
لم تكتمل الصورة المثالية التي رُسمت لألمانيا منذ عام 2015؛ كبلد رحّب باللاجئين واللاجئات السوريين/ ات الفارّين/ ات من نظام الأسد، والتي ارتبطت إلى حدّ كبير بفترة تولّي المستشارة أنغيلا ميركل، زعيمة الحزب الديمقراطي المسيحي، التي قادت دفة الحكم في بلادها لمدة 16 عاماً.
خلال فترة حكم ميركل (2005-2021)، استقبلت ألمانيا أكثر من 1.2 مليون طالب لجوء، تحديداً خلال عامَي 2015 و2016، كان من بينهم ما يزيد عن 160 ألف من اللاجئين سوريين في عام 2015 وحده، بحسب بيانات المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين. واعترافاً بهذا الدور، منحت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNCHER)، ميركل "جائزة نانسن للّاجئ" لعام 2022، وذلك تقديراً لسياستها تجاه المهاجرين، خاصةً السوريين منهم.
اليمين مقابل اليمين
لكن مع مرور الوقت، بدأت صورة ألمانيا كبلد منفتح على استقبال اللاجئين تتراجع، خاصةً مع تصاعد الأزمات الداخلية وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي أسفرت عن أزمة اقتصادية متمثلة في انكماش الناتج المحلي الإجمالي، وإغلاق عدد من المصانع وما تبعه من تسريح أعداد كبيرة من العمّال، ما أدى إلى تزايد شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، الذي تبنّى خطاباً مناهضاً للأجانب، ودعا بعض قادته إلى ترحيل اللاجئين، وطرح بعضهم فكرة عزلهم في جزيرة نائية.
عُرفت ألمانيا خلال فترة المستشارة أنغيلا ميركل كنموذج في التعامل الإنساني والبنّاء مع اللاجئين، لكن هذه الصورة بدأت تتوارى تدريجياً مع صعود التيارات اليمينية
تصاعُد شعبية الخطاب اليميني أثبتته نتائج الانتخابات التشريعية الفيدرالية التي جرت في شباط/ فبراير 2025، والتي حقّق فيها حزب البديل (AfD)، فوزاً تاريخياً، إذ أصبح الحزب الثاني في البرلمان الألماني بحصوله على نحو 20.8% من الأصوات.
هذا الفوز الذي وُصف في الصحافة بأنه الأول من نوعه لحزب يميني منذ الحرب العالمية الثانية، أثّر على الخطاب السياسي العام، حيث راح الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU)، بقيادة فريدريش ميرتس، يتماهى مع هذا الخطاب في محاولة لجذب أصوات الناخبين التي اكتسبها حزب البديل.
وخلال حرب الإبادة على غزة، تضاعف الخطاب العدائي تجاه اللاجئين ومن هم من أصول مهاجرة، وظهرت تحولات مقلقة في المزاج السياسي والاجتماعي داخل ألمانيا، تمثلت في اتساع رقعة الخطاب الذي يربط الحراك الشعبي المناهض للإبادة، والذي تشكّل الجاليات العربية والمسلمة المقيمة في ألمانيا جزءاً منه، بمعاداة السامية والتحريض على الإرهاب.
وفي هذا الصدد، عدّ المستشار ميرتس، في مقابلة تلفزيونية أُجريت معه بتاريخ 6 حزيران/ يونيو 2025، أنّ "الهجرة تمثّل عاملاً وراء ارتفاع حالات معاداة السامية في ألمانيا"، مشيراً إلى أنّ موجة الهجرة الكبيرة التي شهدتها البلاد خلال العقد الماضي، أدت إلى ما وصفه بـ"معاداة السامية المستوردة".
وربما كان تصريح وزيرة التعليم الاتحادية، كارين برِين، أشدّ التصريحات وطأةً وأكثرها مباشرةً، فالوزيرة المسؤولة أيضاً عن ملف الأسرة وكبار السنّ والنساء والشباب، وصفت الجالية الفلسطينية المقيمة في برلين بالمتطرّفة: وذلك في إطار مقابلة مسجلّة بثتها صحيفة "بيلد" ذات التوجهات اليمينية على صفحتها على يوتيوب بتاريخ 28 حزيران/ يونيو 2025.
وجاء في تصريح برِين، المتحدّرة من عائلة يهودية والتي تصف نفسها بأنها "وزيرة يهودية": "هناك جالية فلسطينية ضخمة في ألمانيا تبلغ نحو 200 ألف شخص، نمت عبر عقود، بينهم 40 ألفاً في برلين وحدها، وهذا العدد أكبر من عدد اليهود الموجودين في ألمانيا".
