شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
متلازمة

متلازمة "لا قدرانة فلّ ولا قدرانة إبقى"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الخميس 9 مايو 202410:41 ص

لم أعد أعرف أحبابي ولا هم يعرفونني. لم يبق لي سوى تلك النسخة منهم قبيل رحيلي، رحلت وفي حقيبتي جواز سفر، جيز لي بالسفر بعد ألف عائق ومليون إحساس بالخزي. مهما كنت مؤمناً بأن دفتر الورق هذا لا يحدّد مكانة الإنسان على سلّم الكرامة، ستجد نفسك مجبراً، تحت سياسات المطارات في العالم، لأن ترضخ وتطأطأ رأسك، مهما كنت ذا عنفوان. بعض من الأوراق النقدية و"هم" كما تعرفهم.

بعد المطار (إن كنت من المحظوظين) لأن حتى في الغربة واللجوء هناك "خيار وفقوس"، سواء كنت من هذا أو ذاك، ستنفصل عن أقرب الناس لك، مثل ما انفصلت عنهم أول مرة بعد قطع الحبل السري، ولا فرق في شدّة البكاء بين الحالتين، إلا أن الأولى بلا وعي، وتبدأ رحلة الغوص في بحور الوجدان وأعماق الذات، وتطفو أحياناً بعد أن تجد نفسك وتحظى بأناس حنونين حولك.

حينها فقط يبدأ المغترب بإدراك أن هناك ما يمكن ملء فراغه فيه، سواء كان سفراً أو سهراً أو حتى عبر المبالغة في الاستهلاك… وغيرها من الطرق.

"المهم" نعيش بعدها حالة معقدة نوعاً ما، يعجز عنها الأطباء و المعالجون النفسيون في المهجر. حالة صعبة تسمى بمتلازمة "ﺇﺫﺍ رجعت بجنّ وان تركتك بشقى، لا قدرانة فلّ ولا قدرانة أبقى"، ولتعذرنا فيروز على استعارتنا هذه.

يصاب بهذه الحالة أغلب من يلجأ أو يتغرّب عن أهله ووطنه وأحلامه.

حينما نجد أنفسنا وحيدين في الغربة، ندرك أننا قد فقدنا شيئاً لا ندري ما هو، في أقرب الناس، ونجد أنفسنا محاصرين في أطوار من التغيير الذاتي، فنحن لم نعد نعرف أنفسنا كما كنا سابقاً، ولا نعرفهم كما كنا نظن

أعراض هذه الحالة صعبة وكثيرة جداً، يظهر أغلبها على السرير وفي المعدة، وتشتدّ الحالة عند أغلب المصابين بهذه المتلازمة بعد مكالمات "صلة الرحم"، وبعد سماعهم الرد على السؤال المعتاد: "شو الأخبار؟ طمنوني عنكن؟".

قبل أن أتغرّب، كنت أعتقد أن المسألة مجرّد انفصال جغرافي، مكاني وزماني، لكن للأسف هي ليست كذلك فقط، بل هي حالة من الفقدان الروحي. نجد أنفسنا غرباء عن أوطاننا، وغرباء عن أقرب الناس لنا، مهما كثرت ال "VC" اليومية، التي لا تعوّض حاجاتنا لوجودهم حولنا في الأفراح والأتراح، في الأيام التي كانت من المناسبات، قبل أن تتحول في الروزنامة إلى صفحة أيام روتينية، باهتة ومكرّرة.

الأسئلة تكثر يوماً بعد يوم، خاصة بعد ضمان الإقامة وبدء العمل على الاستقرار والاندماج، ومن أكثر هذه الأسئلة أولوية عندي هي: من تغيّر بعد كل هذه السنين؟ هل تغيّرت أنا أم تغيروا هم؟ هل نتج هذا التغيّر من تبدل في الشخصيات أم في الظروف؟

يلامس هذا السؤال جذور قلبي ويحفر في أعماق ذكرياتي عنهم للبحث عن الإجابة. يمكن أن يكون هذا الانشقاق نتيجة حتمية للغربة، يفرضها الزمان والمكان والبيئة الجديدة والرفاق و… وقد يكون أيضاً نتيجة لتغيرات في أنفسنا، لكن حينما نجد أنفسنا وحيدين في الغربة، ندرك أننا قد فقدنا شيئاً لا ندري ما هو، في أقرب الناس، ونجد أنفسنا محاصرين في أطوار من التغيير الذاتي، فنحن لم نعد نعرف أنفسنا كما كنا سابقاً، ولا نعرفهم كما كنا نظن، لكن تبقى لنا فيهم صورتهم القديمة وحبهم الأزلي.

