يرقص خلف المقود… من حقه لأن الحرب لم تطرق بابه

يرقص خلف المقود… من حقه لأن الحرب لم تطرق بابه

مدونة

الأربعاء 9 يوليو 20259 دقائق للقراءة

منذ يومين، قطعت الحكومةُ الإنترنت کلیاً عن المواطنين. نتابع الأخبار؛ إسرائيل ضربت مناطق في الأهواز، شيراز، طهران، أصفهان، وعدة مدن أخرى. والداي يعيشان في الأهواز، أختي في شيراز، لدي أصدقاء في أصفهان، وبيتي في طهران. لا أستطيع الوصول إلى أيّ خبر منهم.

على منصة "إكس"، لم يعد هناك أي نشاط من المستخدمين داخل إيران. آخر منشور لصديقتي كان: "شعري شاب دفعة واحدة خلال الأيام القليلة الماضية، ونصف رموشي تساقطت". ينكمش قلبي من الألم.

بَهار أجبرت والدتها على الذهاب إلى منزل صديقة حتى لا تبقى وحدها، وتتحدث على الهاتف باستمرار لتجد لها مكاناً آمناً في شمال البلاد.

أنا أحدق في هاتفي، أراجع الرسائل التي أرسلتها ولم تُستلم بعد. أكرر ذات الرسالة للجميع: "أين أنت؟ هل مكانك آمن؟"، ولم يجبني أحد.

في هذه اللحظات، يدخل ترامب اللعبة بجدية، وببرود ووقاحة يقول: "أخلوا طهران". يبدو كطفل مدلل وعنيد ونرجسي يعشق ألعاب القتل، والآن يمسك بأداة التحكم الأساسية ليتباهى. بالنسبة لترامب وأمثاله، لسنا سوى شخصيات داخل لعبة، يضغط على زر الانفجار متى شاء، ويمحونا. لم أعد أحتمل هذا الضغط النفسي. في هذا الصمت القاتل، يتخيل ذهني أسوأ السيناريوهات. أقرر العودة إلى إيران.

أحدق في هاتفي، أراجع الرسائل التي أرسلتها ولم تُستلم بعد. أكرر ذات الرسالة للجميع: "أين أنت؟ هل مكانك آمن؟"، ولم يجبني أحد

بهار تعارضني بشدة، تقول إن الوقت ليس مناسباً، وإن أمريكا على وشك التورط في الحرب، والأوضاع ستزداد سوءاً.

لكنني، بالضبط لهذا السبب، يجب أن أعود. لأن الأمور ستسوء، ولا أريد أن أكون في مأمن بينما كل من أحبهم وكل ما أحب هناك، على حافة الانهيار. أريد أن أعيش ما يعيشونه. لا أريد النجاة وحدي. وما معنى هذه "النجاة"؟ عقلي بدأ يفقد توازنه. أنسى أسماء الأشياء. أقف في شارع مررت به آلاف المرات، وأشعر أنني لا أعرف أين أنا. أدور حول نفسي وأبكي من شدة العجز.

إلهام تتصل من ألمانيا وتبكي. تقطع الإنترنت عنها أصابها بالجنون. تحكي عن طالب دكتوراه عراقي في أمريكا أثناء حرب العراق، كان يجلس أمام منزله، يدخن علبتين من السجائر يومياً ويبكي بصوت عالٍ، لدرجة أن بكاءه صار جزءاً من حياتهم اليومية. تقول: "الآن فقط أفهمه، أنا أيضاً أبكي في المختبر بينما أدوّن المتغيرات".

بهار تتحدث مع نيلي، ثم تصلني منها رسالة: "من فضلك أرسلي صورة جواز سفرك لتأكيد حجزك في الحافلة من إسطنبول إلى الحدود الإيرانية. مع تمنياتنا بعودة السلام لوطننا الحبيب".

أقفز من الفرح. إذاً غداً سأعود، وتنتهي هذه الحيرة. أجهز حقيبتي. هذه المرة، حتى لو متُّ، لن أفتحها في أي مكان غير منزلي.

بهار توصيني بلا توقف: "إذا عبرت الحدود، لا تجلسي قرب النافذة، لا تعودي إلى المنزل، لا تذهبي إلى طهران، أمريكا ضربت فوردو الليلة الماضية، واليوم قد اشتدت الحرب، وأنتِ تنوين أن تعودي عبر الطرق البرّية؟".

الملابس التي غادرت بها طهران إلى إسطنبول قبل أسبوعين أصبحت فضفاضة عليّ بشكل مثير للضحك. أنظر في المرآة بدهشة، أين اختفت نضارة وجهي؟ متى برزت عظام قفصي الصدري؟

ودّعت بهار. نيلي وأليس كانتا تجلسان خلف نافذة منزلهما في الطابق الأول، تراقبان رحيلي. لوّحت لهما، ولوّحت لبهار التي كانت ما زالت تبكي خلف باب زجاجي، تخشى أن يكون هذا اللقاء الأخير.

أوصلني صديقي إلى محطة الحافلات. انتظرنا في بهو فندق ساعةً تقريباً. أردت أن أجد شخصاً أستطيع الوثوق به لمرافقتي بعد الحدود. وجوه الجميع كانت شاحبة، يحدقون في الفراغ. لم يتحدث أحد مع أحد. وصلت الحافلة.

أخذت حقيبتي ونهضت. تراخت ساقاي للحظة. خفت. قلت لنفسي: "إلى أين تذهبين؟ إلى قلب القصف؟ هل تحتملين رؤية طهران مدمّرة؟ هل تحتملين رؤية جثث مواطنيك مكدّسة؟". ترددت. تمنيت لو يعود بي أحد إلى منزل بهار.

لكنني تمالكت نفسي، وابتلعت حبة كلورديازيبوكسيد. لا، يجب أن أذهب. يستحيل أن أفتح حقيبتي في غير منزلي. ركبت.

قبل الركوب، جاء رجل وزوجته نحوي، بابتسامة ودية عريضة، وقالا: "هل تنتظرين حتى تصل صديقتنا لتركبي؟ نبحث عن من يرافقها، ورأيناك وارتحنا لك".

أومأت برأسي. فرحت. وجهي المتعب لا يزال يوحي بالثقة. وصلت الفتاة، اسمها سولماز. جلسنا في الصف الأول.

الرجل المسؤول عن التنظيم قال: "النساء غير المتزوجات يجلسن في الصفوف الأمامية، العائلات في الوسط، والرجال غير المتزوجين في الخلف".

أعطونا ساندويتشات عند الصعود، ثم شرائح بطيخ باردة لتخفيف حرارة الصيف. كنت أكثر هدوءاً. طيبة الغرباء كانت مشجعة. أن نعود معاً، مع أبناء بلادنا، كان عزاءً. لم يسأل أحد: "ما بك؟"، كلنا نعلم. كلنا نعرف هذا الألم.

بيتُ سولماز في كرَج. قلت: "قصفوا كرج كثيراً هذه الأيام". قالت: "فليضربوا ما يشاؤون. أريد أن أعود إلى بيتي. زوجي مشرّد هناك منذ عشرة أيام. قلت له ارجع، سنعود معاً إلى بيتنا، وليكن ما يكون".

في الجانب الآخر من صف المقاعد، جلست فرَح خانُم. مرحة، في الـ57 من عمرها، قالت: “بيتي في چيتگر، أريد أن أراه، أطمئن أنه لم يُمسّ.”

بجانبها منير خانم من نيشابور. جاءت عند ابنتها، لكن لم تقدر أن تترك بقية أسرتها وسط الحرب، فعادت.

انطلقت الحافلة. إسطنبول كانت ساحرة. الغيوم تعانقت وأخفت الشمس، وانعكست ظلالها على المدينة. لا أستطيع نزع نظري عن البحر، عن السفن. هذه المدينة تملك كل شيء: التاريخ، البحر، الحياة. فكرت في طهران، في أفلام الأيام الماضية، في طهران الجريحة. ذكرياتنا أصبحت شظايا. قبل أسبوعين حين غادرتها، لم أكن أعلم أنني حين أعود ستكون قد انهارت.

خارج إسطنبول، كانت المناظر أكثر جمالاً. كل مشهد لوحة فنية. أشجار سرو شامخة، منازل بسقوف حمراء، مشاهد كأنها من أفلام كيارستمي أو لوحات رسام بارع.

في حافلة النازحين، الجميع غارق في هواتفه، يتابع الأخبار. قالوا إن الوضع ازداد سوءًا، إسرائيل تضرب عدة مدن في آن.

فجأة قالت سولماز: "قصفوا كرَج! ساحة سِباه! بيت أختي هناك". عاد الإنترنت قليلاً، واتصلت بأختها. حين علمت أن مخبز زوج أختها دُمّر على بُعد أمتار من منزلهم، صمتت فجأة. عشرات الأرواح تمزقت هناك.

ضُرب سجن إيفين! قلت: "من أكثر عجزاً من السجين؟ لا يستطيع الهرب أو النجاة". قالوا إنهم وجدوا فقط أحذية الجنود القتلى. امرأة كانت تضع كفالة لزوجها، فنانة كانت تمرّ من هناك، بعض السجناء… جميعهم رحلوا.

بدأ أحد الركّاب يغني أغنية أذرية حزينة لرَشيد بِهبودوف. كنت سمعتها كثيراً من قبل، لكنها هذه المرة مزقت صدري. سولماز اقتربت وهمست لي بترجمتها…

تذكرت تلك الليلة التي فتحت فيها ديوان حافظ ووقعت على هذا البيت:

"في صلاة الغريب عند الغروب،

أبكي وأحكي قصص حزني"

بكيت. حدّقت في المناظر الجميلة خلف زجاج الحافلة المبلل بالمطر.

السائق التركي حاول تغيير مزاجنا، وضع أغنية تركية مرحة، كان يرقص خلف المقود. من حقه؛ بلاده آمنة، منزله ليس تحت صواريخ المجانين، لا يخشى على أحبائه.

بعد 26 ساعة تقريباً، وصلنا إلى معبر "رازي". انطلقنا الرابعة والنصف مساء الأحد من إسطنبول، ووصلنا السابعة والنصف مساء الاثنين. مررنا من الحدود بأجساد وأرواح منهكة، وأخيراً… تراب الوطن! تراب الوطن الذي حنينه يكاد يقتلنا.

دخلنا وخرجنا، و… ظلام دامس. لا إنارة. سائقون كُثر يهاجموننا ليأخذونا، لا نرى وجوههم. أنا، وسولماز، وفرح خانم، بخوف شديد، صعدنا سيارة دون اسم، وسلّمنا أمرنا للقدر.

طلبنا أن نُوصل إلى خوي، لنأخذ حافلة إلى طهران. الطريق إلى خوي ترابي ومظلم. فرح خانم، التي جلست أماماً، كانت تحاول ممازحة السائق لتخفيف الخوف.

فجأة، وسط الأعشاب، توقّف السائق وقال: "أعتقد أن الإطار مثقوب". نزل. فرح خانم شحب لونها، قالت: "ماذا لو قتلنا هنا؟ من سيبحث عنا؟". نظرتُ إلى السماء، كانت مليئة بالنجوم. تذكرت أن هذه النجوم ماتت من زمان، وما نراه الآن هو ضوؤها القديم فقط.

قال السائق: "الهواء قليل في الإطار ولا يوجد احتياطي. سأطلب من صديقي أن يحضر واحداً". فرح خانم أصرّت عليه أن يوصلنا. قالوا إن آخر حافلة من خويْ لطهران الساعة 11 مساءً، ولو لم نصل، سنبيت في المحطة. السائق وافق، ومشى بحذر. الطريق مرعب.

إن كنت تعلمت شيئاً واحداً خلال أربعين سنة، فهو: لا يوجد وقف إطلاق نار لي في هذا الوطن، بل حركة دائمة من حرب إلى أخرى

لكن كنا محظوظين، وصلنا بسلام إلى المحطة. وصلنا في آخر لحظة. ركبنا. انطلقت الحافلة نحو طهران. أخذت حبة مهدئة أخرى ونمت. لا أعلم إن كنا سنصل أم سيصيبنا صاروخ مثل الآخرين. كنت مرهقة، لا أريد أن أشهد لحظة الانفجار المحتمل.

آخر خبر وصل: "أخلوا المنطقة 6 و7".

يا بيتي، ابقَ واقفاً حتى أعود.

تركتك، لكني أرجو أن أجدك كما كنت، سليماً، شامخاً.

كل الليل حلمت أنني محاصرة في بيتي بطهران تحت القصف، أبحث عن مكتبي لأختبئ تحته… ولا أجده.

استيقظت على نور الشمس. إذن، لم نصب بشيء الليلة. نظرت إلى سولماز وفرح، كانتا نائمتين. وصلنا قزوين. لا أصوات، لا دخان، أو على الأقل لم أره.

فتحت هاتفي. وصلتني رسائل:

“تم إعلان وقف إطلاق النار. هل وصلتِ إلى منزلك أم ما زلتِ في الطريق؟”

تنفست الصعداء. نظرت إلى السماء، نظرت إلى الركاب النائمين. نهضت، ذهبت إلى مقدمة الحافلة، وجلست قرب السائق، عرض عليّ علكة.

قلت له: "سمعتَ أن وقف إطلاق النار أُعلن؟".

نظر إليّ، أومأ برأسه. قال: "يعني انتهى؟".

قلت: "هكذا يقولون".

أومأ مجدداً. بقينا صامتين نحدّق في الطريق.

كنت في البيت وفي الطريق في آن، وفجأة لفحتني رائحة البارود.

وإن كنت تعلمت شيئاً واحداً خلال أربعين سنة، فهو: لا يوجد وقف إطلاق نار لي في هذا الوطن، بل حركة دائمة من حرب إلى أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image