يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
قد تكون النجاة أهم ما في الدنيا، فالنفس عزيزة وهي تأتي برأيي أولاً، بعد الأرض والعرض. غالباً ما نفكر في النجاة بوصفها فعلاً فردياً مُصمماً ذاتياً لخدمة الفرد أولاً. فليكن، لكن ماذا لو كانت النجاة الجماعية تتحقق في التعاون، فتصبح صيرورة الكل من صيرورة البراعم الصغيرة؟ يحاول هذا النص الكشف عن أهمية التخطيط للمستقبل بكل السيناريوهات المحتملة، مهما كانت صعبةً أو بعيدة المنال، من أجل تحقيق نجاتنا كأفراد وجماعات.
لقد فاجأتني السنوات القليلة الماضية بسرعة التغييرات التي مسّتنا كشعوب وكعالم. فجائحة كورونا، وعلى الرغم من الرعب الكبير والأنفاس الأخيرة التي حصدتها، لم تصمد طويلاً في دائرة المصائب، فتبددت خطورتها مع الوقت، وصار هناك "وِنس" غريب بيننا سمح لنا بالتكيّف معها سريعاً. وفي خضم تأقلمنا مع الحياة في ظلّ كورونا، تعلمنا كشعوب وكمواطنين، حسب قوانين الدول التي نقطنها، أن ننجو منها جسدياً ونفسياً. لم تكن حساباتنا مرتبطةً حصراً بكيفية تدارك مسار الحاضر الجديد والغريب الأطوار الذي كنا نطاوعه جبراً، بل كانت ممتدةً إلى أسئلة مهمة اضطررنا إلى التأمل فيها، ومنها: كيف نعلّم أنفسنا وأولادنا ومساحاتنا المادية والاجتماعية أن تمتد وتتقلص حسب مستجدات الساعة؟ كيف نحمي أنفسنا ونحافظ على استمرارية نموّنا وأمان أسرتنا ومجتمعنا واقتصاده واجتماعياته؟
تغيّرت الأسئلة بعد فترة، وقد انتصرنا على وحش فيروسي، لتنقضّ علينا أنواع أخرى من الوحوش. وحوش سياسية، ووحوش تنهب أموالنا وتهدد أرزاقنا (عن سارقي أموال الشعب أتحدث)، ثم وحوش هدمت منازلنا وقتلت شبّاننا وشابّاتنا تحت عين الشمس، وهي متخفية في أثواب خيّطتها على شاكلتنا، فكان إرهاباً خارجياً داخلياً. ومع ذلك نجونا منه (عن انفجار المرفأ أتحدث)، والآن، ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، نصارع الوحش القديم الجديد الذي برزت له أنياب إلكترونية تنهشنا من هواتفنا وتقنصنا بكبسة زر من مسافات بعيدة، ثم تغسل أيديها منّا، وتقول للعالم إنها ليست وحوشاً، وإنّ من تبيدهم ليسوا من قوم البشر!
لن أسأل كيف ننجو من هذا، وما إذا كنا فعلاً نجونا نفسياً وجماعياً، لأن الإجابة عن ذلك معقدة وبعيدة عن متناولي. لكني أقترح العمل من أجل النجاة الجماعية التي نعرف من التاريخ أنها محققة. يتيح لنا التفكير في المستقبل والتخطيط له، آليةً بدائيةً وبسيطةً، إنما أساسية للعمل الفعلي تجاه تحقيق تلك النجاة.
