقهم عن العاصمة و"تخلّفها". وتطرّق في خطابه إلى أوضاع النازحين الشيعة إلى بيروت، وخلوّ القرى من مقومات الحياة الضرورية، لجذب الشيعة إلى صفّه، كذلك عرّج على "مظاهر التخلّف"، والتعبير له، واصلاً إياه بإهمال الحكومات الذي حال دون نيل كفاءات شيعية حقوقها في التوظيف. وعزا الحرمان التربوي إلى عدم الاهتمام بتوفير أعداد كافية من المدرّسين في مناطق الشيعة.
وبحسب الكتاب أعلاه، كان هذا البيان بمثابة الوثيقة الأبرز في مسيرة السيد الصدر حتى ذلك التاريخ، والأساس النظري الاجتماعي السياسي لفكرة الحرمان في لبنان، والتي تطوّرت بعد ذلك في أواسط السبعينيات لتصبح حركة المحرومين. وباتت بُنود البيان/ الوثيقة تتكرّر في المناسبات المختلفة. وكان مطلب إنشاء مجلس مِلّي خاص بالطائفة نابعاً من أنه لم يكن لها أي هيئة شرعيَّة.
ولا بدّ من التذكير بأنه قبل مجيء الصدر، حظي الشيعة بالتعليم بدايةً في العهد العثماني، خاصةً مع إصلاحات خط همايون، ثم في عهد الانتداب الفرنسي مع المرسوم الصادر عام 1930، حيث أعادت السلطات الفرنسية افتتاح مدارس في مختلف المناطق اللبنانية، ومنها مناطق الشيعة، وقد سبقتها الإرساليات والمدارس السلطانية، والدينية الشيعية التي أسسها السيد عبد الحسين شرف، ومنها الجعفرية والعاملية ردّاً على الإرساليات، وبعدها أُنشئت مدارس سنّية (المقاصد الخيرية)، والمدارس التي أنشأتها البعثة الأمريكية في البقاع.
كما أعيد استنهاض الحوزات بخلفية دينية في الستينيات، خصوصاً بعد قيام السيد محمد حسين فضل الله، بعد عودته من العراق عام 1966، بناءً على دَعْوَةٍ الحوزة العلمية، بتأسيس المعهد الشرعي الإسلامي الذي خرّج العديد من الأشخاص الذين صار لهم دور في الحركة الشيعية في لبنان، وكذلك أسس السيد موسى الصدر، عام 1967، معهد الدراسات الإسلامية، إثر جولة قام بها على ثماني دول إفريقية، وقصدها كذلك عـدد مـن الطلاب الأفارقة.
تأسيس المجلس الشيعي الأعلى والتنافس عليه
كانت أولى المطالبات بفكرة تأسيس مجلس شيعي أعلى للطائفة، مطروحةً قبل مجيء الصدر إلى لبنان. يُورد أكرم طليس، في كتابه "عصر الإمام"، أنّ الزعيم الشيعي أحمد الأسعد، عمل في الأربعينيات من القرن الماضي، على الحصول على رخصة لإنشاء جمعية شيعية عامة باسم المجلس الإسلامي الشيعي، وأنَّ النائب البقاعي شفيق مرتضى، تقدّم في الخمسينيات بقانون أمام مجلس النواب لتأسيس مجلس شيعي أعلى، ليحظى به بعد ذلك السيد موسى الصدر.
كانت أولى المطالبات بفكرة تأسيس مجلس شيعي أعلى للطائفة، مطروحةً قبل مجيء الصدر إلى لبنان.
وفي عام 1967، تحديداً في 16 أيار/ مايو، دخل أبناء الطائفة في نادي المؤسسات الشيعية عندما أقرّ البرلمان اللبناني قانون تنظيم شؤون الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان، الذي قدّمه النواب الشيعة حسين الخطيب، موسى الصدر، جعفر شرف الدين، عبد اللطيف الزين، محسن سليم، خضر الحركة، رضا التامر، زبيب فؤاد خليفة، ورياض طه، وذلك "سعياً وراء العدل وإحقاق الحق ورفع التمييز بين الطوائف والظلامات عن جميع المغبونين من المواطنين وطلباً لرفع مستوى الطائفة الإسلاميةِ الشيعية وتعزيز معنوياتها"، حسب ما ورد في أسبابه الموجِبَة، وقد صُدِّق عليه بالإجماع.
وبعد وضوح التوازنات داخل الطائفة، ظهر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إلى الوجود في 18 أيار/ مايو 1969، وتنافست ثلاثُ لوائح في انتخابات الأعضاء المدنيين الـ12 في لجنته التنفيذية، بينما كانت هناك لائحةٌ واحدة من العُلماء برئاسة السيد موسى الصدر. وبلغ عدد أعضاء الهيئة العامة الناخبة 600 شخص يمثلون مختلف القطاعات. وجرت الانتخابات بإشراف صبري حمادة، كونه أعلى مرجع رسمي شيعي ورئيس اللجنة التحضيرية للمجلس الجديد، وبانتهاء تلك الانتخابات اكتملت اللجنة التنفيذية، وكانت تضم العلماء الـ12 الفائزين، والمدنيين الـ12، ونواب الطائفة الـ19.
