استأذنني بكلمة على جنب، وسألني بنبرة عفوية: "ماذا تتعاطى؟”.
لم يكن السؤال وقحاً بطريقة غريبة، لكنني استنكرتُه بتعابير وجهي قبل أن أجيب: "لا شيء… الحياة، ربما".
لم تكن تلك المرة الأولى التي يُسأل فيها عن سرّ سعادتي “الدائمة”، أو عن طاقتي التي وصفوها بأنها “بتجنن”. وكنت دائماً أجيب بالبساطة نفسها: "الحياة".
لكن في داخلي، لم أكن أراها كما يراها الآخرون. لم أشعر أنني فراشة تحطّ أينما شاءت وسط حقل من الورود. بل على العكس، كلما رسم أحدهم هذه الصورة عني، شعرت بخيبةٍ أعمق.
ثم، ذات يوم، وقعت على مصطلح "smiling depression".
قد يبدو الاسم متناقضاً للوهلة الأولى: كيف يكون الإنسان مكتئباً وضاحكاً في آنٍ واحد؟
لكنه ليس لغزاً نفسياً، بل حقيقة يعيشها كثيرون بصمت، خاصةً في أيامنا هذه، في عالم رقمي نُشارك فيه كل شيء… إلا ما يؤلم فعلاً.
"المكتئب السعيد" هو ذلك الشخص الذي يضحك كثيراً، ويملأ المكان بخفّته. حاضر في كل مناسبة، ومحبوب من الجميع… لا تظهر عليه علامات التعب، لكنه مرهق. يبدو وكأن لا شيء ينقصه… بينما في داخله شيء ما منهار.
من هو المكتئب السعيد؟
هو ذلك الشخص الذي يضحك كثيراً، ويملأ المكان بخفّته. حاضر في كل مناسبة، ومحبوب من الجميع… لا تظهر عليه علامات التعب، لكنه مرهق. يبدو وكأن لا شيء ينقصه… بينما في داخله شيء ما منهار. لا يظهر عليه الاكتئاب، لكنه مكتئب. لا يشتكي، لكنه يتألم.
ربما لا يثق بأنّ أحداً سيفهمه. وربما تعب من شرح نفسه.
من هو المكتئب السعيد حقاً؟
هو شخص يعيش في مشاعر الحزن، الانفصال عن الواقع، والتشتت واليأس، لكنه في المقابل يبدو للناس سعيداً، مرحاً، وطبيعياً تماماً، كي لا يكون سبباً إضافياً لانزعاجهم.
تظهر على هذا الشخص كل علامات “السعادة الظاهرية”: يعمل، يردّ على الرسائل، ينشر الكثير من الصور، ويضحك في الصور والجلسات… لكنه في داخله يبكي من ألم داخلي لا يظهر إلا حين يكون وحده، أو ربما لم تسنح له الفرصة لأن يظهر. وغالباً، هو لا يتعمد إخفاء ما يشعر به، بل يخشى أن يُساء فهمه. يخاف من التقليل من مشاعره، أو من الأحكام السريعة التي يتلقّاها لو تجرّأ على قول: "أنا مش منيح".
كيف يتعامل الناس عادةً مع المكتئبين؟
معظم الناس لا يلاحظون، والبعض يفضّل ألا يلاحظ.
قال لي جار الطفولة مرّةً، بثقة جارحة: "حياتك كلها سفر وضحك وأصحاب، شو ناقصك لتكتئب؟".
كأنّ الحزن حكرٌ على الفقراء، وكأنّ الامتيازات تلغي الألم . فكيف أجرؤ على الحزن؟ بأيّ حق أقول إنني مكتئب؟
وحين أضحك، يُفترض أنني بخير.
وحين أتكلم، يُفترض أنني قوي.
حين تقول إنك مكتئب، يجيبون: "شو صايرلك تا تكتئب؟".
وأحياناً، يتهامس الآخرون: "ماذا ينقصه؟ لديه كل شيء”، كأنّ السعادة مرهونة بالمال أو بالنجاح أو بكمية الأصدقاء.
أو من يقول: "ما بدا هالقد!"، على مبالغة الفرح لفنجان قهوة على الشرفة.
بينما كل ما تفعله، في الحقيقة، محاولة النجاة بطريقة لا تزعج أحداً، وإن بالمبالغة، وبالفرح.
والتطفل قد يأتي على شكل مزاح، أو على شكل نصائح غير مطلوبة، أو حتى كاتهام مبطن بعدم الامتنان.