قدرتنا على تخيّل "كيف سيبدو الغد"، أو ما قد يحدث بناءً على المعطيات الموجودة والمخاطر المحدقة، وتقبّل قدرتنا على التنبؤ (من خلال الحاضر والماضي القريب أو حتى البعيد)، يساعداننا في تحديد الإستراتيجيات الأنسب للمواقف المعقدة التي قد نتعرض لها، حتى الإيجابية منها
استخدام تكنولوجيا المحاكاة للتدرب على النجاة
في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الثانية، أدخلت الشرطة الأميركية تقنيات تخيّل المستقبل إلى ترسانتها الضخمة، لتدريب أفرادها على تحسين قدرتهم على التعامل مع المواقف المعقدة والخطرة. هذه التقنيات تشمل استخدام الواقع الافتراضي (VR)، والمحاكاة الحاسوبية لتدريب الضباط على اتخاذ قرارات سريعة وفعالة في حالات الضغط الشديد. تُستخدم تقنيات الواقع الافتراضي والمحاكاة الحاسوبية لإنشاء بيئات تدريبية تحاكي مواقف واقعيةً يتوقع أن يواجهها الضباط، وقد تشمل مواجهات مسلّحةً، واحتجاز مشتبه بهم، أو إنقاذ رهائن.
تعمل هذه البرامج على مساعدة أفراد الشرطة على اتخاذ قرارات سريعة، بناءً على معطيات المحاكاة، مثل التعامل مع تهديدات محتملة. التفكير في نوع المخاطر، ومصادرها، وقوتها، يضع المتدرب في طور التفكير في حلول للمشكلة قيد البحث، ثم تقييم تلك الحلول والاستقرار على قرار واحد فعّال وسريع ونهائي. بعد ذلك، يحفظ المتدرب ذلك الحلّ، ويربطه بسيناريو المشكلة التي قام بتخيّلها، ليقوم الدماغ باستدراك ذلك الحلّ حين يحضر الخطر المشابه لخطر المشكلة المتخيلة. في الوقت نفسه، يتعلم المتدرب قراءة جسده، وملاحظة علامات القلق واستجاباته للخطر، و"الهجوم في مقابل الهروب".
من النادر جداً أن يكون الخطر متأصلاً في حدث بعينه ينتهي بزوال الحدث، وغالباً ما تكون الأحداث مترابطةً ومتسلسلةً، حتى لو خفي ذلك عن أذهاننا.
نعم… لتخيّل المستقبل وتقبّل القدرة على التنبؤ
قدرتنا على تخيّل "كيف سيبدو الغد"، أو ما قد يحدث بناءً على المعطيات الموجودة والمخاطر المحدقة، وتقبّل قدرتنا على التنبؤ (من خلال الحاضر والماضي القريب أو حتى البعيد)، يساعداننا في تحديد الإستراتيجيات الأنسب للمواقف المعقدة التي قد نتعرض لها، حتى الإيجابية منها. فالتخيّل ناجع في الحالتين، لأنّ لبّ القلق المتأتي من التغييرات التي نعيشها يكمن في عدم قدرتنا على السيطرة على تلك المتغيرات وآثارها على حياتنا، خصوصاً عندما نكون "المفعول به"، وليس الفاعل فيها. هذا القلق قد يتبلور ويصبح أخطاراً أكبر حين لا نستطيع فهم وتحليل ما يحصل حولنا، أو حين تعوزنا الثقة بالفاعل، فنحاول تكهن ماذا يحصل أو ماذا سيحصل لنا، بوجلٍ وترقّبٍ ويأس.
لا يكفي أن نفكر في المشكلات، وأن نجد لها حلولاً ذهنيةً فحسب، بل ينبغي التدريب على مواقف ذات خطوات متعددة. أعني أنه ينبغي النظر في المصائب أو المخاطر المستقبلية ككم متواصل ومتصل ومتسلسل من الأحداث المحتملة وتداعياتها. من النادر جداً أن يكون الخطر متأصلاً في حدث بعينه ينتهي بزوال الحدث، وغالباً ما تكون الأحداث مترابطةً ومتسلسلةً، حتى لو خفي ذلك عن أذهاننا. لذلك، حتى في التدريب، يجب أن نطوّر إستراتيجيات استجابة متعددة الأوجه والخطوات، يمكن تفعيلها في آنٍ واحد. مثلاً، سيتأثر التعليم بشكل كبير ومباشر في حالات الكوارث الطبيعية أو الفيروسية (تخيّل مرضاً جديداً معدياً وخطراً على حياة الإنسان). ماذا ستكون خطط دولة ما أو مجتمع ما في ذلك الظرف؟ ما هي الإستراتيجيات التي نجحت على نطاق واسع، وعلى نطاق ضيّق، وأيّ منها لاقت الفشل؟ هل يمكن تطوير إستراتيجيات جديدة بناءً على كل المعطيات الموجودة اليوم؟ هل حللنا كل المعلومات المتعلقة بالخطر التي جمعناها؟ وما هي الخلاصات التي وصلنا إليها؟ ما هي الموارد المتاحة لنا وما هي أولوياتنا؟ كيف سنحمي الأطفال ونحمي حقهم في التعلم؟… إلخ.
تحفيز التفكير في كيفية تأثير القرارات المتخذة على الجماعة وتأثيرها في المستقبل القريب والبعيد أيضاً يتطلب مرونةً ستساعد على إيجاد الحلول الفعلية حين تقع المشكلات أو الأخطار على أرض الواقع
تحسين مهارات الاتصال ومعضلة "اللغة"
التواصل البنّاء، التهدئة، والتفاوض، خطوات حيوية لمواجهة الكثير من المخاطر والسيناريوهات الجديدة والصعبة. التفاوض هذا، حتى على مشكلات مبنية في الخيال فقط، يحفز العلاقات بين الأفراد المتفاوضين ويؤثر على تقبلهم للآخر ولقيمه التي قد تكون مغايرةً. تحفيز التفكير في كيفية تأثير القرارات المتخذة على الجماعة وتأثيرها في المستقبل القريب والبعيد أيضاً يتطلب مرونةً ستساعد على إيجاد الحلول الفعلية حين تقع المشكلات أو الأخطار على أرض الواقع. ولإتمام خطة النجاة الجماعية، ينبغي العمل على تحسين التواصل الجماعي بين الأفراد في أي بيئة أو ظرف يشهد تهديداً. من خلال التنسيق الجيد، وتبادل المعلومات الحيوية، وتقليل التوتر، وتقوية الروابط بين الأفراد، يمكن للمجموعة زيادة فرصها في التصدي للخطر والبقاء على قيد الحياة. من أجل تخيّل المستقبل، وتخيّل نجاة الجميع، يجب العمل على ورقة واحدة مشتركة يفهم الجميع لغتها.
وهنا يأتي السؤال: هل تكمن مشكلة تخيّل المستقبل في اللغة؟ هل يؤثر قصور اللغة على قصور الخيال؟ وكيف؟ كيف بإمكاننا تخيّل مجتمع تسوده أي قيمة أخلاقية في غياب الكلمة التي تصف تلك القيمة وتحددها وترسمها وتلوّنها وتحييها؟
تقنيات التخيّل في المجال النفسي
نعرف من علم النفس، أنّ تقنيات التخيل فعّالة، وأنّ تصوّر أنفسنا في مواقف حرجة في المستقبل يحسّن من استجاباتنا العقلية والعاطفية الآن وغداً. فمثلاً، هناك العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، والعلاج بالتعرّض، حيث يقوم بعض المعالجين بتوجيه المرضى لتخيّل سيناريوهات مستقبلية بهدف مواجهة المخاوف أو التغلب على القلق. هذا التصور المستقبلي استُخدم أيضاً في مجالات مثل التحفيز الرياضي والنجاح الأكاديمي، حيث يُشجع الأفراد على التخيل الإيجابي للمستقبل من أجل تحفيز أنفسهم على العمل نحو تحقيق أهدافهم.
هل يمكننا إذاً استغلال قدرتنا على التخيّل كأداة نجاة نفسية تقينا كجماعة؟ دعونا نتخيّل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ 3 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته