في المهجر… لماذا  تزهر النساء العربيات في خريف أعمارهنّ؟

في المهجر… لماذا تزهر النساء العربيات في خريف أعمارهنّ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 8 مايو 202509:37 ص


في أوطانهنّ، كانت عقارب الساعة تركض قبلهنّ دائماً، بحيث يقف الزمن لهنّ بالمرصاد، ويضع لهن سنوات محددةً لتحقيق أمور بعينها، ويحاصر خطواتهن بأسئلة من نوع: هل أستطيع أن أبدأ من جديد وأنا في هذه السنّ؟ 

في المجتمعات العربية، تشعر نساء كثيرات بأنّ الحياة سباق مرهق، وبأنّ الأحلام لها "تاريخ انتهاء صلاحية". 

لكن في المهجر، يبدو الزمن مختلفاً. لا أحد يلاحقهنّ بأسئلة الأعمار، ولا تُقاس قيمتهنّ بتسلسل الإنجازات. هناك، يمكن أن تبدأ المرأة من جديد: أن تدرس، أن تغيّر مسارها المهني، أن ترتدي ما تشاء، أن تتكلم دون خوف… وأن تُعيد تشكيل ذاتها على مهل.

لهذا السبب، تزهر النساء العربيات في المهجر في خريف أعمارهنّ. ربما لأن السرّ في الربيع، هو أنه يأتي ... عندما يصبح الوقت ملكاً لهنّ.

ذات المعطف الأخضر

في الخريف الماضي، اتصلت بي ابنة عمي درّة، وهي أستاذة رياضيات تقيم في الولايات المتحدة منذ عام 1997، وتبلغ من العمر 62 عاماً. أخبرتني بأنها ستمرّ بباريس في طريق عودتها من تونس إلى أمريكا، ودعتني إلى شرب فنجان قهوة. اتفقنا على اللقاء في مقهى صغير بالقرب من برج مونبارناس.

عندما وصلت، كان برج مونبارناس يعلو مضيئاً ومتحدياً رمادية السماء وما يتصاعد من مداخن المدينة. وعلى الرصيف أمام المقهى، وقفت درّة شامخةً كبرج من نور، ترتدي معطفاً أخضر طويلاً، متحدياً معاطف الباريسيين السوداء.

تحدثنا عن حياتها، عن ابنيها، عن عملها، واستعادت معي ذكرياتها في باريس، المدينة التي أنفقت فيها خمسة أعوام من عمرها. كنت أراقبها وهي تتكلم، وأدرك شيئاً فشيئاً كم تبدو قصتها مختلفةً عن تلك الصورة النمطية التي كثيراً ما تُرسم للنساء العربيات المهاجرات في فرنسا وسواها من البلدان المستقبِلة، خاصةً مع التقدّم في العمر.

في السرديات السائدة، غالباً ما تُقدَّم النساء المهاجرات على أنهنّ ضحايا هشاشة أو فقر أو اغتراب دائم، ويُنظر إليهنّ في الخطاب العام باعتبارهنَ فئةً تعاني من أزمات بنيوية. أما درّة، فكانت بنقاشها الواثق، وحضورها الأنيق، وكلماتها النابضة بالحياة، صورةً أخرى تماماً؛ صورة امرأة تجسّد القوة، والاستقلال، والقدرة على إعادة تعريف الذات بعيداً عن القوالب الجاهزة والمستهلكة.

يتناول الباحثون في القضايا الاجتماعية، تصوّرات المجتمع حول التقدّم في العمر، حيث يُنظر إلى المهاجرات ممن تجاوزن مراحل الشباب وكأنهنّ معتمدات على غيرهنّ، أو غير قادرات على التمتّع بحقوقهنّ الكاملة. وغالباً ما تؤدي هذه التصوّرات إلى تهميش أصوات الفئات الأكبر سنّاً، خاصةً عندما تتقاطع مع عوامل أخرى مثل النوع الاجتماعي والأصل الثقافي، كما هو الحال بالنسبة إلى المهاجرات.

تنجح بعض النساء المهاجرات في مراحل متقدمة من العمر، في إعادة تشكيل أدوارهنّ بعيداً عن القوالب التقليدية في بلدانهنّ الأصلية

في دراسة صادرة عن معهد البحوث والدراسات الصحية والاقتصادية والاجتماعية (IRDES)، نُشرت في آذار/ مارس 2012، وتُعدّ من أوائل الدراسات التي تناولت مسألة اندماج المهاجرين المسنّين في أوروبا، مع تركيز خاص على الفروق الجندرية، أًشيرَ إلى أنّ النساء المهاجرات المتقدمات في السّن يواجهن عبئاً مضاعفاً ناتجاً عن تقاطع التمييز القائم على النوع الاجتماعي والانتماء الثقافي. ويحدّ هذا التمييز من قدرتهنّ على الوصول إلى شبكات الدعم وفرص العمل والخدمات الصحية. كما أنهنّ أقلّ مشاركةً في الحياة المجتمعية والأنشطة التطوعية مقارنةً بنظيراتهنّ من المواطنات أو بالرجال المهاجرين، ما ينعكس سلباً على مسار اندماجهنّ الاجتماعي.

ومع ذلك، تسلّط الدراسة الضوء على نقطة محورية؛ إذ تشير إلى أنّ بعض النساء المهاجرات، خصوصاً في مراحل متأخرة من أعمارهنّ، ينجحن في استثمار فضاءات المجتمعات المضيفة لإعادة تشكيل أدوارهنّ بعيداً عن القوالب التقليدية التي قيّدتهنّ بها مجتمعاتهنّ الأصلية، وهو ما يُمكّنهنّ من استعادة طموحات لطالما جُمّدت أو أُقصيت. وهو ما ينطبق تماماً على درّة، التي تمثل نموذجاً مختلفاً، يتجاوز القوالب الجاهزة التي تُرسم عادةً للنساء المهاجرات المتقدّمات في السنّ. لم تكن تجربتها استثناء، بل تعكس مساراً شجاعاً تسلكه العديد من النساء اللواتي رفضن اختزالهنّ في صور نمطية عن الضعف أو التبعية.

سرّ الأوركيد 

ربما تُعدّ أزهار الأوركيد الساحرة، التي ترمز إلى القوّة والأنوثة، من أكثر ما يُعبّر عن روح النساء العربيات المهاجرات اللواتي قابلهنّ رصيف22، في إطار الإعداد لهذه المادة. فهذه الزهرة، بألوانها المتعددة وأناقتها اللافتة، أكثر ما يميّزها أن معظمها لا ينمو في التربة، بل يتعلّق بجذوع الأشجار أو الصخور… وهكذا هنّ النساء العربيات اللواتي أزهرن في المهجر، بعيداً عن أرضٍ يتكلّمن لغتها، ويعشقنّ ترابها الذي ضاق يوماً بأحلامهنّ.

تقول ثريا (68 عاماً)، من أصول مغربية وتعيش في باريس: "جئت إلى فرنسا منذ ما يزيد عن 40 عاماً للدراسة، وعملت في عدد من المجالات في أثناء دراستي في السوربون، حيث تخصّصت في الأدب الفرنسي. اليوم، أنظر إلى رحلتي بكل امتنان، فقد كنت جزءاً من الدورة الاقتصادية لهذا البلد، وبصفتي متقاعدةً اليوم، أتمتّع بحقوقي كاملةً".

النساء العربيات في المهجر، خصوصاً من لديهنّ تحصيل أكاديمي وخبرة عملية، لا يرَين في التقدّم في العمر عائقاً، بل نضجاً يدفعهنّ للمضي قدماً

فيما تصف الدكتورة جواهر بواب (62 عاماً)، وهي طبيبة تونسية متخصصة في التشخيص الشعاعي والتصوير الطبي، تجربتها في المهجر بأنها غنية ومليئة بالتحدّيات. الطبيبة التونسية التي أمضت 11 عاماً متنقلةً بين تونس وفرنسا، لنقل خبراتها إلى بلدها الأمّ، تحب أن تصف نفسها بأنها أمّ لثلاثة أبناء وجدّة.

تواصل بواب، حديثها إلى رصيف22: "لم أشعر يوماً بأن التقدّم في العمر يحدّ من طموحي أو قدرتي على التطور".

وكذلك سناء (57 عاماً)، وهي مهاجرة تونسية عاشت في فرنسا وتقيم حالياً في كندا، ترى أن لا تاريخ صلاحية لتطوير الذات، وتقول: "وصلت إلى كندا قبل 25 عاماً، وخلال هذه الرحلة لم أتوقف عن التطور والتحدي. غيّرت مهنتي مرتين، درست وما زلت أواصل التعلّم، وأؤمن بأنّ الإنسان قادر على النمو في أي مرحلة من حياته. بدأت من الصفر، واجهت صعوبات التأقلم والاندماج، لكنني لم أستسلم. اليوم، أرى نفسي نموذجاً للمواطنة الفاعلة؛ أعمل بجدّ، وأساهم في الاقتصاد، وأدفع الضرائب، وأدعم الأخريات اللواتي يمررن بتجارب مشابهة".

بين هويّتين 

لم تكن الهجرة بالنسبة للنساء العربيات اللواتي التقتهنّ معدّة التقرير، مجرد انتقال جغرافي، بل هي رحلة مستمرة لإثبات الذات، والتأقلم في الدولة المضيفة دون الانسلاخ عن الجذور، والموازنة بين هويتين يشعرنّ بالانتماء إليهما دون تعصّب.

تجسّد ليلى، (65 عاماً)، وهي مهاجرة تونسية تعيش في باريس، هذا التحدّي بقولها: "جئت إلى فرنسا منذ أكثر من 40 عاماً، وأنا اليوم أمّ لأربع بنات وجدّة لخمسة أحفاد، ومتقاعدة منذ عام. أشعر بفخر كبير ببناتي وأحفادي، وبكل ما حققته طوال هذه السنوات. تمكنت من الاندماج في مجتمع مختلف، عملت بجدّ، وأسّست عائلةً متوازنةً حافظت على جذورها التونسية، وفي الوقت ذاته تأقلمت مع نمط الحياة في المجتمع الفرنسي".

بدورها، تؤكد آمال (64 عاماً)، لرصيف22، وهي مهاجرة تونسية تعيش في باريس، أنّ التعليم والحفاظ على الهوّية الأمّ هما من أهم ما حرصت على التثبت منهما في مسيرة اندماجها في البلد المضيف: "حرصت دائماً على أن يكون أبنائي من بين الأفضل في دراستهم، وعلّمتهم أنهم فرنسيون برغم اختلافهم، وأن يندمجوا في المجتمع دون أن يتخلّوا عن هويتهم التونسية. إلى ذلك، كنت وما زلت ناشطةً في جمعيات عدة تهتم بالقراءة والفنون وحقوق النساء، إيماناً منّي بأهمية الثقافة والمعرفة في بناء مجتمع أكثر وعياً وعدالةً".

لا تخفي درّة، في حديثها إلى رصيف22، أنّ تنشئة ابنَيها كانت من أكبر التحدّيات التي واجهتها في مهجرها الأمريكي. تقول: "كنت أدرك منذ البداية أن تربيتهما لن تكون سهلةً، خاصةً في بيئة تميل إلى صهر الهويات في نموذج واحد. كنت أحرص على أن يتحدثا العربية في المنزل، وأن يتعرفا على جذورهما، ليس من خلال القصص التي أرويها فحسب، بل أيضاً عبر زيارات منتظمة إلى تونس، حيث تعلّما أنّ لهما امتداداً أوسع من حدود المكان الذي يعيشان فيه". 

وتوضح درّة، أنّ وجود أخيها وابنَي عمّتها في الولايات المتحدة، منحها شعوراً بأنّ لها عائلةً صغيرةً في المهجر، وهذا جعل الغربة أقلّ وطأة. وتضيف: "حاولنا الحفاظ على عاداتنا، خاصةً في رمضان والأعياد، لنشعر بأننا لم نفقد امتدادنا. حتى في منزلي، كنت أحرص كل يوم أحد على طهو الكسكسي التونسي، كأنّه طقس يربطني بجذوري ويقاوم ثقافةً سريعة التغير من حولي. كنت أقول لنفسي إنني لا أواجه مجرد اختلاف في الطعام، بل أحفظ لابنَيّ ذاكرةً وهويةً تمتدان أبعد من المكان الذي ترعرعا فيه".

وفي هذا السياق، تقول جواهر: "لم أستطع يوماً التخلّي عن جذوري في تونس، ولا عن عملي كطبيبة هنا. اخترت أن أعيش بين بلدين، وهذا يمنحني إحساساً لا مثيل له بالراحة والتوازن. بفضل هذا النمط من الحياة والذي أسمّيه 'النمط الابن بطوطي'، تمكنت من البقاء قريبةً من ابني الذي يعيش في تونس، وفي الوقت نفسه، من ابنَيّ الآخرين اللذين يعيشان هنا في فرنسا، خاصةً حفيدي الذي أحرص على أن أكون جزءاً من حياته".

كما أنّ دور الجدّة أصبح جزءاً أساسياً من حياة العديد من المهاجرات، حيث يلعبن دوراً مهماً في دعم الأجيال الجديدة، ومساعدتها على الموازنة بين الثقافتين.

تقول ليلى: "أحفادي هم فرحتي الكبرى. أحاول دائماً أن أنقل إليهم قيمنا وعاداتنا، وأحكي لهم القصص عن بلدي الأصلي حتى لا ينسوا جذورهم. في الوقت نفسه، أشجعهم على الاندماج في المجتمع الذي يعيشون فيه، لأنّ مستقبلهم هنا".

مسار إجباري

من أعمق التحديات التي تواجه النساء المهاجرات في المجتمعات المضيفة، الاضطرار إلى البدء من جديد في المسار العلمي أو المهني. كثيراً ما يصطدمن بواقع عدم الاعتراف بشهاداتهنّ الأكاديمية أو خبراتهنّ العملية، ما يدفعهنّ إلى إعادة الدراسة واكتساب خبرات جديدة في مجالات مختلفة، في محاولة لإثبات الذات ومواصلة الطريق.

بسبب عدم اعتراف الدول المضيفة بشهاداتهنّ وخبراتهنّ، تُضطرّ النساء المهاجرات إلى البدء من الصفر، وهو ما يُعدّ أمراً صعباً، لكنه في الوقت نفسه يشكّل تحدياً محفزاً

تقول سناء: "عندما وصلت إلى كندا، لم تكن شهادتي معترفاً بها، فوجدت نفسي مضطرة إلى العودة إلى مقاعد الدراسة حتى أتمكن من العمل. بدأت في مجال رعاية الأطفال ذوي طيف التوحد والصعوبات السلوكية، لكن لاحقاً رغبت في تجربة مهنية مختلفة. عدت للدراسة مرةً أخرى، واليوم أعيش مساراً مهنياً جديداً تماماً".

أما ثريا، فاختارت أن تنظر إلى هذا التحدي كفرصة للتطور. تقول: "عندما جئت إلى فرنسا، كنت أحلم بالتدريس، لكنني أدركت سريعاً أن عليّ تعديل مساري. درست الأدب الفرنسي في جامعة السوربون، واضطررت إلى العمل في مجالات أخرى خلال فترة دراستي. لم يكن الأمر سهلاً، لكنني أؤمن بأنّ إعادة البناء ليست مجرد تغيير، بل فرصة حقيقية للنمو والتعلّم".

الانحياز العاطفي

بذكاء لافت، أدركت النساء المهاجرات من أصول عربية أن تنظيم أنفسهنّ وتبادل الدعم والخبرات في ما بينهنّ، من الركائز الأساسية التي تساعد على الصمود والتطور والاندماج السريع في المجتمعات المضيفة. ولهذا السبب، انخرطن في جمعيات ومبادرات مجتمعية تهدف إلى دعم المهاجرين والمهاجرات وتسريع وتيرة اندماجهم/ نّ من خلال العمل الجماعي والنشاط المدني.

تقول آمال: "في البداية، منذ أكثر من 40 سنةً، كنت أبحث عن فضاء أعبّر فيه عن نفسي وأتواصل مع نساء يشاركنني التحديات نفسها. انضممت مع ليلى، إلى الجمعية الديمقراطية للتونسيين في فرنسا (ADTF)، حيث شاركنا في أنشطة تهدف إلى مساعدة المهاجرات على الاندماج. لاحقاً، التحقت بمدينة حقوق النساء (Cité des Droits des Femmes)، وهناك بدأت أشارك في ورشات تمكين لمساعدة النساء على إعادة بناء مساراتهنّ المهنية والشخصية. اليوم، أشعر بأنني أقوى وأكثر قدرةً على دعم الأخريات في رحلتهنّ".

لكنّ المقاومة لم تكن محصورةً في الأطر التنظيمية فحسب، بل تجلّت أيضاً في أفعال التضامن اليومي بين المهاجرين والمهاجرات، على نحو يعكس شعوراً جمعياً بالمسؤولية.

توضح الدكتورة جواهر، لرصيف22: "عندما أرى مهاجراً/ ةً بحاجة إلى مساعدة، لا يمكنني أن أبقى محايدة. أقدّم له/ ا الدعم حتى لو كان ذلك خارج نطاق عملي الرسمي، سواء عبر الترجمة، أو توجيهه/ ا إلى الخدمات الصحية، أو حتى مساعدته/ ا في أخذ موعد طبي. أشعر بأنّ هذا واجبي، لأنني أعرف تماماً كم هو صعب التنقل في نظام صحي معقّد حين تكون لغتك الفرنسية ضعيفةً أو لا تعرف حقوقك كمهاجر/ ة".

هذا الشعور العميق بالمسؤولية، يوضح كيف أنّ النساء المهاجرات لا يكتفين بالتأقلم مع واقعهنّ الجديد، بل يتحوّلن إلى فاعلات في محيطهنّ، يقدّمن الدعم للآخرين من موقع التجربة. وهكذا، يصبح انحيازهنّ للمهمّشين فعل مقاومة واعياً في وجه التمييز والتهميش، لا مجرد تعاطف.

الحنين الذكيّ

تستعيد آمال وليلى وثريا، ذكرياتهنّ الأولى في المهجر، ويتحدثن بشغف عن اللحظات التي جمعتهنّ حول البثّ الأول لراديو الشرق. تبتسم ليلى، كأنها تستحضر تلك الأيام قائلةً لرصيف22: "كان راديو الشرق بالنسبة لنا حلماً يتجسد في أصوات تأتينا من بعيد، يربطنا بالعالم الخارجي. لم نكن نتصور أنّ التقنية ستصل بنا إلى ما نحن عليه اليوم، لكن آنذاك، كان ذلك الراديو نافذتنا الصغيرة التي تفتح على أخبار الجالية العربية هنا".

وتكمل آمال: "في البداية، كنّا مجموعةً صغيرةً من الأصدقاء العرب، ولم يكن اندماجنا في المجتمع الجديد سهلاً. لكن مع مرور الوقت، وبفضل علاقتنا القوية، تمكّننا من تجاوز الصعوبات والتأقلم مع حياتنا هنا".

لكن التكنولوجيا الحديثة، أسهمت إلى حدّ كبير في مساعدة النساء المهاجرات في الحفاظ على الروابط العابرة للحدود من خلال التواصل المستمر مع عائلاتهنّ في الخارج أو العودة إلى بلادهن الأصلية متى سنحت الفرصة.

تقول جواهر: "عندما مرضت والدتي، كنت أتابع حالتها الصحية عن بُعد، وأحرص على الاطمئنان عليها باستمرار. لا يمكنني إنكار أن تنقّلي المستمرّ بين تونس وفرنسا لعب دوراً كبيراً في تجربتي، فقد جعلني أشعر بأنني موجودة في كلا المكانين في آن واحد".

وتضيف ليلى: "كنت أتصل بوالدتي يومياً لأذكّرها بمواعيد أدويتها. وعندما اشتد بها المرض في أيامها الأخيرة، كنت بجانبها دون أن أفارقها لحظةً واحدة".

بين صورتين

بعد كل الحكايات التي في إطار هذه المادة، يتّضح أن الهجرة ليست انتقالاً جغرافيًاً فحسب بل رحلة طويلة لإعادة تشكيل الذات، ومواجهة الصور النمطية، وإعادة التفاوض على الهوية.

في كل لقاء، كانت هناك خيوط مشتركة: إصرار، ومرونة، وقدرة مذهلة على التكيّف، بل وعلى الإزهار في أماكن لم تكن دوماً مهيّأةً للاحتفاء بهنّ.

بينما كنت أودّعها عند باب المقهى، كانت درّة، تشدّ معطفها الأخضر حول جسدها، تتحدى به برد باريس، كما تحدّت لسنوات صوراً نمطيةً حاولت أن تحصرها في أدوار لم تكن لها، وتحدّت قبلها منظومةً مجتمعيةً سعت بدورها إلى الحدّ من أحلامها.

نظرتُ إليها، فرأيت فيها أكثر من مجرد قريبة؛ رأيت رمزاً لصمود النساء المهاجرات، قوةً تروي حكاية نساء لم يتوقّفن عن إعادة بناء أنفسهنّ، برغم المسافات، وبرغم ما حملته الغربة من اختلافات.

عندما غادرت، ظللت أفكّر في كل ما روته لي، هي والنساء اللواتي التقيتهنّ خلال إعداد هذه المادة. فكرت في ضحكتها العميقة التي تخفي خلفها قصصاً من النضال والتحدي، وفي نظرتها التي تحمل اتساع هويّتين لا تتنافران، بل تتكاملان.

هكذا، مثلما لا يذبل الأوركيد برغم تبدّل الفصول، تبقى النساء مثل درّة: متجذّرات برغم الرياح، مزهرات برغم الزمن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image