وهنا، يتحول المكتئب إلى شخص متهم بأنه "درامي” أو "بيتدلّع”، وهذا يزيد عزلته ويدفعه للصمت أكثر فأكثر لأنّ مشاعره وصحته النفسية لم تؤخذ على محمل الجدّ.
قد تقول: "طيب يا فلسفة كيف بدك إيّانا نعامله؟".
كيف نُحسن التعامل مع شخص مكتئب؟ وإن بدا بخير!
من تجربة شخصية وتجارب الكثيرين من حولي.
في الأيام التي لا أجد فيها إجابات، أبحث عن طقوس صغيرة تذكّرني بأنني ما زلت حياً.
رجاءً لا
رجاءً لا… تحكم من الخارج.
ليس كل مبتسم سعيداً. وليس كل صامت حزيناً. علينا أن نتوقف عن ربط الحالة النفسية بالمظهر الخارجي.
رجاءً لا… تسأل "كيفك" عن عادة.
أحياناً سؤال بسيط مثل "عنجد كيفك؟"، يُحدث فرقاً كبيراً. لا تنتظر إجابةً جاهزةً. استمع فحسب.
رجاءً لا… تقدّم نصائح جاهزةً.
أنت لا تملك حلّاً سريعاً لحزن أحد، ولا أحد يطلب منك ذلك. معظم الناس يحتاجون فقط إلى من يسمعهم دون إصدار أحكام.
رجاءً لا… تخترق المساحة الشخصية.
لا تفرض على الآخرين أن يفتحوا أبوابهم، فمنهم من يحتاج وقتاً، ومنهم من لا يستطيع التعبير بالكلام. امنحهم الطمأنينة لا الضغط.
رجاءً لا… تستهن بما يمكنك تقديمه.
وجودك نفسه أحياناً يكفي. لا تحتاج إلى الكلام دائماً. يكفي أن يشعر الآخر بأنّك لن تختفي حين يكون في أسوأ حالاته.
وأشهد أنّ هناك من أنقذوني دون كلام. جلسوا بصمت عندما خفتُ أن أتكلم. صدّقوني حين شككت في نفسي. سامحوا هشاشتي، واحترموا ارتباكي.
محاولات النجاة اليومية
في الأيام التي لا أجد فيها إجابات، أبحث عن طقوس صغيرة تذكّرني بأنني ما زلت حياً.
في روايتي مثلاً، أغسل وجهي أكثر من مرة، وكأنّ الماء سيزيل ما لا يُرى.
أحاول ترتيب سريري، أفتح النافذة، وأسمع الأغنية نفسها عشرات المرات، أو أُعيد قراءة الجملة ذاتها من كتاب دون أن أفهمها.
وهنا أقول لكم جميعاَ، خاصةً أهل منطقتنا الناطقة بالعربية بجميع تنوّعها العرقي أو الإثني والديني:
بعضنا أو كلنا لسنا بخير. ولكننا نحاول. تماماً مثل بلادنا نحاول. برغم كل التاريخ، ما زلنا نحاول.
وهنا أقول لكم جميعاَ، خاصةً أهل منطقتنا الناطقة بالعربية بجميع تنوّعها العرقي أو الإثني والديني: بعضنا أو كلنا لسنا بخير. ولكننا نحاول. تماماً مثل بلادنا نحاول. برغم كل التاريخ، ما زلنا نحاول.
ومحاولاتنا عديدة ومختلفة.
أحياناً نكتب، لا لنعبّر، بل لنرتّب الفوضى في داخلنا.
نكتب جملاً لا نرسلها، ونبدأ رسائل لا نكملها.
نفتح المحادثات، ونغلقها دون سبب، نحدّق في الشاشة طويلاً وكأننا ننتظر أن يُكمل أحدنا الجملة التي عجزنا عنها.
نضع السماعات في آذاننا، لا لنسمع، بل لنخفي الضجيج.
نلبس القميص نفسه الذي شعرنا فيه بالأمان يوماً.
نأكل ما نحب، وننام متأخرين، ونشرب القهوة برغم أننا لا نحتاجها، فقط لأنها تعطينا شعوراً مؤقتاً بأننا نمسك بخيط من الاستمرارية.
نستيقظ متأخرين، نؤجل المكالمات، ونرد على الرسائل بجمل قصيرة.
كل شيء يتحرك ببطء، وكل مهمة صغيرة تبدو وكأنها جبل.
ومع ذلك، نكمل.
النجاة لا تكون دائماً دراميةً.
أحياناً تكون صامتةً، متكررةً، ومرهقةً، لكنها حقيقية.
في كل مرة ننهض من السرير برغم الخوف، في كل مرة نردّ على "كيفك؟” دون أن نكذب تماماً، في كل مرة نختار أن نخرج، أن نتنفس، أن نبقى… نحن ننجو.
قد لا يلاحظ أحد هذه التفاصيل، لكنها محاولات بطولية جداً، لمن يعيشها.
وحين لا نقدر على شيء، يكفي أن نعدّ يوماً جديداً على التقويم، ونقول لأنفسنا: "عدّينا واليوم مرق، كفيت ووفيت".
يسأل المكتئب السعيد نفسه: ما الذي يستحق العيش لأجله؟
هذا سؤال قد يبدو ثقيلاً، لكنه سؤال واقعي يطرحه كثيرون يومياً بصمت.
في هاتفي، ملف صغير في تطبيق الملاحظات بعنوان: "ما يستحق العيش لأجله”.
يسأل المكتئب السعيد نفسه: ما الذي يستحق العيش لأجله؟ هذا سؤال قد يبدو ثقيلاً، لكنه سؤال واقعي يطرحه كثيرون يومياً بصمت. في هاتفي، ملف صغير في تطبيق الملاحظات بعنوان: "ما يستحق العيش لأجله”.
لم أشاركه مع أحد، حتى اليوم الذي زرت فيه صديقتي بعد الولادة، وأعطاني زوجها ابنهما آدم، وقال له بلهجته العربية المكسّرة: "روح لعند خالو".
لم أتخيّل يوماً أن يُقال لي "خالو”، إذ لا أخوات دم لي.
دخلت التطبيق ليلتها، وأضفت في أول السطر:
"آدم".
أحياناً، نحتاج فقط إلى شيء واحد صغير، لنتمسّك به مهما بدا صغيراً… أو كبيراً.
فنجان قهوة مع من أُحب، أغنية تذكّرني بمشاعر حب، طريق مشيت عليه يوماً وضحكت، وصباحٌ بشمس خفيفة، أو زيارة سريعة إلى متحف. وتختلف طرق رؤيتنا إلى ما يستحق العيش لأجله.
وربما تبدو هذه التفاصيل بسيطةً، و"كليشيه"، لكنها كثيراً ما كانت ما تُبقي بعضنا حيّاً.
الحياة لا تكون دائماً ممتلئةً بالأسباب الكبيرة، لكنها تمتلئ باللحظات الصغيرة التي تستحق أن تُعاش.
لا أحد يعرف تماماً ما يمرّ به الآخر.
وقد يكون الشخص الذي يضحك معك اليوم، على وشك الانهيار من الداخل.
فلا تكن سريع الحكم، ولا تسأل بتطفل، ولا تتوقع دائماً إجابات واضحةً. ربما تكون الإجابة بين السطور أو في ما ليس على السطور حتى.
الوجع لا يُقاس بما نراه، ولا يُشفى بالسؤال السريع.
لكننا نستطيع كلنا أن نكون لطفاء، أن نكون حقيقيين، وأن نكون حاضرين دون أن نكون عبئاً.
وإن كنت أنت من يضحك كثيراً ويشعر قليلاً… فقط تذكّر أن ما تشعر به حقيقي، حتى لو لم يفهمه أحد،
وأنّ هناك، في مكان ما، من مرّ بما تمرّ به الآن… ونجا.
وبالعودة إلى السؤال الأوّل…
“ماذا تتعاطى؟”. ربما الحياة، كما قلت.
لكن لو أردنا الدقّة، فالجواب الأصحّ: أتعاطى جرعات منتظمة وموصوفة من "مضاد للاكتئاب”، ممزوجة بآثار جانبية من الديلوجين "delusion”، ومُحلّاة بسكرٍ صناعي اسمه: "إني منيح”.
أحياناً أُفرط في الجرعة. أحياناً أحاول الإقلاع… وأفشل. وأحياناً أضحك فقط لأتذكّر أنني ما زلت أشعر.
"عن جد، ماذا أتعاطى؟”. ممكن وعي! وعي أكثر من اللازم، في عالمٍ يُفضّل أن نبقى غير مبالين. لكن لا بأس…
طالما أستطيع أن أكتب، أن أضحك، أن أعدّ موعد قهوة جديداً على التقويم… فأنا، على طريقتي، أتعافى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.