وفي 22 أيار/ مايو 1969، انتخب المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السيد موسى الصدر رئيساً له بالإجماع، ولم يكن المشروع يحظى بإجماع شيعي دينياً وسياسياً، فقد عارضته مروحةً من الشخصيات بينها الشيخان محمد جواد مغنية وعبد الله نعمة، والسيد محمد حسين فضل الله، بالإضافة إلى المفكّرَين اليساريَين محسن إبراهيم وحبيب صادق، بحسب "تاريخ شيعة لبنان من عام 1959 حتى ترسيم الحدود".
بعد المجلس الشيعي… المجلس الأعلى للجنوب
ومع انتخاب الصدر رئيساً للمجلس الأعلى، راح دور الطائفة يكبر، خصوصاً مع ظهور الكفاح الفلسطيني المسلّح في عهد شارل الحلو، والذي انتقل إلى لبنان بعد نكسة عام 1967، وتوقيع اتفاق القاهرة عام 1969، وكان للشيعة فيه دور مفصلي بل أساس في ما نعيشه في واقعنا اليوم، حيث أضحت مناطق الجنوب اللبناني ساحة نشاط عسكري للمنظمات الفدائية الفلسطينية التي طالتها عمليات إسرائيلية، أفضت إلى نزوح عن المناطق الجنوبية بفعل عدم وجود المقومات اللازمة للصمود، وفقاً للكتاب سابق الذكر.
وردّاً على هذه الخطوة، دعا رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السيد موسى الصدر، إلى إضراب شامل احتجاجاً على إهمال مصير الجنوب، ودعا الزعيم كامل الأسعد، إلى مؤتمرٍ شعبي في النبطية لفرض الحلول الجذرية انطلاقاً من امتناع السلطة عن حماية المواطنين. وعدّ رئيس مجلس النواب صبري حمادة، أنّ العمل الفدائي يجب أن يكون محصوراً ومنسّقاً ولا يضرُّ لبنان، واقترح النائب البقاعي سليم حيدر، تحویل اعتمادات الإنعاش الاقتصادي والتعمير إلى مشاريع دفاعية في الجنوب. وفي 26 أيار/ مايو 1970، أقرّ مجلس النواب مشروع قانون يقضي بتخصيص 30 مليون ليرة لبنانية لتلبية حاجات المنطقة، وتوفير أسباب السلامة والطمأنينة لسكانها على أن يتولى التنفيذ مجلس خاص يُعيّن خلال عشرة أيام، وتردد أنّ رئاسته قد يُعهد بها إلى الصدر نفسه.
وجاء هذا القرار بعد إضراب عام شهده لبنان رفضاً للحوادث في الجنوب، وأُطلق على هذا اليوم، يوم الجنوب. وبفعل الضغط الشعبي والسياسي الكبير، صار للجنوب مجلس يحمل اسمه في 12 حزيران/ يونيو 1970، بعد حصول الشيعة على مجلسهم الملّي، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
من الاحتواء إلى القيادة
جاء تأخّر الشيعة في الحصول على حقوقهم في دولتهم الجديدة "لبنان الكبير"، من تأخّرهم عن الانضمام إلى لبنان، بسبب صراعهم على المشروع العربي والحسابات السياسية لزعمائهم الإقطاعيين، فاختلفوا عن الدروز والمسيحيين في هذه الميزات. هذا التأخير أدى إلى ظهور سردية المحرومية، مع استمرار الصدر في صراعه مع الزعامة الشيعية، حيث ورد في كتاب أصدره المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، بعنوان "سماحة الإمام موسى الصدر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سيرته أفكاره، مواقفه ونضاله"، أنّ فرنجية أنكر على المجلس ورئيسه حقهما القانوني في تعاطي الشؤون العامة، وكان يميل شيعياً إلى حليفه كامل الأسعد.
مقابل ذلك، كان رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، في مختلف نشاطاته، يُركّز على ثلاث نقاط في تصريحاته الصحافية ومؤتمراته، في ظل الوضع في الجنوب خلال الاشتباك الفلسطيني الإسرائيلي، هي الطائفية والأحوال الاقتصادية والاجتماعية للشيعة في لبنان، لكن سرعان ما حوّل خطاباته أواخر عام 1973، للحديث عن الفشل في المطالبة بإنصاف الشيعة في مشاريع التنمية وفي الوظائف العامة، واستمرار الحرمان والإهمال والتمييز الطائفي، وهي تالياً مجموعة إشارات إلى أنَّه انتقل من الاحتواء إلى القيادة في الواقع الشيعي. فأضحى يبدي آراءه في القضايا الداخلية على مختلف اتجاهاتها، بالإضافة إلى الشؤون الخارجية لبعض الدول.
