عن اللون الأبيض الذي ليس أبيض

عن اللون الأبيض الذي ليس أبيض

مدونة

الاثنين 30 يونيو 202510:45 ص

أحبّ اللون الأبيض. بل أحبه كثيراً. 

أحب الشراشف البيضاء، والستائر البيضاء والمناشف البيضاء. 

لكنني لا أحب أن أبدأ الرسم والتلوين على ورقة بيضاء، أو على قماش أبيض. 

قماش اللوحة، أو "الكانفاس"، يكون أبيض ناصعاً بسبب مادة "الجيسو" التي نُؤسس بها "الكانفاس"، كونها تشكّل مادة عزل فتمنع اختراق الألوان للجهة الأخرى من القماش. أنا لا أحب "الكانفاس" البيضاء لذا لا أشتري لوحات مُؤسسة، وإنما أشتري قماشاً لونه سكّري أو أسمر وأؤسّس لوحتي بمادة غراء شفاف فلا أخسر اللون السكري أو الأسمر، ولا أضطر إلى التعامل مع لون "الجيسو" الأبيض، وأبتعد عن الورقة البيضاء مستبدلةً إياها بورق الـ"كرافت" الأسمر. لكنني أحب استخدام اللون الأبيض في لوحاتي. والأبيض لا يكون أبيض أبداً لأنه مجموع مختلف ألوان الطيف المرئي.

اللون الأبيض هو لون ضوء الشمس وليس الأصفر. الجبنة العكاوي التي نأكلها مع البطيخ في الصيف أيضاً لونها أبيض. 

اللون الأبيض هو لون ضوء الشمس وليس الأصفر. الجبنة العكاوي التي نأكلها مع البطيخ في الصيف أيضاً لونها أبيض. 

الثلج لونه أبيض، والقطن والحليب كذلك. كريمات الوجه النهارية والليلية أيضاً لونها أبيض، والغيوم بيضاء.

ولعزل الحرارة يتمّ دهن الأسطح باللون الأبيض كونه يعكس الأشعة، وتالياً يخفف من الحرارة. طلينا سطح منزلنا أكثر من مرة، ما ساعد كثيراً على تجنّب الحرارة المرتفعة ولكنه لم ينهِ المعاناة مع الحرّ. ففي الصيف، يكون الطابق العلوي في منزلنا أشدّ حرارةً من الطابق الأرضي، وفي الشتاء أكثر برودةً.

نصف رمز "اليين" و"اليانغ" لونه أبيض، وهذا الرمز عبارة عن دائرة تنقسم إلى قسمين متداخلين؛ أبيض وهو اليانغ، وأسود وهو اليين، ويمثلان قوتين متضادتين ومتكاملتين في الكون وفق الفلسفة الصينية القديمة والطاوية. والأبيض هو "اليانغ". وتوجد نقطة بيضاء في الجزء الأسود (اليين)، ترمز إلى وجود بذرة "اليانغ" داخل "اليين"، كما توجد نقطة سوداء في الجزء الأبيض (اليانغ)، ترمز إلى وجود بذرة "اليين" داخل "اليانغ". أي لا يوجد شيء كامل البياض أو السواد، فكل شيء يحتوي على نقيضه و"اليين" و"اليانغ" في تحوّل مستمر. 

يطلَق على مجموعة الضجيج أو الأصوات التي تجمع التردّدات كافة التي يستطيع الإنسان سماعها، والواقعة في مجال الطيف التردّدي ما بين 20 إلى 20 ألف هرتز، اسم الضجيج الأبيض. يُستخدم هذا المُسمّى في كثير من التخصّصات العلمية والتقنية والهندسة الصوتية والاتصالات السلكية واللاسلكية والتنبّؤات الإحصائية وغيرها. وتعود تسمية الضجيج الأبيض إلى الضوء الأبيض؛ لأنّه يشبه الضوء الأبيض الذي ينتج من جمع ألوان الطيف.