لم أعد أعرف أحبابي ولا هم يعرفونني

الغربة هنا تمثل رحلة داخلية أكثر من كونها رحلة جسدية. إنها رحلة نحو الذات، رحلة نحو فهم أعمق لماهيتنا، ورحلة تجبرك أن تكون عائلة لذاتك ولمحيطك. إن كنت من "المرزوقين ": أم وأب، أخ أو أخت، صديق أو جار أو ابن عم أو خالة، على حسب الموقف والسياق، تفعّل شخصية الأم حين الحاجة للحنان أو الحب، وتلعب دور الأب حين يصيب منزلك عطل كهربائي، وأخ لذاتك ولمن في حاجة لـ "عبوطة" تنسيه القوة والاستقلالية لثوان. جار لنفسك ولجارك، تتشاركان الأكل والدمع والأسرار وبعض التمرّد على قوانين المجتمع الأبيض، حيث تجلسان على السرير وتتسامران طوال الليل دون تدوين هذا الوقت في الأجندة.

أنا من أولئك الذين هاجروا صغاراً، مهما كنا ذوي معرفة ومشبعين بعادات مجتمعنا وبعض من القيم التي ترسّخت فينا، إلا أننا أجبرنا على ترك البلاد قبل تعلّم أن نكون "موجّبين". التوجيبات واحدة من الأسس المبني عليها مجتمعنا "المترابط" والتي يجب أن نمارسها حتى ننجح في بناء علاقات مع العائلات العربية في المهجر، و بهم نستقوي قليلاً في مواجهة غربتنا، ومعهم فقط يكون لنا في الأعراس والمعمول وفي "غصيتلك بهالأكلة، قوم تعا" نصيب، عدا أنهم أقرب لمجاز الأهل هنا.

كانت الزيارات إلى محلات الحلويات والورود قبل الغربة تمرّ مرور الكرام، لم يصدف لي أن ركزت أي لون ورد يهدى في حالة المرض، وأي نوع بقلاوة يقدّم في العزائم، الآن أصبحت أنا من يعزم ومن يختار ليكون بجانب أخيه "المجازي" في مرضه: ماذا أهدي فلاناً؟ وماذا أقول فور دخولي منزله؟

سنحب هنا وهناك، ونحب من هنا ومن هناك، و نشتاق أكثر لهم ولمن كانوا عليه قبل أن تكثر أسفارنا

مع مرور الوقت، وبعد الكثير من "والله نحن ما منعتب عليك وما تعب حالك"، وجدت نفسي أستعين بالمسلسلات وخبرات الاصدقاء الأكبر مني سناً، فصرت أستعير كلماتهم وأسلوبهم في بدء مكالمات التهاني وغيرها، أو في استفتاحية العزومة على الباب.

في مكالمة: "ألو… مرحبا خالة، مبروك ماجاكم، وتتربى بعزكم انشاء الله، حابب قوم بالواجب وأجي باركلكن".

في محل الحلويات أيضاً: "مرحبا ريس. ما بعرف شو بيجيبو ولا شو بيحكو، فيك تنقيلي عذوقك، رايح بارك بمولود. هن عيلة من خمسة، وليك فيك كمان تقلي شو بيقولوا بس فوت عالبيت؟".

وهكذا نكون "موجّبين" بعض الشيء، ونضمن شعورنا بالانتماء رغم البعد عن الوطن.

في الأخير، وبعد الكثير من اللقاءات مع زملائي المغتربين واللاجئين، ننقسم إلى نوعين، واحد يسعى لملء الفراغ في الإكثار من المشاريع والترفيه عن الذات، وآخر مستسلم للواقع المرير، ويسمح للنظرة الدونية عن اللاجئ أو المغترب بأن تسجنه في جسده قبل بيته. وبالرغم من كل الألم الناجم عن الانشقاق والغربة عند الطرفين، هناك مسكّن آلام واحد يساعد كليهما، هو اكتشاف أجزاء جديدة من الذات، وعلاقات جديدة تنعش الروح وتمنحنا الشعور بالحنية مجدداً.

سنحب هنا وهناك، ونحب من هنا ومن هناك، و نشتاق أكثر لهم ولمن كانوا عليه قبل أن تكثر أسفارنا.

في نهاية المطاف، تذكّر أنه كُتب علينا أن نكون من البقعة الجغرافية الحزينة تلك، والتي رغم كل أحزانها جميلة، ونحن مضطرون نوعاً ما للتعايش مع متلازمة "ﺇﺫﺍ رجعت بجنّ وان تركتك بشقى، لا قدرانة فلّ ولا قدرانة أبقى"، لأنه لم يبق لنا أي خيار آخر سوى أن نكمل الرحلة، وعلى الرغم من الألم الذي قد يرافقنا فيها، إلا أنه يمكن أن نقسو ونحب ذواتنا أكثر قليلاً، ونسمح للغربة أن تلعب دورها في تشكيلنا قليلاً، و في "تسميك" جلدنا، لأن الغربة ليست لذوي الجلود الرقيقة.

طوبى لنا ولكل من أجبر على البعد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard