شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
مرض أمّي والغربة وصوت عبير نعمة

مرض أمّي والغربة وصوت عبير نعمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 4 مارس 202512:25 م

حين غادرت، لم أتمكّن من حمل شجرة الليمون التي بالقرب من البيت، ولا الكتب التي أحببت. 

نغادر غير قادرين على أخذ أيّ شيء معنا. 

الحقائب لا تسع بيتاً ولا أهلاً يرفضون المغادرة. الحقائب فارغة، لكن ثقيلة. هي مثقلة بكلّ ما لم نستطع حمله. خزّان ذكريات وأحلام محطّمة على ضفاف ظلّنا المكسور. 

نكهات وحواس تتلاشى تدريجياً، نحاول خلقها في قارات أخرى، دون جدوى. 

يبيعون عطر زهر الليمون في كل مكان، لكنه لن يعيد إليّ الشجرة. 

يبيعون عطر زهر الليمون في كل مكان، لكنه لن يعيد إليّ الشجرة. 

لا دفء يعيد إليّ أهلي.

البيوت التي سكنتها لم تسكنني؛ "لا النار فيها نار"، و"لا جار أناديه كي نسهر في الليل".

وحدها الموسيقى رافقتني، الموسيقى تسافر بخفّة.

حملتُ فيروز معي... 

لكن الغربة أبعدتني عن نفسي، وعن فيروز. 

غضبي من بلاد فجّرت أبناءها، وشجني على "مدينة أطفأت قنديلها"، وضعا فيروز في خانة العتمة. 

صرت أخافها، كما أخاف أن أتذكر ما كان جميلاً في بلادي وحياتي وما تلاه من دمار. 

أراني أصرخ: "ما الوعد الذي تعدينني به؟"، فقد طال اغترابي، "ولا غناء لنا يدوم... وما نهضت أرض في غيابي، ولم تعُد لنا الكروم...".

حلمٌ يمزّقني صداه

لم تكن يوماً غربتي سهلةً، مع كل ما امتزجت به من مشاعر الذنب، وشبح النسيان. لكنني صادقتها مع الوقت، وروّضت الأمكنة والأشياء، باستثناء ناس هذه الغربة؛ عجزت عن ترويضهم.

ويوم غدرت الحرب بأرضي، كبرت الفجوة بيني وبينهم. 

هي فجوة بدأت بحفرها آلام غزّة، وأفقدتني صوتي بلغته الفرنسية، وعادت إليّ لغتي، لغة أمي...

قلت سأعود...

وقبل أن أعود، مرضت أمّي. غدر بها مرض لئيم تزامن مع وحشية هذه الحرب. صداه عبر البحار كجدار صوت مضخّم. أمشي فأخاف أن أرفع رأسي وأنظر من حولي، أنا التائهة في شوارع باريس الطاحنة. لم أعد أرى فيها سوى رمادها. نسيت ما رماني إليها. نسيت روايات تَعِد بالعدالة، وأشعار بودلير. نسيت المتاحف، ونسيت الثورات.

قبل أن أعود، مرضت أمّي. غدر بها مرض لئيم تزامن مع وحشية هذه الحرب. صداه عبر البحار كجدار صوت مضخّم. أمشي فأخاف أن أرفع رأسي وأنظر من حولي، أنا التائهة في شوارع باريس الطاحنة

نسيت الأضواء التي تنير بعد المغيب الجسور والأرصفة في لحظة سحرية تبدو آتيةً من زمن بعيد. كانت عندي كلقاء حبيب. كنت أنتظرها بشوق لا يمضي، ودهشة تتكرر كل يوم...

ألتقط صوراً تشبه نفسها، صوراً غدت بيتي، في غربة "ما بيصير فيها بيت".

نسيت كل ما حملته من ومضات باريس، في عينيّ، وصار اسمي تهمةً أهرب منها إلى ملجئي المعتم المعتاد؛ صالات السينما الصغيرة التي اعتدتها وما اعتادتني. رحت أُغرق فيها دموعي وظلّي.

الوقت ثقيل في الغربة، يزيده ثقلاً العتم والصقيع.

لكن مع مرض من نحبّ، يصبح الوقت مطرقةً، "والليل قلبه حجر ما فيه ولا نجمة".

وابتعدت فيروز، في غيم عتيق. صوتها طيف حلمٍ يمزّقني صداه، وأمواج بحر مستحيل ترتطم بي. 

مَن أنا؟ أنا لست من هنا: "أنا لست لي... ربما ما زلت حيّاً في مكان ما...".

في باريس، لاقاني صوت آخر من بلادي، وأنقذني.

صوت من براءة أخرى

هنا، لاقاني صوت آخر من بلادي، وأنقذني.

صوت لن نسترجع معه لبنان الذي كرّسته فيروز، فلا أحد غيرها قادر على تكريسه. 

لكن نستردّ معه الروح في انسيابه إلى أعماقنا، وتسلّله إلى جذورنا. 

صوت من طفولة أخرى، من براءة أخرى.

صوت تلاه حبّ لم يكبر بعد. صوت لا متناهٍ يعلو السماء آتياً من جبل بعيد، من شمال لبنان، يحمل معه خفّة الربيع ورائحة زهر الليمون. 

صوت أضحى سحابةً ورديةً في حياة يتآكلها الوهن والأرق. 

صوت لم أكن أعرفه في لبنان، برغم إلمامي بالموسيقى. كنت دائماً خارج الزمن، وخياراتي يحدّدها حلم أو وميض. 

وبعد وقت، تذكّرت أننا التقينا... أول لقاء لنا كان في أغانٍ عشقتها من فيلم "البوسطة". لم أكن أعرف يومها من هذا الصوت؟ ولا لماذا أحببته؟ بقي هو وامّحى من ذاكرتي الفيلم.

ثم أتت اللحظة. كم كانت جميلةً! وما الحياة إلّا لحظات تبرق في عالم ما بين النوم واليقظة.

دقّت على باب سمعي وأنا أشاهد وثائقياً مصرياً، أغنيةٌ لشادية، من التراث. نادتني بإصرار، فبحثت عنها، ولم أجد منها غير إصدار محدث وزّعه مارسيل خليفة، تغنّيه عبير نعمة...

رفضت الاستماع في البداية... أنا أبحث عن شادية، لكنني رضختُ واستمعت: "يا حنة"... هذا الصوت لم ينل من أذني من اللحظة الأولى، لكن صداه سكنني يوماً كاملاً. عزلني عن إرهاقي وعن أسطوانة يوميات فارغة أقاومها وهي تسرق منّي لغتي.


عدت واستمعت إليه، ودُهشت... وهنا غرقت، فسرقني من وحدتي، من ألمي، من قلقي على بلاد تركتها بين أنين عاصمة وحيدة، وأنين أوجاع أمّي. 

أنا التي لا تعرف أنصاف الأمور، بدأت بحثي عن كل أغاني عبير، بشغف، كأني بها أعوّض ذنب بُعدي عن كل ما تركت: "وكأنّي من قلبي ارتويت ارتويت ارتويت"...

وبدأت الرحلة الغنيّة، الغنيّة بقدر ما قدّمت الصوت في مداه الرهيب صاحبة الصوت في مسيرتها وسفرها في اللغات والحضارات، وأنا تستهويني حضارات تركيا وأوروبا الشرقية والألحان الصوفية. 

أخذتني عبير إلى حيث لا أدري، وعادت بي إلى تراتيل طفولتي، حين كنت أرافق رغماً عنّي أمّي إلى المراسم الدينية، فأغفو بالقرب منها وهي تصلّي... 

أخذتني عبير نعمة إلى حيث لا أدري، وعادت بي إلى تراتيل طفولتي، حين كنت أرافق رغماً عنّي أمّي إلى المراسم الدينية، فأغفو بالقرب منها وهي تصلّي... 


هكذا غفوت وصحوت في هذا الشتاء القاسي في باريس، على عذوبة هذا الصوت وسلاسته ورقّته. لامس كوابيسي وهمس لهم كي يرأفوا بي.

جماله رافق نزهاتي المنفردة، وانتصر على جمال باريس، جمال باريس الناقص من الألف، ومن الأنا. 

جماله لوّن كل ما غنّى، حتى أبسط قصص الحب، وارتفع بها حتى الكمال. ارتفعت معه غصون صغيرة، وأصبحت تحلم هي أيضاً بالغناء، وصار حزنها طيراً أبيض يملك السماء. 

رحلة بحثي عن هذه الموسيقى أوصلتني إلى عبير الإنسانة. رأيت حديقةً "يهواها قطر الندى"... كحديقة أمّي. 

رحلة بحثي عن هذه الموسيقى أوصلتني إلى عبير نعمة الإنسانة. رأيت حديقةً "يهواها قطر الندى"... كحديقة أمّي. 

رأيت طيبةً تفوح كعطر يغمر المكان حين ترنّم، وبسمةً تغمر الجماهير حين تغنّي، ورأيت حبّاً من حولها أنّى كانت. 

والجمال من دون طيبة، ضوء من دون شعاع. 

وعاد إليّ السؤال: "هل يستطيع الجمال إنقاذ العالم؟".

نغنّي قليلاً... ونحبّ كثيراً

ربما لن يقوى الجمال على المرض والموت، لكنه يبقى صديق ألمنا وصدى وحدتنا، يحمل ظلّنا ونصبح نحن النشيد. يغلب الموت فينا، فنقوى عليه.

الجمال هو حاجة الروح، والفن يجسّدها... وربما هذا الجمال وتلك اللحظات المتسامتة والومضات هي الوقود لرغبة البقاء على قيد الحياة.

وأيّ جمال؟

ربما الجمال في الركام، وفي مرور أزهار شجر الكرز العابر...

"الجمال هو الشطآن تتقارب، هو الأضداد تتّحد ويحلّ بينها الوئام"... 

وهكذا شطآن بلادي أصبحت أقرب. ومع غوصي في هذا الصوت، بدأت تتصدع الغربة بهوية جديدة، هوية غير مرئية وعصيّة على الإلغاء. 

ربما لن يقوى الجمال على المرض والموت، لكنه يبقى صديق ألمنا وصدى وحدتنا، يحمل ظلّنا ونصبح نحن النشيد. يغلب الموت فينا، فنقوى عليه

كتبت الأغنية جواز سفر، لا توقفه الحدود ولا تحرقه الحروب.  

في زمن أصبح من الصعب فيه إبقاء هويتك الحقيقية والنجاة، جاءت هذه الأغنية-القصيدة الفريدة في زمن "البوب"، لتعطي معنى آخر للثبات.

هذا زمن لا يحتاج إلى مزيد من المشاهير والأوهام، بل إلى صدق نحتمي فيه. 

في هذا الصوت، احتميت وهدهد خيالي في عودة بدت جميلةً. عدت أحلم وأزرع حقول بلادي زنابق بيضاء...

على طريق العودة، سأحمل أزهاراً، والأزهار أيضاً تسافر بخفّة.

زهرة توليب لعيد الأم، وأخرى لعبير في حفلها...

هل تلقاني؟ هل تراني؟

في هذه الموسيقى الصادقة الجميلة، هل تنتظرني أمّي؟ وبلادي؟

جسدي اليوم هنا، وروحي تحلم برحيق زهر الليمون، بأمّي التي تُزهر كل عام، وبصوتها الذي يلغي الصقيع.

أصحو وأردد لها في خوفي: "هاتي يديك، قد تعبت. في غير حضنك ما استرحت، وغير حبك ما وجدت"، فانتظريني... لا تتركيني.

وإلى عبير: "بعتلك صوتي، ردّيلي الصدى"...

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image