في الفن الإسلامي، استخدام اللون الأبيض في المساجد (قبّة الصخرة) يرمز إلى الطهارة والنور الإلهي. وفي موسم الحج إلى الكعبة في مكة، يرتدي الحجاج اللون الأبيض. يلفّ الرجال قماشاً أبيض حول أجسادهم دون أن تغطيها بالكامل، عكس النساء. ولا أحسد من يضطر إلى مشاهدة هذا المنظر غير الجذاب على الإطلاق لمئات الرجال من الهيئات والأحجام كافة في المطار في أثناء الرحلة إلى مكة. في إنجيل مرقس ورد وصفٌ لملابس المسيح يفيد بأنّها ساطعة ناصعة البياض كالثلج.

في موسم الحج إلى الكعبة في مكة، يرتدي الحجاج اللون الأبيض. يلفّ الرجال قماشاً أبيض حول أجسادهم دون أن تغطيها بالكامل، عكس النساء. ولا أحسد من يضطر إلى مشاهدة هذا المنظر غير الجذاب على الإطلاق لمئات الرجال من الهيئات والأحجام كافة في المطار في أثناء الرحلة إلى مكة.

الفساتين البيضاء مشكلة على الأقل بالنسبة لي، ليس لأنها في معظم الأحيان تكون شفافةً، بل لأنها تفضح كل العيوب والتضاريس التي لا أودّ أن أظهرها. لدي فستان أبيض ضيق ولكنني لم أرتدِه يوماً. ستسألون "لماذا اشترته؟"، وسأجيب بأنني لم أشترِه بل حصلت عليه كهدية قبل سنتين، ومن حينها أنا محتارة في أمره وأمر عيوب جسمي التي سيبرزها.

ولكن أعوض عن ارتدائه بارتداء عشرات التيشيرتات البيضاء التي أمتلكها. لا شيء أجمل من تيشيرت بيضاء ناصعة لا تشوبها أي كلمة أو حرف أو لوغو. أفكّر في العودة إلى استخدام أقراص "النيل" عند غسل الأبيض للحصول على نصاعة مضاعفة لتيشرتاتي.

في رواية "موبي ديك"، لهيرمان ملفيل، يُصوَّر الحوت الأبيض ليس كمجرد حيوان بحري ضخم، بل كرمز للرعب اللامدرَك والقوة الغامضة التي تتحدى الفهم البشري. يُصوَّر الحوت الأبيض في الرواية على أنه "جبل من الثلج" عملاق ووحشي، حيوان لا يرحم يمتلك قوةً تدميريةً غير عادية، ويصفه الكابتن آهاب بأنه "جدار أبيض دُفع قريباً من وجهي"، ما يوحي بأنه حاجز وجودي أو قوة طبيعية لا يمكن اختراقها، وفي فصل "بياض الحوت"، يتحول اللون الأبيض من رمز للبراءة إلى مصدر للرعب، حيث يصبح "لوناً يثير النفور والرهبة أكثر من الأحمر الدموي".

أغنية White Wedding، لبيللي آيدول، يرتبط الأبيض فيها بالزواج التقليدي والثورة عليه، وغلاف ألبوم The White Album للبيتلز (1968)، لونه أبيض بسيط، وأصبح أيقونةً. الفنان كازيمير ماليفيتش رسم لوحة "المربع الأبيض على خلفية بيضاء" (1918)، وكما نقرأ فإنّ اللوحة ترمز إلى البساطة المطلقة وتحرير الفن من الواقع. لا أفهم كيف سيحرر المربع الفن من الواقع، ولكنني لا أستغرب عدم فهمي. فأنا لا أجهد نفسي في محاولة فهم لوحة فنية، وأكتفي بالاستمتاع بصرياً بها معظم الوقت ويمكن القول إنني أحب هذه اللوحة ومربّعها حتى دون أن يحرّر الفن. 

لدي فستان أبيض ضيق ولكنني لم أرتدِه يوماً. ستسألون "لماذا اشترته؟"، وسأجيب بأنني لم أشترِه بل حصلت عليه كهدية قبل سنتين، ومن حينها أنا محتارة في أمره وأمر عيوب جسمي التي سيبرزها.

في الموسيقى الكلاسيكية تربط مقطوعة "بحيرة البجع" الأبيض بالأناقة والتراجيديا. ووفقاً لكتاب (Color in Motion Pictures (1965، استخدمت هوليوود الكلاسيكية الأبيض لتمييز الشخصيات الخيّرة، بينما خُصصت الألوان الداكنة للأشرار. وفي دراسة لمجلة (Film Quarterly (1972، أنّ 78% من الأفلام الصامتة استُخدمت فيها الثياب البيضاء للبطلات كرمز للنقاء.

في فيلم (The White Ribbon (2009، الشريط الأبيض يرمز إلى البراءة المزيّفة في قرية مليئة بالجرائم. وفي فيلم (The Grand Budapest Hotel (2014، الأبيض يهيمن على ديكور الفندق، كرمز للنظام والجمال الزائف… وفي فيلم (Snowpiercer (2013، الثلج الأبيض يمثّل الوهم الكاذب للخلاص.  

في فيلم (The Wizard of Oz (1939، دوروثي (جودي جارلاند) ترتدي فستاناً أزرق، لكن الساحرة الطيبة "جليندا" تظهر بثوب أبيض لامع. وفي فيلم It's a Wonderful Life (1946)، الشخصية الأنثوية الرئيسية "ماري" تُصوّر دائماً باللون الأبيض كرمز للعطاء.

في السينما المصرية الثياب البيضاء في الأفلام القديمة ترتديها الشخصيات "الطيبة" أو المثالية، ففي فيلم "الوردة البيضاء" (1933)، البطلة فاتن حمامة ترتدي فستاناً أبيض طوال الفيلم لتأكيد طهارتها وأنها ضحية. ولبنى عبد العزيز في دور "أمينة"، تظهر باللون الأبيض في المشاهد التي تُظهر تعاطفها في فيلم "شباب امرأة" (1956). 

وفي الشعر العربي ربط المتنبي الأبيض بالنقاء:

"أبيض القلبِ كالثلجِ لا غِلّ يخالطه

ولا حقد يُكدِّر صفو الضميرِ".

ونزار قباني في قصيدة "أبيض" ربطه ببراءة الأطفال: 

"أبيض كالثلج… أبيض كالحليب

أبيض كالأطفال في أهدابِهم".

وعند بدر شاكر السياب الأبيض يرمز إلى الفراغ في "أنشودة المطر":

"كالصفحةِ البيضاءِ في دفترِ اليتيمِ".

في السينما المصرية الثياب البيضاء في الأفلام القديمة ترتديها الشخصيات "الطيبة" أو المثالية، ففي فيلم "الوردة البيضاء" (1933)، البطلة فاتن حمامة ترتدي فستاناً أبيض طوال الفيلم لتأكيد طهارتها وأنها ضحية. ولبنى عبد العزيز في دور "أمينة"، تظهر باللون الأبيض في المشاهد التي تُظهر تعاطفها في فيلم "شباب امرأة" (1956). 


من الأمثلة البارزة على استخدام اللون الأبيض في الفن المعماري قديماً، نجد المعبد اليوناني "البارثينون". تم بناؤه من الرخام الأبيض، ويحتوي على ثمانية أعمدة. كما يزينه إفريز يحتوي على 378 شخصيةً بشريةً منحوتةً. تمثال أبولو الروماني مثال آخر، يفوق طوله سبعة أقدام واكتُشف في اليونان عام 1489.

شبابيك بيتنا كلها بيضاء وكبيرة، بعضها يغطي كل الحائط ليعطي مساحةً كافيةً كي تطلّ منها الشمس والبحر والغيم وشجر الغاردينيا والياسمين والمانيوليا والزيتون واللوز والجوز والفتنة والجاكارندا والدفلى والزنزلخت والسور الأبيض وشتلات الحبق وأثلام الزعتر، وبيت عمي كمال، وبيت عمي جمال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image