ووصفت الوزيرة المنتمية إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، الجالية الفلسطينية بالمتطرّفة قائلةً: "ومن الواضح أنهم متطرفون/ ات إلى حدّ كبير بسبب مجتمعاتهم/ نّ. هذا يزعجني كثيراً… يتعيّن علينا تدريب المدارس بطريقة تمكّنها من وضع المتطرفين/ ات في مكانهم/ نّ المناسب، ضمن حدودهم/ نّ، وعندما يتعلق الأمر بسلوك إجرامي، فيجب الإبلاغ عنه بالطبع".
واستدركت: "في خضمّ هذا كله، لا ينبغي أن ننسى معاناة الفلسطينيين/ ات، فقد تخلّى عنهم/ نّ المجتمع الدولي في كثير من الأحيان. حتى الدول العربية لم تُبدِ اهتماماً دائماً بالقضية الفلسطينية في الماضي".
بدوره، علّق رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في تدوينة على منصة إكس (X) على هذه التصريحات بقوله: "أعربت الوزيرة الألمانية عن قلقها من أن عدد الفلسطينيين في ألمانيا وصل إلى 200،000 شخص، متجاهلةً أنّ العديد منهم لاجئون فرّوا من العنف والمجازر الإسرائيلية. وبدلاً من معالجة قضايا الاندماج، ركّزت في تصريحاتها على حقيقة أنّ عدد الفلسطينيين بات يفوق عدد الأقلية اليهودية، ما صوّرته على أنه تهديد".
عبّرت وزيرة التعليم الألمانية، المنتمية إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، عن انزعاجها من ما وصفته بـ ‘تطرّف‘ الجالية الفلسطينية في برلين
وفي ردّ على استفسار رصيف22، الموُجّه إلى وزارة التعليم الألمانية، عبر البريد الإلكتروني، بشأن تصريحات الوزيرة، أكّد المتحدث باسم الوزارة، دومينيك لينز، أنّ "تصريحات الوزيرة جاءت ضمن مقابلة مطوّلة تضمّنت أيضاً مواقف أخرى؛ ففي المقابلة نفسها، دعت الوزيرة إلى ضرورة فهم المنظور الفلسطيني في ما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط. كما شدّدت مراراً وتكراراً على رفضها الواضح لأيّ شكل من أشكال كراهية البشر الموجّهة ضد فئة بعينها".
وأشار المتحدث إلى خطاب الوزيرة أمام البوندستاغ (البرلمان) الألماني، بتاريخ 15 أيار/ مايو الماضي، حين قالت: "لا تنجح الديمقراطية إلا إذا سعى الديمقراطيون/ ات إلى الحوار، وإلى إيجاد أرضية مشتركة. لكنني أقول أيضاً بكل وضوح: لن يتحقّق ذلك إلا إذا أعلننا الحرب على جميع أشكال معاداة السامية، والتطرّف اليميني، والإسلاموية، والتطرّف اليساري. وينطبق ذلك أيضاً على كل أشكال كراهية البشر الموجّهة ضد فئة معيّنة، وكراهية الأجانب، وازدراء المرأة، والتمييز ضد الأقليات، بكل ما يترتب على ذلك من تبعات".
زلّة لسان
لكن تصريحات برٍين، لم تأتِ بمعزل تام عن السياسة الرسمية للحكومة الحالية، إذ تجلّى هذا الانحياز أيضاً على المستوى العملي، حيث كثّفت دعمها العسكري لإسرائيل، إذ صدّرت الحكومة الألمانية أسلحةً ومعدّات عسكريةً إلى إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بقيمة 485 مليون يورو، شملت طائرات من دون طيار، قذائف دبابات، وذخائر ثقيلةً. وبرغم الانتقادات الحقوقية، لم تتوقف الحكومة عن تمرير صفقات السلاح إلا لفترة مؤقتة خلال النصف الأول من 2024، بسبب إشكال قانوني.
كما تمثّل الدعم السياسي غير المشروط في تبنّي ألمانيا مبدأ "Staatsräson"، والذي يعني عقل الدولة ومصلحتها العليا، وهو ما أكده المستشار أولاف شولتس عندما صرّح بأنّ أمن إسرائيل يشكّل جزءاً من "هوية ألمانيا وسنتصرّف بناءً على ذلك".
