يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل واقعٍ أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.
1
لنتخيّل واحدنا عالقاً في كابوسٍ لا ينتهي بغير الجنون، إذ يعجز الدماغ هنا عن إلغاء الكابوس في شدّته. ولسوف ينسخ تلف الدماغ هذا عطبه إلى الآخرين فيخلق وباءً، وتتبدّى "الطبيعة البشرية" أضعف من وهنها السابق: كيف يقدر البشر الآن أن يتحكموا في كوابيسهم؟
لأجسادنا آليّات دفاعية تغمينا حين يشتدّ ألما الجسد والذهن، وتوقظنا حين تشتد الكوابيس. تلك هي المحصّنات المضادة لوبائنا المتخيَّل الذي قد يقوّض البشرية كما عهدناها.
نتخيّل هذا الألم المتطرّف في حدّته، إذ نختبر الألم في أخفّ تجليّاته، ذاك أنّ الإحساس بمعاناة الآخر يتأتّى من معاناة الذات. ولا يصحّ في الحسّ الأخلاقي لبعضنا أن نحدّد وحدات قياس للألم، فتصير الإبادة أقسى من المجاعة (إذا ما فرّق بينهما المقارنون)، أو تصير حال المريض النفسي أقلّ وطأةً من حال مريض الجسد، إلى آخر تصنيفات البؤس، فهي جميعها مؤذية وكفى.
نتخيّل هذا الألم المتطرّف في حدّته، إذ نختبر الألم في أخفّ تجليّاته، ذاك أنّ الإحساس بمعاناة الآخر يتأتّى من معاناة الذات. ولا يصحّ في الحسّ الأخلاقي لبعضنا أن نحدّد وحدات قياس للألم، فتصير الإبادة أقسى من المجاعة (إذا ما فرّق بينهما المقارنون)، أو تصير حال المريض النفسي أقلّ وطأةً من حال مريض الجسد، إلى آخر تصنيفات البؤس، فهي جميعها مؤذية وكفى.
2
سألنا أستاذ الإخراج السينمائي في المحاضرة الثانية في السنة الأولى الجامعية عن ماهية الإخراج السينمائي. لم يحضر المحاضرة الأولى سوى القليل من هواة التصوير الفوتوغرافي الذين سمعوا بعض انطباعات المحاضر عن المسألة. كان بين الهواة زميلي الذي لطالما احتضن هجماتي التهكمية بضحكة، وهو الذي يمنحني فرصة المزاح في كل مرة يتفوّه فيها بحماقات لذيذة.
ما هو الإخراج السينمائي؟ نردّ بأجوبة بريئة ومتحذلقة وبأسئلة أيضاً، حالنا حال طلّاب الجامعة في الكوكب. يغشّشني زميلي، قبل أن يأتي دوري، أنّ الإجابة هي أنّ الإخراج "فلفسة". لم أعتمد إجابته، بطبائع الأحوال، وإنما اعتمدتُ منحه لقب "فلفسة" في الأيام التالية، فبات النعت نقيضاً لعادات التنمّر لأنه أحبّ اللقب. على أي حال، أجاب هو بأنّ الإخراج "فلفسة" لأنه سمع في المحاضرة الأولى أنّ الإخراج السينمائي يحوي فلسفة المخرج، وما إلى ذلك من ثوابت أكاديمية عن ماهية السينما في بلدٍ لم يعرف إطلاقاً ماهية السينما.
يخلص المحاضِر إلى أنّ ما يصنع المخرج هو الخيال، بالتشديد على مد الألف (الخيااااال). ومن ذاك راح الطلبة يتخيّلون فيديوهاتهم القصيرة المحمولة على خيالات تتنوع بين الأحلام والواقع كما يرونه، كشباب ليبيين "يعكسون الواقع" كما تقتضي الكلية: البدء بلقطة تأسيسية والتنويع بين الكلوز أب واللقطات المتوسطة والبعيدة، والثيمات شبه الثابتة؛ مشكلات إدمان المخدرات واستفحال "ظاهرة" التسوّل والوحدة الوطنية وما يلازم ذاك من منتجات الفن الهادف.
غالباً ما يولّد التعليم الجيّد ثقافةً تنتقده فتحسّنه فتنتقده... هكذا تتقدم المجتمعات. دور التعليم في توليد الخيال ليس تنظيراً.
