ماذا يحدث حين تنقطع الكهرباء نهائياً عن القاهرة؟

ماذا يحدث حين تنقطع الكهرباء نهائياً عن القاهرة؟

مدونة

الثلاثاء 3 يونيو 202512:22 م

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل واقعٍ أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.

يستيقظ من نومه عند السادسة والنصف صباحاً، كالعادة. يعتمد على ساعته البيولوجية في الاستيقاظ، ربما لأنها أصبحت عادته اليومية حتى في أيام الإجازات. يمرّ على غرفة صغاره، ينادي على سارة ومالك، يتأكد من أنهما قد استيقظا، ثم يدخل إلى الحمام ليقضي حاجته، فيكتشف أنّ المياه مقطوعة، والكهرباء أيضاً. ينتابه ضيق طارئ… يلتقط الكوز الأزرق من أعلى الحوض، يتشطّف سريعاً، ثم يغسل وجهه المجعّد بما تبقّى من المياه، ويخرج فيجد زوجته تفتح الستائر شاكيةً من انقطاع الكهرباء. يخبرها بأنّ المياه أيضاً قد انقطعت، فتعلن عن استيائها منه، وتقول: "قلت لك تخزّن مياه… طنّشت".

تخرج مريم، من غرفتها وقد ارتدت ملابس المدرسة، بينما مالك لا يزال يبحث عن فردة حذائه. تخبره الأمّ بأنها موجودة تحت الكنبة الكبيرة. يسمعان صوت باص المدرسة، بينما تدسّ الأمّ في شنطتهما "السندوتشات" التي أعدّتها بالأمس... أما هو فيبدّل ملابسه في وقت قياسي تجنّباً لتذمّر فاطمة، زوجته.

ينزل مع الأطفال إلى الباص. ينهكه السلّم الذي لم يتعود عليه يوماً. يترك الصغار لـ"ميس" الباص التي تستقبلهما بتحية الصباح ويمضي إلى عمله.

يخرج من الصيدلية ويقف عند بابها، ينظر إلى شارع الهرم الواسع؛ السيارات تكاد تكون منعدمةً، أمامه محطة البنزين فارغة من الزبائن، يتعجّب، فهذا الشارع يطلَق عليه "نهر الحديد"، كنايةً عن كثرة السيارات فيه… فما الذي يحدث؟

لا يجد مواصلات. زحام شديد عند الموقف. يقرر أن يمشي حتى يصل إلى عمله. يدخل الصيدلية فيجد الكهرباء مقطوعةً هناك، والمياه كذلك! يطلب من "الكاشيير" أن يتعامل مع الزبائن بالطريقة القديمة، وأن يدوّن المبيعات في كرّاسة حتى تعود الكهرباء... يخرج من الصيدلية ويقف عند بابها، ينظر إلى شارع الهرم الواسع؛ السيارات تكاد تكون منعدمةً، أمامه محطة البنزين فارغة من الزبائن، يتعجّب، فهذا الشارع يطلَق عليه "نهر الحديد"، كنايةً عن كثرة السيارات فيه… فما الذي يحدث؟ يشعر بالعطش، فيدخل إلى الصيدلية ويفتح الثلاجة الخاصة بالعاملين، يجد نصف زجاجة مياه، فيتجرّعها. تقول الدكتورة إنّ النور مقطوع عندها منذ الأمس، والمياه أيضاً، وإنّ شبكات الإنترنت والهواتف لا تعمل. يستخرج الموبايل من جيبه ليكتشف أنه غير متصل بالشبكة، فيقول لنفسه: ساعاتٍ وتعود الكهرباء، ربما يكون هناك عطل عام تجري معالجته.

تنتهي "ورديّته"، ويعود إلى البيت مشياً، يصعد السلالم، يقابل جاره سامي الذي يعمل مندوباً لإحدي شركات الأجبان والألبان، ويخبره بأنّ الكهرباء مقطوعة عن الجيزة والقاهرة الكبرى، وأنّ المصنع الذي يعمل فيه أُغلق اليوم بسبب تلك الكارثة. يؤكد للجار أنه يُبالغ، فهي مسألة وقت وسيعود كل شيء إلى سابق عهده.

في البيت، تقابله زوجته وهي في قمة غضبها. تقول له إنّ الأولاد تأخّروا كثيراً، وإنّ الباص لم يرجع بهم كالعادة، ولم تستطع أن تتصل به بسبب الشبكات غير المتوافرة، فاضطرت إلى أن تذهب إلى المدرسة، ولم تجد "تاكسي" كي يوصلها ولا سيارات أجرة، وكل هذا بسبب البنزين الذي اختفى من المحطات فجأةً. غير أنّ ربّنا أوقف لها ابن حلال، بعربة "كارو"، أوصلها حتى المدرسة وعاد بها مع الأولاد. تقول بتعجّب وسخرية مريرة: "تخيّل أنا... أنا أركب على ظهر عربة كارو مع الأولاد!".