وتبعت موقف الحكومة الألمانية سلسلة من الإجراءات، كان أبرزها تعديل معايير الحصول على الجنسية باشتراط الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، كما صنّفت الحكومة الألمانية حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، على أنها شكل من أشكال "معاداة السامية"، وأقرّت قراراً سياسياً يدعو إلى حظر تمويل أو دعم أي جمعيات أو فعاليات مرتبطة بالحركة، بما في ذلك استخدام شعاراتها أو الترويج لأهدافها في الفضاء العام، في خطوة رأى فيها كثيرون تقييداً واضحاً لحرية التعبير، واستهدافاً مباشراً للفلسطينيين/ ات ومن يتضامن معهم/ نّ.
وتعليقاً على تصريحات برِين؛ يقول الناشط المناهض للعنصرية محمد شحرور، المتخصص في علم الاجتماع والمقيم في برلين، لرصيف22، إنه "من المُخزي أن نرى كارين برين تُروّج لمشاعر معادية للفلسطينيين/ ات. للأسف، يبدو أن بعض وجوه المشهد السياسي الألماني يعتقدون أنّ السبيل للتغلب على ماضي ألمانيا المعادي للسامية هو التحريض على العنصرية ضد الفلسطينيين/ ات".
ويستدرك قائلاً: "بينما يشهد العالم أجمع الإبادة الجماعية المستمرة في حق الشعب الفلسطيني، أعتقد أنّ الغضب والإحباط في المجتمعات الفلسطينية، كما هو الحال في ألمانيا، ليسا مُبررين فحسب، بل هما واجب إنساني على الجميع. أولئك الذين/ اللواتي لا يشعرون بالغضب والسخط تجاه الحكومة الألمانية بينما تدعم الموت في غزة سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً، هم المتطرفون/ ات الحقيقيون/ ات".
النظر في المرآة
أصبح تشديد الشرطة الألمانية قبضتها على التظاهرات المناصرة لفلسطين -خصوصاً في برلين حيث تقيم أكبر جالية فلسطينية في أوروبا- مشهداً مألوفاً. وباتت مشاهد العنف التي يتعرض لها المتظاهرون/ ات، والتي تنتهي في الغالب بفضّ قسري يتخلله عنف واعتقالات لا تخلو من الإهانة، جزءاً من مشاهد الحراك المؤيد للحقوق الفلسطينية.
وفي هذا الصدد، عدّ المركز الأوروبي للدعم القانوني -وهو منظمة مؤيّدة للحق الفلسطيني تتخذ من برلين مقرّاً لها- أنّ هذه الإجراءات منهجية ومقصودة؛ إذ وثّق المركز، منذ عام 2019 -أي منذ ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023- 766 حالة قمع، شملت أنماطاً متكررةً مثل: الرقابة، التضليل الإعلامي، حملات التشهير، الاعتقالات، والتدخلات الأمنية، بالإضافة إلى تبعات قانونية ومالية ومهنية. ومن بين هذه الحالات، تبيّن أنّ الشرطة كانت طرفاً مباشراً في أكثر من 300 حالة.
وفي تعليقها على تصريحات وزيرة التعليم الألمانية، تقول الناشطة في منظمة "فلسطين بتحكي"، رهف أبو الحسن، لرصيف22: "عند وضع تصريح الوزيرة ضمن السياق السياسي الراهن في ألمانيا، يتضح أنّ الفلسطينيين/ ات الذين/ اللواتي يناضلون/ يناضلن من أجل العدالة، والكرامة، والحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان، يُصنَّفون/ ن متطرفين/ ات، فقط لأنّهم/ نّ يُجسّدون/ ن نقيض السردية السائدة".
وتضيف أبو الحسن: "بالنسبة إلى الوزيرة، نحن الفلسطينيين متطرفون بالفطرة، لأن وجودنا مُسيّس منذ ولادتنا. نحن فخورون بأصولنا وهويتنا جداً، أحرار جداً، وملتزمون تماماً بالعدالة. نحمل شجاعة وإنسانيةً وكرامة شعب له حق أصيل غير قابل للتصرف: حق العودة إلى ديارنا ومنازل أجدادنا، فلا عيب في أن تكون متطرفاً عندما يعني التطرف ببساطة رفض قبول الظلم. ليس لدينا امتياز ‘الحياد‘ في مواجهة تهجيرنا".
كما تصف أبو الحسن، تصريح برٍين بأنه "تكتيك كلاسيكي"، موضحةً أنه "تجريم مجتمع بأكمله وتلخيصنا في كلمة واحدة، وتحويلنا إلى صورة نمطية يسهل على مخيلة الجمهور استيعابها".