وعلى الصعيد الخارجي، وفي حديث صحافي إلى مجلة "المحرّر"، في 28 كانون الثاني/ يناير 1974، تطرّق إلى الوضع في إيران معتبراً أنَّ علماء الدين هناك، وفي مقدّمهم الإمام روح الله الخميني، "يُحاربون تجاوُزَ الحكام وطغيانهم واستبدادهم"، واصفاً الشيعة بأنَّهم "في طليعة المناضلين ضد الاستعمار والطغيان". وأشار إلى أنّ "الشعب الإيراني يتحسس القضايا العربية كالعرب أنفسهم، ويندفع في سبيل نصرتها".
وفي 11 شباط/ فبراير، أذاع الصدر وثيقةً تتضمّن إعطاء الطائفة حقوقها في الشؤون الوظيفية والإنمائية والحياتية والتربوية والدفاعية، وانطلق في تجييش أبناء طائفته وحَشْدِهم تحت العنوان الوارد في الوثيقة تلك. ففي 17 شباط/ فبراير، وفي ذكرى الإمام زين العابدين في بدنايل، وأمام حشد لم تغِب عنه المظاهر المسلّحة، أعلن أنَّ "الشيعة لن يشكوا ولن يبكوا بعد اليوم، واسمهم ليس المتاولة وهم ثائرون على الطغيان".
وفي ردّ في اليوم نفسه، قال كامل الأسعد، في النادي الحسيني في بلدة حداثا الجنوبية: "بالنسبة إلى المطالب الحياتية والعمرانية، العبرة ليست في التغنّي بالسعي إلى هذه المطالب، وتعداد حقوق الشعب المشروعة، بل في الالتزام بتحقيقها".
ولمحاربة الأسعد، وحصد المكاسب، زار الصدر حافظ الأسد، في دمشق لتلقّي الدعم في مشروع الزعامة، مقابل توسع الأخير في لبنان، ونتج عن ذلك خطاب الصدر في 17 آذار/ مارس 1974، في بعلبك بحضور نواب لائحة صبري حمادة، وتحت ظلال السلاح في ساحة رأس العين. وفي ذكرى الإمام الحسين، أقسَمَ 75 ألف شخص وراء رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، على ميثاق شرف، كما دعا الصدر إلى إقامة مخيمات تدريب في البقاع والجنوب للجنوبيين وإعطائهم سلاحاً، وتعهّد بأن يكون في مقدّمة المتدرّبين، وتخللت الاحتفال هتافات سياسية أبرزها "ليسقط النظام الأسعدي"، في إشارة إلى كامل الأسعد.
بعد ذلك، ظهرت مواقف مؤيّدة وأخرى متوجسة من وجود السلاح، ولعل كمال جنبلاط كان الأكثر دعماً لكلام الصدر، الذي رفع في خطاب عنيف اللهجة في الجامع العمري في صيدا لمناسبة عيد المولد النبوي، شعاره الشهير: "السلاح زينة الرجال، ونحن مع هذا السلاح"، وأضاف: "لن نسكت عن الظلم والمؤامرات وسنحارب الرشوة وابتلاع أموال الناس".
انتصار الصدر على الأسعد
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد كان الجنوب مسرحاً للتنافس بين الصدر وكامل الأسعد، برغم العدوان الإسرائيلي في أعقاب العمليات الفلسطينية، حيث شنّ الأخير عبر حزبه هجوماً على الحكومة عبر بيان من حزبه، وسؤال من نوابه، اعتبر فيهما أنَّ "عدم تصدّي الجيش اللبناني للعدوان ليس له أيّ مبرّر على الإطلاق"، وحمّل الحكومة اللبنانية مسؤوليّة هذا التقصير الوطني الفاضح.
مقابل ذلك، كشَفَ الصدر في احتفال الأوزاعي، عن نيّته تأسيس ميليشيا للدفاع عن لبنان، فيما أعلن نقيب الصحافة رياض طه، قيام "حركة المقاومة اللبنانية"، وسعى الأسعد إلى كسب النقاط من خلال علاقته القوية بالعهد، فحمَلَ إلى رئيس الجمهورية فرنجية مُذكّرةً وضعتها "جبهة الإصلاح الديموقراطي" (كتلة الأسعد)، طالب فيها بمعالجة الوضع الإنمائي في الجنوب، وإنشاء مدارس بالمساعدات العربية.
وخلافاً للانتخابات السابقة التي وقف فيها الصدر على الحياد، كان له مرشّح يَدْعَمُه في الانتخابات الفرعية في النبطية في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1974، هو رفيق شاهين، في مواجهة كامل علي أحمد، الذي اختاره كامل الأسعد، وعادل الصباح مرشّح الحزب الشيوعي، وموسى شعيب عن حزب البعث. وأتت نتائج الانتخابات كاسحةً لصالح رفيق شاهين، بفارق 5،217 صوتاً عن كامل علي أحمد، حيث عَنْوَنَت صحيفة "النهار" افتتاحيتها: "النبطية تَكْسِر كامل الأسعد، النائب الجديد: انتصارنا انتصار لموسى الصدر". وحُيّد الشيوعيون الذين كان لهم ما يُوازي الألفي صوت.
مع إطلالة سنة 1975، كانت الأمور داخلياً تسير نحو الصراع بين طرفين: أحزاب مسيحيّة يمينيَّة، على رأسها "الكتائب"، تسلّحت بقوة الجيش اللبناني، وأخرى في "الحركة الوطنيَّة" مدعومةً بسلاح الفلسطينيين
وبذلك أُقفل عام 1974، شيعياً، على بَيْعة مُطلقة للسيد موسى الصدر، كرئيس للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، واختراق منه لمنطقة نفوذ كامل الأسعد، وإطلاق كيان جديدٍ له يجمع بين حركة ومحرومين.
انخراط الشيعة في الحرب الأهلية... تأسيس حركة أمل
مع إطلالة سنة 1975، كانت الأمور داخلياً تسير نحو الصراع بين طرفين: أحزاب مسيحيّة يمينيَّة، على رأسها "الكتائب"، تسلّحت بقوة الجيش اللبناني، وأخرى في "الحركة الوطنيَّة" مدعومةً بسلاح الفلسطينيين. وفي 13 نيسان/ أبريل من العام نفسه، وقعت حادثة عين الرمانة التي أطلقت شرارة الحرب الأهلية.
في الأيام الأولى لاندلاع الحرب، تحرّك رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى مع البطريرك الماروني بطرس خريش، لتطويق ذيول الحوادث وحصرها، فالتَقَيا رئيس الجمهورية سليمان فرنجية في محاولة لإعادة الهدوء إلى البلاد. كما حوّل الصدر مبنى المجلس الإسلامي الشيعي في الحازمية، إلى مركز لتبادل المخطوفين. ودعا مؤيديه "المحرومين"، إلى "عَدَم التورّط في الصراع المسلح والاكتفاء بالدفاع عن النفس"، مصرّحاً بـ"أنّ سلاحنا لن نُشْهِره في
وجه أبناء الوطن، بل في وجه العدو الصهيوني". كما سارع إلى تأييد التدخل العربي وطليعته السورية.
وكان الموقف الشيعي الرسمي رافضاً للحرب بالمطلق، إذ دعا كامل الأسعد، النواب إلى جلسة لم يكتمل نصابها، وأصدر بياناً استنكر فيه هذا الواقع المؤلم والمعيب، واعتبر "أنّ دماء عربيَّةً تُراقُ على أرض عربية بأيدٍ عربيَّة تجمع بينها وحدة المصير والهدف والمعركة، وهناك إجماع بين النواب على وجوب اتخاذ الحكومة التدابير والإجراءات الكفيلة بوضع حدّ لهذا الواقع".
باب المعارضة الإيرانية نحو لبنان
وبهذا يكون الصدر، قد سيطر على الطائفة الشيعية سياسياً وعسكرياً، تحت غطاء سياسة الاحتواء والمحرومية، وساهم في التركيبة الطائفية في لبنان عبر استقواء الشيعة بتنظيمهم الجديد "حركة أمل"، تحت قيادته، وكانت المهمة الجديدة للصدر تأمين الأموال اللازمة.
ووفقاً لكتاب "تاريخ شيعة لبنان من عام 1959 حتى ترسيم الحدود"، كان من الطبيعي أن تواجه حركة الصدر الشيعي والإيراني الجنسية بالأصل، اتهامات وتلميحات بوجود صلةٍ ما تربطها بدورٍ ما لطهران، وذلك بسبب تاريخية ارتباط الطوائف اللبنانية بالخارج، لكنه أوضح في مقابلة له مع مجلة "الحوادث"، طبيعة علاقته وشيعة لبنان بإيران، بقوله: "إنّ الربط السياسي بين شيعة لبنان وبين أي بلد آخر سيما غیر عربي، هو خطرٌ كبيرٌ بل خطيئة". لكنه، ومنذ بداية السبعينيات، كان قد بدأ يتواصل بقوة مع معارضي الشاه محمد رضا بهلوي، ويُدخِل بعضهم بصورةٍ غير مشروعة إلى لبنان تحت ستارات مدنية. ووصل الأمر لاحقاً، عام 1977، إلى تجريده من جنسيته الإيرانية، بعد أن كان السفير الإيراني في لبنان قد أوقف الحوالات المالية الموجهة إليه.
الشيعة وإنهاء الحرب جنوباً
نظراً إلى عدم وجودهم كطرف أساسي في بداية الحرب الأهلية، سعى الشيعة سياسياً ودينياً وشعبيّاً، إلى تحييد أنفسهم قدر الإمكان عن الانقسام الدائر.
وفي فترة الهدوء النسبي بين أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1975، وحتى 11 آذار/ مارس 1976، وبعد اتصالات داخلية وخارجيَّة، توصل الرئيسان اللبناني فرنجية والسوري الأسد، إلى إعدادِ الوثيقة الدستورية التي تضمنت إصلاحات مقترحةً كصيغة تعايش، وتأكيد العُرف القائم بتوزيع الرئاسات الثلاث، والتي تكرّس رئاسة المجلس النيابي للشيعة، وكذلك توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيّين، والمحافظة على المساواة في وظائف الفئة الأولى.
هذه الوثيقة رفضها كمال جنبلاط والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وقبل بها كلّ من كميل شمعون وبيار الجميل. ولما أيّدها الصدر، وقع تباين واضح في المواقف بينه وبين الفلسطينيين وحلفائهم في "الحركة الوطنيّة". ونتيجة هذا الاختلاف والانفصال عن اليسار، اتجهت حركة "أمل" نحو سوريا في مواجهاتها المحلية ضد الفلسطينيين وحلفائهم الداخليين، خصوصاً الشيوعيين، فكان أنْ دخَلَت الحركة في الجبهة القومية التي تشكلت من القوى السياسيّة الموالية لدمشق.
وجاء هذا الاختلاف خلال اشتداد محنة جنوب لبنان الذي شهد خلال سنوات الحرب اللبنانيّة مواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين أدت في نهاية الأمر إلى حصول أول اجتياح للمنطقة الجنوبية عام 1978، في عملية الليطاني، وكان الهدف منها، بحسب إسرائيل، حماية مناطقها الشمالية من منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي شهر نيسان/ أبريل 1978، رحَلَت القوات الإسرائيلية جزئياً عن لبنان بعدما احتفظت بمنطقة عَرْضها الوسطي 10 كلم مربعة من أرض الجنوب وعلى امتداد الحدود، وكلفت الجنرال سعد حداد، بمراقبة هذه المنطقة، وأعطيت اسم "لبنان الحر". وكان من نتائج هذه العملية إبعاد المقاتلين الفلسطينيين إلى ما وراء نهر الليطاني، كما أنّ القرار 426 المرافق للـ425، دعا إلى تسلّم الدولة اللبنانية مهمات الأمن على كامل أراضيها، ونشر جنودها حتى الحدود الدولية بمساعدة قوات الأمم المتحدة. وقبل مجلس النواب اللبناني بهذين القرارين الدوليين والعمل على تنفيذهما بتولّي الجيش الطريق الساحلي من بيروت إلى الجنوب ومنع المظاهر المسلّحة، قبل أن يتراجع تحت الضغط السوري.
نظراً إلى عدم وجودهم كطرف أساسي في بداية الحرب الأهلية، سعى الشيعة سياسياً ودينياً وشعبيّاً، إلى تحييد أنفسهم قدر الإمكان عن الانقسام الدائر.
وفي عام 1978، اختفى السيد موسى الصدر، بعد رحلته الشهيرة إلى ليبيا، حيث زار ليبيا في 25 آب/ أغسطس 1978، في مَهْمةٍ لم تُعرَف مدتها أو هدفها لعقد اجتماع مع العقيد معمر القذافي، بناءً على دعوة منه وبموجب إشارة خاصة من الرئيس الجزائري هواري بومدين، لما للزعيم الليبي من تأثير على مُجْرَيات الوضع العسكري-السياسي اللبناني. وشُوهِدَ الصدر للمرة الأخيرة، يوم 31 من الشهر ذاته، ولم يُعرف مصيره بعد ذلك، الأمر الذي عكس تأثيرات كبيرةً على مسار الشيعة، كما كان مجيئه إلى لبنان عام 1959 بدايةً لمرحلة جديدة.
من الصدر إلى "ظهور الثورة في إيران" و"ولاية الفقيه"
انعكس ظهور الثورة الإيرانية الإسلامية في إيران بزعامة الخميني، في 11 شباط/ فبراير 1979، وانتهاء زمن الشاه محمد رضا بهلوي، على الطائفة الشيعية في لبنان بشكل كبير، ما عوّض بشكل كبير الفراغ الذي تركه الصدر بتغيّبه، وظهر حزب الله كمشروع لتصدير الثورة الإسلامية في إيران إلى لبنان تحت راية ولاية الفقيه، وكبديل للفصائل الفلسطينية في مواجهة إسرائيل.
في تلك الفترة، كان ياسر عرفات، أول زعيم في العالم يحطّ في مطار الثورة في طهران، مبايعاً الخميني، آتياً من دمشق على متن طائرة سوريَّة خاصة على رأس وفد من منظمة التحرير الفلسطينية.
هذا "الانتصار" انعكس على الطائفة الشيعية في لبنان، حيث قامت تظاهرات حاشدة نظّمتها "اللجان المساندة للحركة الإسلامية في إيران"، في عددٍ من المناطق الشيعية، وتميزت بها منطقة الغبيري، وانطلقت تظاهرة نسائية من مستديرة المطار رفعت رايات دينيةً وصُور الخميني. وكان أول المتكلمين في تلك المظاهرة، الشيخ راغب حرب. كما أحيت المقاومة الفلسطينية والأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية في الشمال، تجمّعاً في طرابلس دعماً للثورة الإيرانية.
ولم تكد تمضي سنة على تسلّمها الحكم، حتى بدأت طلائع المتطوعين الإيرانيين بالوصول إلى لبنان بطريقة غير قانونية، وبرغم رفض الحكومة دخولهم. فقد أعلن محمد منتظري، قائد حملة تطوع الإيرانيين للقتال في الجنوب، في مؤتمر صحافي بتاريخ 1 كانون الثاني/ يناير 1980، عقده في مسجد جامعة بيروت العربية في حضور الأب إبراهيم عياد، عضو المجلس الوطني الفلسطيني، أنّ مجموعةً من المتطوعين الإيرانيين وصلت إلى لبنان. وأضاف: "خطتنا هي إرسال الألوف تلو الألوف من المتطوعين للانضمام إلى أولئك الذين وصلوا". وأكد أنّه دخل لبنان من طريق سوريا، وأنه وجماعته لا يعترفون بقرار الحكومة القاضي بمنعهم، "ولا نرضخ للأحكام الحالية للقانون الدولي لأنّه وُضع لخدمة المصالح الاستعمارية".
ومما سبق، يتأكد أنّ فكرة تصدير الثورة كانت من أولويات النظام الإسلامي الجديد في إيران، وإن على حساب سيادة الدول. وبرغم عدم ذَوَبان "حركة أمل"، في مشروع الإيرانيين بالمطلق، إلا أنهم توجهوا إليها تمويلاً وتسليحاً، ولم يلتفتوا صوب العراق ذي النظام السنّي، ولا نحو سوريا ذات الحكم العلوي. وفضلت الحركة ومعها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، التباين مع الثورة الإسلامية، برغم العناوين المشتركة، ولجأت إلى تبنّي شعارات داخلية متناغمة مع الوجود السوري الداعم لها سياسياً وخدماتياً.
الصدام مع الفصائل الفلسطينية وإنهاؤها
انطلاقاً من عام 1980، ومع توطد العلاقة بينهما بعد وصول نبيه بري إلى رئاسة الحركة، خَلَفاً لحسين الحسيني، بدأت سوريا تدرّب عناصر "حركة أمل" وتسلّحهم. ورسم الزعيم الجديد أحد أهم أهداف الحركة؛ "إقامة علاقات مميزة عسكرياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً، بين سوريا ولبنان"، و"تحديد إسرائيل بوصفها العدوّ الرئيسي".
ومع اشتداد المناوشات والصراعات المسلّحة، عشية الغزو الإسرائيلي للبنان، وجّه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، أول انتقاد علني للفلسطينيين وللحركة الوطنية اللبنانية التي تضمّ قوى يساريةً عديدةً، حين صاغ، وبعباراتٍ قاسية، موقفاً يعبّر عن تصلّب موقف المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ضد ما يحصل، معتبراً أنّ أهل الجنوب يواجهون رصاصاً عربياً، ويهجّرون من بيوتهم من قبل عرب مثلهم، وبلغ الموقف السلبي من الفلسطينيين سوءاً عند الجنوبيين إلى درجة أنَّ قِسْماً منهم استقبل القوات الإسرائيلية التي اجتاحت الجنوب في حزيران/ يونيو 1982، بنثر الأرز عليها.
ومع بداية عام 1982، كان الجميعُ يتوقع مواجهةً جديدةً بين "فتح" وإسرائيل التي كانت تتحين الفرصة المناسبة للانقضاض على غريمها الفلسطيني، وفعلاً جاء الاجتياح الإسرائيلي، تحت اسم عملية "سلامة الجليل"، في 6 حزيران/ يونيو، بعدما اتخذت تل أبيب من محاولة اغتيال سفيرها في لندن شلومو أغروف، من قبل جماعة أبي نضال المنشقّة عن "فتح"، ذريعةً لحربها هذه.
وكانت لمجموعات من "حركة أمل"، مشاركات محدودة في عمليات التصدّي للقوات الإسرائيلية. فنقمة شيعة الجنوب على التجاوزات الفلسطينية عندهم كبَحَتْ حماسَتَهم للمواجهة. وتمكّن الجيش الإسرائيلي من إسقاط مُدن الجنوب واحدةً تلو الأخرى، وتقدّم باتجاه العاصمة عبر الشوف دون مواجهة مقاومة بارزة. وكان لعدم وصول العَوْن الإيراني إلى "حركة أمل"، الأثر الكبير على حماسة الحركة للمواجهة، وباتَ همّ نبيه بري الأول حينذاك، التوفيق بين ردّ تُهمة الخيانة عنه وتخفيف الأذى عن المناطق الشيعية.
البديل… ظهور حزب الله
وفي ظلّ غياب دور منظمة التحرير الفلسطينية، بعد إخراج قواتها من لبنان وتغييب دور الأحزاب والقوى الوطنية، وذلك عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بالإضافة إلى دخول نبيه برّي، في "هيئة الإنقاذ الوطني" التي دعا إليها فيليب حبيب، مع بدايات الاجتياح، برزت تداعيات كبيرة داخل "حركة أمل"، فبدأت الجماعات الراديكالية داخلها، وفيها أعضاء سابقون في حزب الدعوة، بالخروج منها، فانضم جزء من هؤلاء إلى تنظيم "حزب الله"، الذي ظهر عام 1985، على يد مجموعة من رجال الدين وكوادر شيعيّة كحركة إسلامية بـ"خلفية أيديولوجية إيرانية"، وجاءت هذه الولادة للحزب في ظل معارضة طهران خطوة نبيه بري، وعبّرت عن ذلك على لسان سفيرها في بيروت موسى روحاني، الذي عدّ الهيئة مشبوهةً وُلدت برعاية أمريكية، وفقاً لكتاب "تاريخ شيعة لبنان من عام 1959 حتى ترسيم الحدود".
وبحسب الكتاب أعلاه، كانت تلك الأيديولوجيا قائمةً في أحد مكوّناتها على ولاية الفقيه. وتزامن ذلك مع وصول رجال دين وعسكريين إيرانيين، متسلحين بدعم من الخميني، فأقاموا مراكز تدريب دينيةً وعسكريةً. وفي الوقت نفسه، كانت طهران تشجع أعضاء من حزب "الدّعوة"، على الدخول إلى "حركة أمل"، لمواجهة التيار العلماني فيها. وهذا الحزب حلّ نفسه لاحقاً، وانضمّ أعضاء منه إلى حزب الله.
وهكذا بات "حزب الله"، يحوي في صفوفه الخارجين عن منطق وسلوك "حركة أمل"، فانضمّ إليه مندوب الحركة في إيران إبراهيم أمين السيد، وحسين الموسوي الذي أسّس بعد انشقاقه حركة أمل الإسلامية، واتحاد الطلبة المسلمين، والاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين، و"المقاومة المؤمنة"، التي ستحلُّ نفسَها وينضوي معظم أعضائها في "حزب الله"، لذا ينظر البعض إلى "حزب الله" على أنَّه وُلد من رَحِم "حركة أمل". كذلك، لا يمكن إغفال الدور السوري في تسهيل حركة الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع، ورعاية نموّ المجموعات الراديكالية لأجل إيجاد توازن مع "حركة أمل"، "كي لا تتمادى في تأييدها للسلم الأمريكي في لبنان".
ببساطة، إذا كان حرّاس الثورة وقتها يتدفقون بسلاحهم إلى لبنان، فلأنّ حافظ الأسد يتعمّد ذلك، إذ لا أحد يُجبره على السماح لهم بالمرور عبر مطار المزّة السوري ومخيم الزبداني قرب الحدود اللبنانية، ثم مواكبتهم حتى البقاع. فإرسال مقاتلي الحرس الثوري إلى لبنان يندرج في إطار التحالف الإستراتيجي والاقتصادي المعقود بين دمشق وطهران، إثر اندلاع الحرب الإيرانية-العراقية عام 1980، وهكذا كانت الأحداث تتراكم لتفتح الطريق لبروز الحزب الجديد. واستحدَث حزب الله، عام 1989، مركز أمينه العام وانتخب له الشيخ صبحي الطفيلي، كأوّل من يتولاه، وفقاً لكتاب "تاريخ شيعة لبنان من عام 1959 حتى ترسيم الحدود".
المدارس سلاح أيضاً
وبالتزامن مع ظهور حزب الله، شهد التعليم في مدارسه تحولاً كبيراً من حيث الأيديولوجيا والتوجيه، كان على نقيض المدارس الرسمية اللبنانية، فكان الصراع بين الانتماء إلى الدين وولاية الفقيه، والانتماء إلى الوطن لبنان. واعتمد حزب الله بشكل أساسي على ما قدّمته الجمهورية الإسلامية لإنشاء المدارس على الأراضي اللبنانية، إذ قدَّمَت طهران لكل مدرسة ثمن الأرض والبناء للمرحلة الابتدائية، على أن تتكفل المؤسسة مـن خلال التبرعات والهبات بتكملة المدارس حتى المرحلة الثانوية، وحصلت على إجازة بقبض الحقوق الشرعيَّة المالية من المراجع: آية الله السيد علي خامنئي، آية الله الشيخ محمد علي الآراكي، وآية الله السيد علي السيستاني. وقد استمرّت المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم (تابعة لحزب الله)، في افتتاح المدارس في بيروت (بئر حسن عام 1997، صور عام 2000، النبي شيث عام 2001، وبنت جبيل عام 2003).
ويَظهر جليّاً أنَّ المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم، تتبنى اتجاهات محددةً بالمضمون العقائدي، وتنسلخ عن الهوية الوطنية للمجتمع اللبناني في مدارس يطغى التصنيف والتمييز على مسماها، مثل "المهدي"، تيمّناً باسم "بقيَّة الله الأعظم، ليكون مناراً لها ونبراساً لتلامذتها". تزامن ذلك مع تطوير منظومة جاذبة للبرامج والأنشطة التربوية، كما أعدّت المؤسسة 12 كتاباً مع مواردها التطبيقية والرقمية في إطار "إعادة بَلْوَرَة وصياغة المناهج التربوية".
تجدر الملاحظة أنه انطلاقاً من متابعة جمعية التعليم الديني الإسلامي وأدبياتها، تتم عملية تطويع المناسبات وما تحتويه مـن قيم في خدمة مشاريع تربوية بأفق محدود ومُقْتَصر على فئة مُحدّدة، فهي تسوّق لأفكار ومبادئ من خارج الهوية الوطنية اللبنانية والسياق الاجتماعي المحلي، فضلاً عن التركيز على ولاية الفقيه، أي الولاء لوليّ الأمة الخميني، ثم الخامنئي بعد وفاته، بحسب كتاب "شيعة لبنان والتعليم في نشأة نظام تربوي رديف ومآلاته".
وخلال فترة الثمانينيات، تصدرت المشهد المساعدات التي منحتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لـ"تلامذة المستضعفين في لبنان"، ووزعت عبر الصندوق الاجتماعي مساعدة للطالب التابع لـ"التعبئة التربوية" لـ"حزب الله".
في المقابل، كانت هناك مؤسسات تعليمية عدة لـ"حركة أمل"، بعد الحرب الأهلية بالتوازي مع مؤسسات حزب الله، ولكن بأيديولوجيا مختلفة نوعاً ما عن أيديولوجيا حزب الله.
بحسب كتاب "تاريخ شيعة لبنان من عام 1959 حتى ترسيم الحدود"، كان حزب الله يستقوي داخلياً في لبنان بحروبه التي يخوضها مع إسرائيل، حيث كانت هذه الحروب الضامنة للحفاظ على سلاحه داخل الدولة، وقد خاض حروباً وعمليات عدة ضد إسرائيل
تصفية المنافسين وتحقيق الأهداف الإيرانية
خلال الفترة من 1982، عام بروز "حزب الله"، وحتى نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، نفّذ الحزب وجهات مرتبطة به وبإيران، أو على الأقل اتُّهموا بذلك، العديد من الاستهدافات للمصالح الغربية من أمريكية وفرنسية وغيرهما، بالإضافة إلى خطف أجانب. ومما ساهم في توجيه أصابع الاتهام إلى الحزب تأييده العديد من هذه العمليات، برغم عدم تبنّيها رسمياً على صعيد العمليات العسكرية. في 18 نيسان/ أبريل 1983، وقع هجوم انتحاري على السفارة الأمريكيّة في بيروت، وقُتِل 49 موظفاً فيها، وبنتيجته نُقلت البعثة إلى منطقة عَوْكَر شمال العاصمة. وبعد سنوات، أشار الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية تركي الفيصل، إلى أنّ إيران، وعبر "حزب الله"، نفّذت تلك العمليَّة.
ويرى البعض أنّ حزب الله ساهم في تصفية المفكرين اليساريين بتغطية ومساعدة من حافظ الأسد، كحسين مروة، ومهدي عامل، وسهيل طويلة، لإفساح المجال أمامه لاحتكار محاربة إسرائيل تحت رايته والحفاظ على سلاحه داخل الدولة خلافاً لاتفاق الطائف "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني"، التي وُضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان، وذلك بوساطة سورية-سعودية في 30 أيلول/ سبتمبر 1989، في مدينة الطائف، وأقرّها لبنان بقانون بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1989، منهياً الحرب الأهلية اللبنانية، ونتج عنها تسليم الميليشيات اللبنانية كافة سلاحها للدولة.
وبحسب كتاب "تاريخ شيعة لبنان من عام 1959 حتى ترسيم الحدود"، كان حزب الله يستقوي داخلياً في لبنان بحروبه التي يخوضها مع إسرائيل، حيث كانت هذه الحروب الضامنة للحفاظ على سلاحه داخل الدولة، وقد خاض حروباً وعمليات عدة ضد إسرائيل.
وبحلول أواخر العام 1990، توسع دور الحزب سياسياً وعسكرياً، وبدأ بشنّ حرب عصابات ضد الجيش الإسرائيلي في منطقة الشريط الأمني العازل، وبعد عشر سنوات، أي في عام 2000، اتخذت إسرائيل قراراً بسحب قواتها من جنوب لبنان، منهيةً بذلك سيطرتها التي دامت هناك ثمانية عشر عاماً.
استمرّ الصراع بين إسرائيل وحزب الله، على نار هادئة، إلى أن أصبح عام 2006، فارقاً، فكان التصعيد الأهم في ما عُرف بـ"حرب تموز"، واستمرت حينها الحرب بينهما أربعةً وثلاثين يوماً، ولم تنتهِ إلا بالقرار الأممي 1701، وصولاً إلى حرب إسناد غزّة، في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي امتدت إلى لبنان وانتهت بالقضاء على قيادات حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصر الله، وإبعاده إلى شمال نهر الليطاني عبر توقيع القرار 1701.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Zee Hilal -
منذ يومAlso you have ZERO presence on social media or any search I have done. Are you real? Who is the...
Zee Hilal -
منذ يومI was dating a gf who was Irish for 8 years and she was an alcoholic. Seriously why are you...
Zee Hilal -
منذ يومLOVE is the reason we incarnate. Don't blame me because some low income people who are stuck are...
Zee Hilal -
منذ يومYour druze! You should be ashamed of yourself! Oh. Your going to hear about this when we are...
Zee Hilal -
منذ يومDon't blame the druze faith when people don't know what it is. If you want to marry someone like...
Zee Hilal -
منذ يومI'm american druze and it seems like your a full of bullshit, but I empathize with your concerns....