تخيّل المشهد، فبدا له عبثياً تماماً. تشير ناحية "ترابيزة" السفرة حيث الفاكهة والبطيخ، وتضيف: "لم أجد مياهاً كافيةً في السوبر ماركت، فاشتريت الكثير من البطيخ".

أحسّ بالعطش مرةً أخرى، وسألها إن كان هناك ماء، فقالت له: "المياه على أد العيال، كُلْ بطيخ على بال ما المياه تيجي".

في الليل ظلّت الخدمات مقطوعةً، ففكّر: ماذا لو استمرّ الحال على هذه الشاكلة؟ طرد الفكرة من رأسه وقال لنفسه: "بالتأكيد ستعود الخدمات غداً".

تنتهي "ورديّته"، ويعود إلى البيت مشياً، يصعد السلالم، يقابل جاره سامي الذي يعمل مندوباً لإحدي شركات الأجبان والألبان، ويخبره بأنّ الكهرباء مقطوعة عن الجيزة والقاهرة الكبرى، وأنّ المصنع الذي يعمل فيه أُغلق اليوم بسبب تلك الكارثة.

وجاء الغد ولم تأتِ الخدمات. طلبت منه زوجته أن يأخذ الأولاد بسيارته إلى المدرسة. منذ أن اشترى تلك السيارة وهي مركونة في كراج العمارة، فهو من النوع الذي يحبّ الادّخار والتكديس، ترعرع في أحضان الفقر، تعلّم ودخل كلية الصيدلية، وسافر إلى دول الخليج، حيث ربط على بطنه لسنوات، وعاد محمّلاً بالمال، وأشياء أخرى كدّسها في دولابه، وادّخرها لأيام لم تأتِ أبداً، وربما لن تأتي، وكانت سيارته أهم مدّخراته، فخبّأها في الكراج بعيداً عن الأعين الحاقدة، وقد اعتاد على تنظيفها وغسلها أيام الإجازات، وها هي الضرورة التي تفرض عليه استخدامها.

أمام باب المدرسة المُغلقة وقف مع الأمن. أخبره رجل الأمن بأنّ المدرسة ستُغلق حتى تعود الخدمات، وأنّ مديرية المدرسة فقدت التواصل مع الوزارة نظراً إلى انقطاع شبكات الاتصال.

عاد بالأولاد. تركهما عند مدخل العمارة وذهب إلى عمله. في طريقه إلى العمل قرر أن يمرّ بإدارته الموجودة في منطقة الفسطاط... على كوبري عباس نظر إلى مياه النيل فلم يجد لها أثراً؛ أصبح النيل عبارةً عن ممرّ واسع وعميق تقبع في عمقه حيوانات مختلفة نافقة، وجيفة تأكل منها كلاب وقطط! هنا أدرك خطورة ما تمرّ به البلاد، وأصبحت مشكلة الأعطال بعيدةً تماماً، فالحدث بالتأكيد أعظم من ذلك.

تأكّد من "خاطره" عند الإدارة، حيث أخبره مديره بأنّ الإدارة في حيرة شديدة، وعاجزة عن التصرف تماماً، خاصةً أن وزارة الكهرباء ووزارة المياه والصرف الصحي انتقلتا مع باقي الوزارات إلى مدينة الجنرال الجديدة، وقد حاول أحدهم الوصول إلى هناك ليستطلع الأمر، فعاد مرتجفاً وهو يقول لهم إنّ جنود الجنرال يحيطون بالمدينة، ويفتحون النار على كل من يقترب، وعليه هو أن يغلق الفرع الخاص في شارع الهرم، كما ستُغلَق باقي الفروع حتى إشعار آخر.

لا يشغله فقدان وظيفته بقدر انشغاله بالحالة المستجدّة في البلاد. ذهب إلى الصيدلية وطلب من الجميع العودة إلى بيوتهم، أغلق الفرع، ووضع المفتاح في جيبه وعاد إلى البيت.

يقضي ليلته برفقة زوجته وأولاده في ظلام دامس، الموبايلات فرغت من الشحن، والكشاف كذلك، ولا توجد شموع في المدينة، تجمّعوا جميعاً على فراش واحد، يبدو الخوف سائداً، حاول أن يخفف عن أطفاله بالحكايات الخيالية. غير أنّ الضجيج في الخارج غطّى على صوته؛ كان الناس يكسرون المخازن، وينهبون المحالّ. فكّر في الذهاب إلى قسم الهرم ليطلب منه حماية فرعه. انتظر حتى نام الطفلان، أخذ مسدسه الذي لم يستخدمه قط، وذهب إلى قسم الشرطة. وجد القسم مهجوراً. ليس هناك محتجزون ولا شرطة. بناء مهجور تسكنه الكلاب الضالّة. في طريق العودة، يتحسس مسدسه وهو يرى البلطجية منتشرين في كل مكان، يحطّمون الدكاكين ويستخرجون السلع، ويتقاتلون على المياه والأطعمة. ذكّره المشهد بما جرى يوم جمعة الغضب. تساءل: لمَ لا يتجمع الأهالي لتأسيس لجان شعبية كما فعلوا في الماضي؟ يسخر من سؤاله: كانت اللجان الشعبية من أجل الحفاظ على الوطن... ولكن اليوم، أين الوطن؟ إنهم يتشبثّون بالحياة، إنه قانون البقاء.

وماذا عن بقائه هو وصغاره؟ الأطعمة التي يعتمد عليها في ثلاجته لن تصمد ليومين، بعدها لن يجد ما يسدّ جوع أبنائه.. لمَ اختفى الجنرال بتلك الطريقة؟! لطالما كان يظهر عليهم عبر الشاشة ليطمئن الشعب ويبشّره بالخير الوفير القادم... أين هذا الخير؟ وسمع صوت الأذان يأتي من مكان قريب، لا يعرف إن كان المؤذن -الذي يعتمد على قوة حنجرته- يؤذن لصلاة العشاء أم لصلاة الفجر؟

يدخل "الميضة" فلا يجد مياهاً. عوضاً عن ذلك، يجد أكواماً من الرمل، والقليل من المصلّين يقومون بالتيمّم، فيفعل مثلهم. في المسجد الصغير يقول الشيخ إنّ الله أنزل علينا البلاء بسبب ما كنّا نرتكب من معاصٍ، وإنّ علينا في هذه الحالة أن نعود إليه، ثم رفع ذراعيه ودعا دعاء الاستقساء (دعاء نزول المطر).

لا تستجيب السماء له.

ماذا عن بقائه هو وصغاره؟ الأطعمة التي يعتمد عليها في ثلاجته لن تصمد ليومين، بعدها لن يجد ما يسدّ جوع أبنائه.. لمَ اختفى الجنرال بتلك الطريقة؟! لطالما كان يظهر عليهم عبر الشاشة ليطمئن الشعب ويبشّره بالخير الوفير القادم... أين هذا الخير؟

مالك الصغير يعاني من وجع في البطن، يعرف هو أنه قد يكون بداية الفشل الكلوي. يفكر في الصيدلية وما فيها، حين ينزل على سلالم العمارة يقابله جاره سامي مجدداً. يقول له الجار إنّ ابنته تعاني من المرض أيضاً، ولا يجد لها دواء ولا طبيباً للكشف عليها، وإنّ المياه قد نفدت تماماً من بيته فاضطر إلى أن يشرب من بوله… يقول إنّ ما يجري نتيجة حتمية لسياسات الجنرال التي سهّلت على الدولة المجاورة بناء سدّها، وإنّ الجنرال قد فعل ذلك متعمّداً فـهو اليوم يعيش في داخل مدينته الجديدة، حصنه المنيع بعدما تخلّى عن شعبه.

يتذكر عامل الإدارة وما جرى له بالقرب من المدينة المحصنة، ويتذكر أيضاً سياسات الجنرال في التفريط المستمر بأرض الوطن، وانتهاج سياسة البيع. يؤمن بأنّ الجنرال وجنوده يعيشون اليوم في أمان. ربما يتكفل مفاعل "الضبعة" النووي في توفير الطاقة لهم. يتذكر كذلك نبوءة أشعياء الخاصة بمصر: "وأسلّط على المصريين مولى قاسياً، فيسود ملك عنيف عليهم. هذا ما يقوله الرب القدير... وتنضب مياه النيل وتجفّ الأحواض وتيبس، تنتن القنوات وتتناقص تفرعات النيل وتجفّ، ويتلف القصب والبردي، وتذبل النباتات على ضفة النيل، والحقول والمزروعات كلها تجفّ وكأنها لم تكن مخضرّة". يؤمن بأنّ النبوءة قد تحققت بالفعل. ولكن بهذه السرعة؟!

يقول لجاره: "أنا رايح الصيدلية وهأجيب أدوية من هناك".

يعرض عليه الجار أن يذهب معه بسيارته، وهي سيارة نصف نقل خاصة بالمصنع، فلا يزال فيها القليل من البنزين، فيوافق... يذهبان معاً، يتأملان حال الشوارع المضطربة التي أصبحت مقابر جماعيةً للقتلة والجوعى. يفتح الصيدلية، يفرغها من المحاليل والأطعمة كالسيريلاك والريري، الألبان الجافّة، المقويات، المكملات الغذائية، عسل النحل، والأدوية اللازمة. 

يحمّل "العربية"، ويغطّيها، ثم يقود وهو ممسك بمسدسه في حالة تحفز دائم. يعود إلى شقته الصغيرة بمؤونة ربما تكفي لأشهر عدة.

ينعزل مع أسرته في البيت. يعتاد على ظلام الليل. يقسم محتويات الصيدلية في جدول كبير، يراعي الدقة والتدبير. تمرّ الأيام وهم داخل كهفهم، يمرّ شهر بأكلمه، والأطعمة في تناقص، توشك على الانتهاء.

ينتهي الضجيج في الخارج، يختفي صوت البشر ونباح الكلاب ومواء القطط، وتتزايد الحشرات بشكل رهيب. 

يفكر في أن يأخذ جولةً في الخارج ليستطلع الأمر. 

يخشى من الخارج ومن مواجهة المجهول. 

يفضّل الموت وسط عائلته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image