تساؤلات سورية عن المحاسبة…

تساؤلات سورية عن المحاسبة… "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"

رأي نحن والفئات المهمشة

الاثنين 23 يونيو 202509:51 ص

هل يستطيع أحد أن ينسى طفل قرية "حرف بنمرة"، الذي قُتل صبيحة عيد الفطر؟ وهل عرف أحد شيئاً عن محاسبة قاتله؟ وهل سيعرف السوريون يوماً معنى العيد الواحد الجامع؟ عادت هذه البلاد القاسية لتقسم أطفالها وشوارعها، عدلها وأمانها ورحمتها، كأنّ قدرنا ألّا نعرف معنى للفرح الواحد والأمان الواحد والبلد الواحد. ما زالت الهوّة بين السوريين تكبر وتتسع كل يوم، تلك الهوة التي تجرّأنا قبل أشهر وحلمنا بردمها، أو نسيان أنها موجودة حتى.

بالتأكيد، نحن اليوم بحاجة إلى لجان تحقيق، ولن أجادل حتى في مدى مصداقيتها، بل سأسلم بنزاهتها كسورية لن تتردّد في قوْلَبة المنطق، ما استطاعت، للخروج بفرضية واحدة تخفّف ظلام هذا القبر الذي نتشاركه جميعاً.


عمَّ تبحث لجنة تقصّي الحقائق؟

أحاول يومياً تجميع كل قواي وشجاعتي، فقط لأرسل كلمة "كيفك" على الماسنجر لصديقتي التي فقدت ثمانية أشخاص من عائلتها. ولكنني أفشل. هذه الكلمة، كغيرها من الكلمات، باتت معلقةً في الفضاء، دون أي معنى أو جدوى. فأيّ إجابة ستكون مناسبةً لوصف كل ذاك الخراب، وكل تلك الجرائم المروّعة التي خلّفت وراءها قرى منكوبةً وغير صالحة للحياة؟

إنه المشهد ذاته الذي يلاحق السوريين منذ سنوات طويلة، مشهد من القتل والظلم والخوف والتشرد والموت يتكرر مع تغيير المواقع فقط. و"الـ كيفك" نفسها التي تقف اليوم عاجزةً، كانت تتجمد في الماضي، وتسقط قبل أن تصل إلى أصدقائي في إدلب.

بالتأكيد، نحن اليوم بحاجة إلى لجان تحقيق، ولن أجادل حتى في مدى مصداقيتها، بل سأسلم بنزاهتها كسورية لن تتردّد في قوْلَبة المنطق، ما استطاعت، للخروج بفرضية واحدة تخفّف ظلام هذا القبر الذي نتشاركه جميعاً.

لكن، ليسعفني أحد بالإجابة: عمَّ لا تزال لجنة تقصّي الحقائق تبحث حتى الآن؟

منذ البداية، كانت لدينا أدلة دامغة: فيديوهات كثيرة تُظهر المسلّحين بوجوههم وملامحهم ونبرات أصواتهم وابتساماتهم الحاقدة.

لدينا أيضاً اليوم الذي تمّ فيه إعلان "الفزعة" التي فتحت أبواب جهنم على الساحل. ولدينا صور ومقاطع فيديو واضحة الزمان والمكان لتسليح مدنيين، وأسماء الجوامع التي صدحت بالدعوى للجهاد، وصفحات كبار المحرّضين من مشايخ وشعراء وصحافيين وناشطين. والأهم من هذا كله، لدينا شهادات المئات من ذوي الضحايا والناجين من الموت.

أليس من الواضح أننا بحاجة ملحّة اليوم إلى البدء بعملية عدالة انتقالية شاملة للسوريين جميعاً، للضحايا دون تمييز؟ لماذا لا تبدأ السلطة بمعاقبة مجرمي النظام السابق بمحاكمات علنية، لإغلاق جراح الناس المفتوحة في خطوة لمنع الرغبة في الانتقام؟ ولماذا لا يُعاقَب محرّضو اليوم، أولئك الذين لا يخجلون وهم يتكلمون باسم السلطة نفسها؟ فهل هناك تهديد أخطر على مستقبل البلاد من الخطاب التحريضي المعزّز للكراهية والطائفية والانقسام؟

فهل هناك تهديد أخطر على مستقبل البلاد من الخطاب التحريضي المعزّز للكراهية والطائفية والانقسام؟

ولأننا نعيش في مكان لا إجابات فيه، عادت مرةً أخرى سيناريوهات التهديد الجماعي. هذه المرة مع السويداء، التي غرقت في بحر من الزيف والكذب والادعاءات التي جعلت المنابر الإعلامية تصدح بالتحريض، والجوامع تصدح بالدعوات للجهاد ومواقع التواصل تغرق بالشتائم.

كأنّ ما يحدث جزء من سياق طبيعي لا تشوبه شائبة، ومحاولة لتكييف التفكير الشعبي مع توجه محدّد، ليبدو الخطاب صادراً بشكل عفوي عن الشعب. هذا التكتيك، على غرار ما فعله الأسد، أنتج غطاءً شعبوياً جاهزاً لتمييع مطالب المحاسبة وللتبرير عند حدوث أي تجاوز أو انتهاك مهما بلغ حجمه، ولإفقاد الشعب حالة التعاطف مع بعضه، فبينما يعيش قسم من الشعب حياته بشكل طبيعي تماماً، يعيش آخرون في خوف دائم من القتل العشوائي.  

هل سننجو؟

لا أعرف شعوراً منذ مجازر الساحل إلا الخيبة والعجز. فلا يكاد يمرّ يوم دون أن أسمع عن حادثة قتل أو خطف أو سرقة أو اعتداء في محافظتي، وفي أحسن الأحوال عن قرار صادم. أكتب تعليقات طويلةً، ثم أحذفها، فكل شيء يحدث يقودني مباشرةً إلى اليقين بأن لا جدوى من أي رأي أو موقف. لا أساس في هذه البلاد لنبني عليه، ولا أهمية لاعتراضنا، كما لم يكن يوماً له أهمية. 

يخبرني قريب قدّم شكوى بعد تكسير محله لأنّه يقدّم مشروبات كحوليةً، بأنه لم يتلقَّ أيّ وعد بمعاقبة المعتدين، ولم يرَ حتى تحرّكاً لضبط مدنيين مسلحين يتجولون في شوارع طرطوس في وضح النهار دون مساءلة، برغم معرفة الجميع أنهم قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة بسبب مشهد قد يصنّفونه حراماً.

عنون ابن خلدون، أحد فصول مقدمته بـ "فصل في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده". وهذا ما يجعلني أتساءل: هل سننجو على المدى الطويل، ويفتح السوريون بما يتخيلون أنه إرادتهم أبواباً مشرعةً لاستبداد آخر، ولفكر يلغي المختلفين ويعاقبهم على اختلافهم؟ وهل هناك تفسير منطقي واحد لدعوات السوريين للتظاهر رفضاً للعقوبات على مرتكبي المجازر ولرغبة الصبايا من بيئات متحررة في النقاب؟

ولأنّ الحقيقة التي تحررنا هي بالضبط الحقيقة التي لا نرغب في رؤيتها على الإطلاق، ولأنّ المقدمات تقود إلى النتائج، سأبقى عاجزةً عن فهم أيّ محاولات لتبرئة المجرمين، فحتى الآن لم نلمس مشروعاً حقيقياً من السلطة الحالية للمحاسبة العادلة

ولأنّ الحقيقة التي تحررنا هي بالضبط الحقيقة التي لا نرغب في رؤيتها على الإطلاق، ولأنّ المقدمات تقود إلى النتائج، سأبقى عاجزةً عن فهم أيّ محاولات لتبرئة المجرمين، فحتى الآن لم نلمس مشروعاً حقيقياً من السلطة الحالية للمحاسبة العادلة. وكل ما رأيناه محاكمات ميدانية، وتسويات لمجرمي نظام الأسد كصقر الدفاع الوطني بحجة السلم الأهلي، وإهمال لملف المعتقلين والمختفين قسراً، وتجاهل للحالات الفردية التي انتهى التراخي بمحاسبة مرتكبيها إلى مجازر حقيقية، ولإنتاج فئة تعتقد بأحقيتها حتى بضرب قاضٍ وقتل طبيب وإعدام مدنيين في باصات النقل، ولفرط شعور المجرم بالأمان يوثّق جرائمه بنفسه؟

وعلى سبيل الأمل، وربما الفضول، ما زلت في انتظار نتائج تحقيقات لجنة تقصّي الحقائق، لأعرف كيف ستُخرج الحكومة الحالية نفسها من المأزق؛ فالعقوبات الأوروبية جاءت واضحةً وتشمل قيادات بالاسم ثبت تورطهم ومشاركتهم في المجازر. وهؤلاء، في الحقيقة، ليسوا إلا جزءاً أساسياً من الجيش السوري الجديد، وليسوا أيضاً إلا من طالتهم الترفيعات والتعيينات الجديدة. فمتى سيأتي اليوم الذي يُحاسَب فيه الجميع، ونتوقف عن هذا الدوران المريع في حلقة مفرغة من الألم وغياب العدالة؟



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image