وتصف تصريحات برين بأنها "صدى آخر في الجوقة الطويلة والمأساوية للسياسيين/ ات الألمان الذين/ اللواتي فشلوا/ ن في تحمّل مسؤولية بلادهم/ نّ، ليس بقمع الحقوق الفلسطينية، بل بدعم العدالة والقانون الدولي".
وتكمل: "إذا أرادت السيدة برِين حقاً فهم التطرّف، فعليها أن تسأل نفسها: كيف يتحوّل ما يسمّى بالدمقراطية إلى دعم الفصل العنصري والعقاب الجماعي، ومقابلة إدانية لأولئك الذين/ اللواتي يطالبون بالحرية والعدالة؟".
انحياز ممنهج
ولوزارة التعليم الألمانية العديد من المواقف التي عُدّت معاديةً للفلسطينيين/ ات، فقد أقيلت مسؤولة تشغل ثاني أعلى منصب في الوزارة عام 2024، بعد بدء الوزارة مراجعة قانونية لدراسة إمكانية فرض عقوبات بموجب قانون الخدمة المدنية والقانون الجنائي ضد أكاديميين/ ات، بما في ذلك خيار إلغاء تمويل دراستهم/ نّ لدعمهم/ نّ احتجاجات الطلاب والطالبات المؤيدة لفلسطين.
وكانت "جامعة برلين الحرة" قد استدعت الشرطة لفضّ احتجاج أقيم في أيار/ مايو 2024، شارك فيه 150 ناشطاً وناشطةً من المؤيدين/ ات لفلسطين، وذلك بإنشاء مخيم في باحة الجامعة للمطالبة بوقف تمويل حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة، وهو ما استقطب تأييد نحو 300 أكاديمي/ ة من جامعات ألمانية لدعم الحراك الطلابي، مؤكدين في رسالة مفتوحة أنه بغض النظر عن مدى اتفاقهم/ نّ مع مطالب مخيم الاحتجاج، فإنهم/ نّ يدافعون/ ن عن طلابهم وطالباتهن وحقهم/ نّ في الاحتجاج السلمي، بما في ذلك سيطرتهم/ نّ على أراضي الجامعة، واتهموا/ نّ إدارة الجامعة بتعريض المتظاهرين/ ات "لعنف الشرطة".
في تعليق على تصاعد نبرة "شيطنة الفلسطينيين" على المستوى الرسمي في ألمانيا، تقول الناشطة ميسان حمدان، وهي فلسطينية تقيم في برلين، في حديثها إلى رصيف22: "لا أفهم كيف لوزيرة تعليم أن تطلق تصريحاً كهذا من دون أن تستند إلى أدلة، فتقوم بتوصيف جالية بأكملها على أنها متطرفة. ما أراه هو أن من يشغلون/ ن مواقع السلطة من هذا النوع يفتقرون/ ن إلى القدرة على رؤيتنا كما نحن: مجتمع متنوع، يضم المسيّس/ ة، الراديكالي/ ة، المتديّن/ ة، المنفتح/ ة، وغيرهم/ نّ من التيارات والتوجهات الفكرية والسياسية والدينية. لكن بدلاً من ذلك، يتم اختزالنا في صورة واحدة جامدة: متطرف، إرهابي، ورجعي، وكأننا خارج التاريخ، خارج الإنسانية، وخارج التنوّع".
وتضيف: "بعد عامين من الإبادة المستمرة في غزّة، لدينا الحق الكامل في التعبير عن رؤيتنا وواقعنا تجاه الإرهاب الإسرائيلي الذي نراه ونعيشه يومياً. كان الأجدر بوزيرة التعليم الألمانية أن تنظر أولاً في دعم دولتها للإرهاب والتطرف الذي تمارسه إسرائيل، إسرائيل التي تعدم وتُبيد".
يهوديّ الأمس فلسطينيّ اليوم
أما علاء، وهو شاب فلسطيني يقيم في برلين (فضّل الاكتفاء بذكر اسمه الأول تجنّباً لأي ملاحقة قانونية محتملة بحسب تعبيره)، فيقول لرصيف22: "الحكومة الألمانية تُعرّف التطرّف وفقاً لمعاييرها الخاصة، وبما يخدم مصالحها. ولأن لها تاريخاً مُهيناً من المجازر والتطهير العرقي، فهي تسعى اليوم إلى تبييض ماضيها المعادي لليهود من خلال دعم القتل والدمار اللذين يتعرض لهما الفلسطينيون/ ات".