3
ثمة اتجاه في الرأي يقول إنّ عصرنا عصرٌ فريد قد تدنو فيه البشرية من الزوال، ولهذا الرأي عقول متّزنة لا تزيغ إلى نظريات المؤامرة، وأبرزها آراء نعوم تشومسكي. على الضفة الأخرى، نتفقّد أحوال منطقتنا الخارجة عن حركة التاريخ، إذ نشتبك مع مآلات التخلّف في عصر لا تجوز فيه المقارنة مع عصور أخرى، فتسارُع "الحركة" أعلاه لا يسمح بالمقارنة، إنما تظلّ منطقتنا خارجةً من التاريخ وليس عنه أو عن حركته.
هل نتحدث عن عقدنا الراهن بصفته عقد العشرينيات، ولا سيما أنه عقد ما بعد كوفيد/ كورونا؟. وماذا نسمّي العقد السابق، كونه عقد "الربيع العربي" وما عاداه؟ الراهن نقيض الخيال، بخيره وشرّه، فهو غامر ولا يسمح بتخيّل وقائع بديلة، كما يرى البعض. بيد أنه يشيع في الخطاب السياسي اصطلاح "غياب الخيال" في سياق انسداد أفق الحلول السياسية في المنطقة.
من هنا يرى ريتشارد جي إيفانز، أنّ مهمة المؤرخ تنبع من الإدراك المتأخر والنظر إلى الوراء. ذاك أنّ المصالح وما أسميه "متلازمة الأجوبة السهلة" يعتريان أغلبية المراقبين، فتنمّ هذه المصالح عن أطروحات متقزّمة تنشأ من عالم يكاد يغدو دوغمائيّاً، أي أن ثمة إجابةً محددةً لكل مشكلات البشر، وفي أحوالنا، إجابة محددة لكل أشكال تخلّفنا.
4
في 1986 قرّرت جماهيرية القذافي إلغاء تعليم اللغة الإنكليزية في مرحلة التعليم الأساسي والجامعي. كان وزير التعليم آنذاك أحمد إبراهيم، الذي بات مبرّراً للقرار حتى قبيل انتفاضة 2011. لم يدُم الإلغاء أكثر من عقدٍ، طبعاً. ولئن صار انتقاد القذافي من ضروب المتخيَّل، فقد أصبح الوزير أيقونة التجهيل لعقودٍ وشاع بين الناس لقب "أحمد البهيم". هذا مثال على نقيض الخيال في ليبيا التي شهدت ثمانينيّاتها أبشع تجليّات الفكر الجماهيري في استئصاله المعارضة والصناعة والثقافة، بالعطف على اشتداد الحرب مع تشاد والعزلة الدولية.
غالباً ما يولّد التعليم الجيّد ثقافةً تنتقده فتحسّنه فتنتقده... هكذا تتقدم المجتمعات. دور التعليم في توليد الخيال ليس تنظيراً. عادةً أسمع أنّ النظام التعليمي في ليبيا كان في أحسن حالاته في الثمانينيّات، في ظلال البشاعة المذكورة، وكأنها نسخة مشوَّهة لحركة "المئة زهرة" التي شهدت انفتاح الصين المسرحي في الخمسينيّات، لتنتهي باعتقال ناشطيها.
ولأنّ آفة حارتنا النسيان، يتخيّل بعض محبّي الحقبة القذافية ما كان سيؤول إليه البلد لو لم تحدث الانتفاضة، إذ أمسى مشروع "ليبيا الغد" عصاً سحريةً إبان تخلي القذافي عن أسلحة الدمار الشامل واحتضانه مطالب القوى العظمى، فأصبحت زهراتنا المئة وعوداً بانتقاد المسؤولين الصغار وبناء الكباري وناطحات السحاب؛ الحلم المعهود في دبي وأخواتها.
ولأنّ آفة حارتنا النسيان، يتخيّل بعض محبّي الحقبة القذافية ما كان سيؤول إليه البلد لو لم تحدث الانتفاضة، إذ أمسى مشروع "ليبيا الغد" عصاً سحريةً إبان تخلي القذافي عن أسلحة الدمار الشامل واحتضانه مطالب القوى العظمى، فأصبحت زهراتنا المئة وعوداً بانتقاد المسؤولين الصغار وبناء الكباري وناطحات السحاب؛ الحلم المعهود في دبي وأخواتها.
5
بالعودة إلى وبائنا المفترَض، تحتدّ المأساة ليبيّاً إذ تكاد الصحة النفسية تنعدم. ينسلخ اليأس عن صورته السابقة (غياب الثقة بالدولة منذ القذافي إلى الراهن)، ويغدو يأساً "متعالياً" يبشّر بقيام الساعة (كل الأحداث الكبرى في العالم هي من علامات الساعة لدى العديد من الليبيين).
على أنّ الجنون يتأتّى أحياناً من رغبة باطنية نستخلص مادتها من هيام قيس بن الملوح، ذاك أنّ بعض الرأي المعاصر ينظّر ويقول إنّ قيساً لا يرغب حقاً في الزواج بليلى، فلذّة الخيال أحلى وقد يُفسِد واقع اللقاء مثاليّات الغزل، فالغزل إذا ما صار مادّياً فنى.
6
بعد مخاض التعليم الأساسي الذي بدأ مع الوالي التركي، محمد أمين باشا، في 1842 في المساجد تعليماً دينيّاً، وُلِدَت أول جامعة في ليبيا في 1955، باسمٍ يعلن عن ولادة دولة "الجامعة الليبية" في بنغازي. كان ذلك في أعقاب الإمارة السنوسية التي أنشأت "زوايا" التعليم القرآني بالتوازي مع مجهودات الحاكم العثماني.
في العهد القذافي، بعد التحوير والدمج، صارت "جامعة قاريونس". تحوّل اسم الجامعة بعد انتفاضة شباط/ فبراير 2011 إلى "جامعة بنغازي" ضمن سياسة تغيير أسماء العهد القديم. مثلاً، تحوّلت "جامعة الفاتح"، أكبر جامعات طرابلس، إلى "جامعة طرابلس"؛ فالفاتح تسمية "أيديولوجية" تلتصق بـ"ثورة الفاتح"، أي الانقلاب العسكري ضد المملكة في 1969. أما تغيير اسم قاريونس، فأغلب الظن مرده إلى إعادة الاعتبار إلى مدينة بنغازي التي لطالما همّشها النظام الجماهيري، كما يقال. إنما يبقى حي قاريونس بريئاً من القمع الجماهيري/ القذافي.
بالقرب من الحدود المصرية، ستجدون في خرائط غوغل بلدة "العدم"، ولكم أن تتخيّلوا العدم متجسّداً في قطعة من الأرض، فيدنو من مصر لينتشر وباء آخر يفني الأرض نفسها، معطوفاً على وباء الإنسان الذي سكنها لآلاف السنين. بحثتُ عن سبب التسمية ولم أجد مصدراً عبر غوغل، إذ تخيّلتُ تفسيراً مملّاً يمليه عبث "حركة التاريخ"، كما الحال في العديد من التسميات المستَغرَبة، كأن تتحوّر الكلمة من Adam مثلاً، فالبلدة كانت موقع قاعدة الإنكليز العسكرية في البلد قبل إجلائها في 1970.
سألتُ الكاتب منصور بو شناف، وردّ مشكوراً بأنّ "المنطقه اسمها العظم والصحافة الإنكليزية كتبتها الأدم وترجمها المصريون العدم عن الإنكليز. الغريب أنّ الليبيين نسوا العظم وتبنّوا العدم".
في هذا البلد، أحسبُ أن التعليم هو نقيض الخيال وإن صار نظريّاً مهده، وأنّ الخيال يتأتّى بالسلب من الصحّة، ولا سيّما من الصحّة النفسية، أي أنّ كل من يدعو إلى الخيال "مريض نفسي".
خاتمة
لعلكم استنتجتم بين النصوص الستّة تذبذباً وتقلّباً بين مآلات التخيّل ومادية الواقع في بلدٍ أظنه يتفرّد في تكوينه المخيالي والمادي. في هذا البلد، أحسبُ أن التعليم هو نقيض الخيال وإن صار نظريّاً مهده، وأنّ الخيال يتأتّى بالسلب من الصحّة، ولا سيّما من الصحّة النفسية، أي أنّ كل من يدعو إلى الخيال "مريض نفسي".
في الأحوال جميعها، لا تكتمل عناصر الواقع في نموذج متماسك يسيّر البلد كما يقتضي عصرنا الملتهب، ولا تختمر لَبَنات الخيال المقموعة خلف أسوار السجون و"مستشفيات المجانين"، فتصير واقعاً ظلّيّاً لراهننا المتهالك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.