ويتابع: "قصة الكراهية ضدنا تبدأ منذ لحظة تسجيلنا في السجلّات الرسمية كـ‘بلا وطن‘. ومن هناك تمتدّ إلى كل تفاصيل الحياة اليومية. ولهذا، فإننا ننظر إلى مفاهيم الحريات والديمقراطية في ألمانيا بتشكيك، لأنها ببساطة لا تُطبّق علينا كفلسطينيين/ ات".
يعكس تعامل ألمانيا مع الأصوات المناهضة لإسرائيل قلقاً متزايداً على مسار ديمقراطيتها، ويطرح تساؤلات حول حدود حرية التعبير ومستقبلها
وفي سياق السياسات المعادية للفلسطينيين/ ات، أوقف مجلس شيوخ برلين تمويل مركز ثقافي في حي نويكولن، وأصدر قراراً بإغلاقه، بعد أن رفض إلغاء فعالية لمنظمة صوت يهودي من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط -وهي منظمة يهودية- بحجة أنّ الفعالية "معادية للسامية".
كما أُلغي عدد من الفعاليات الثقافية والمحاضرات، والندوات، ومنح الجوائز، بحق من يُظهرون تضامناً مع فلسطين، سواء كانوا/ كن فنانين/ ات أو مثقفين/ ات أو ناشطين/ ات، أو حتى سياسيين/ ات مثلما حدث مع يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليوناني الأسبق، الذي مُنع من دخول ألمانيا بهدف المشاركة في مؤتمر مؤيد لفلسطين في برلين، وذلك على خلفية اتهامات له بأنّ خطابه "خطاب مناهض للسامية".
وتعلّق رهف أبو الحسن على ذلك بالقول: "تراجعت المساحات المتاحة للحديث عن فلسطين بشكل مقلق. الناس باتوا يخشون على وظائفهم إذا عبّروا عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية. وهناك من يتعرّض للمضايقات على وسائل التواصل، أو للملاحقة القانونية؛ ويشمل هذا الأكاديميين/ ات، القيّمين/ ات الفنيين/ ات، الصحافيين/ ات، والفنانين/ ات".
تهديد الديمقراطية
وبرغم انحياز الحكومة الألمانية إلى السردية الإسرائيلية، إلا أنها تحاول إظهار قدر من التوازن في خطابها السياسي، ولا سيّما مع تصاعد الانتقادات الدولية للعمليات الإسرائيلية في غزة. ففي أثناء زيارته فنلندا في الـ4 من حزيران/ يونيو 2025، صرّح المستشار الألماني فريدريش ميرتس بالقول: "نشعر بالفزع إزاء مصير السكان المدنيين ومعاناتهم الفظيعة في غزّة".
كما أنّ انحياز الحكومة الألمانية إلى إسرائيل يلقى معارضةًً في الداخل الألماني نفسه، وفي هذا الإطار رأى الخبير القانوني الألماني مايكل فراسي، أنّ قمع التظاهرات أمر لا "يتوافق مع الدستور الألماني"، واتفق معه في هذا الرأي الصحافي الألماني هانو هاوينشتاين، الذي سرد في مقالة نشرها في صحيفة "الغارديان"، كيف أنّ تهمة "معاداة السامية" طالت حتى شخصيات يهودية أبدت احتجاجها على ما يحصل في غزّة، لافتاً إلى أن الحكومة الألمانية تبالغ في استخدام هذه الورقة لـ"لقمع الأصوات اليسارية والمناصرة لفلسطين".
من جانبه، أعرب المفوض الأوروبي لحقوق الإنسان مايكل أوفلاهرتي، عن قلقه البالغ إزاء تصرّفات السلطات الألمانية تجاه التظاهرات المؤيدة لفلسطين، ومخاوفه من "استخدام الشرطة للقوة المفرطة ضد المتظاهرين بما في ذلك القاصرين.
وأضاف في رسالة وجهها إلى وزارة الداخلية الألمانية، بتاريخ 19 حزيران/ يونيو 2025، أنه لا يوجد مبرر لفرض قيود على بعض الشعارات التي تُرفع في التظاهرات مثل "الحريّة لفلسطين"، لافتاً إلى خطورة استخدام تعريف "معاداة السامية" كذريعة لقمع النقاش السياسي المشروع حول القضية الفلسطينية.
هذه الآراء تعكس قلقاً مشروعاً على ديمقراطية ألمانيا، وتدعو السياسيين في الحكومة الألمانية إلى التفكير بعقل بارد وبحكمة في ما يخص مبالغتها في الانحياز لإسرائيل، على حساب قيم حرية التعبير واحترام القوانين الدولية والإنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.