أكياس الطحين في غزة... طعامٌ للجياع أو طُعمٌ للقناصة؟

أكياس الطحين في غزة... طعامٌ للجياع أو طُعمٌ للقناصة؟

وسط جريمة إبادة جماعية ترتكبها إسرائيل بحق أكثر من مليونَي إنسان في قطاع غزّة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يعيش الفلسطيني واحدةً من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ، حيث أُجبر أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني على النزوح القسري، وسط دمار واسع للبنية التحتية وانهيار شامل للقطاعات الأساسية. إلا أنّ هذه المساعدات التي كان يُفترض أن تكون طوق نجاة، تحولت إلى مصدر آخر للوجع في ظل فوضى عارمة، وغياب آليات شفافة تنظم عملية التوزيع.

آليات التوزيع ومخاطرها في ظلّ الحصار الإسرائيلي

منذ أوائل آذار/ مارس الماضي، منعت القوات الإسرائيلية دخول المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية إلى قطاع غزّة بشكل كامل، ما أدى إلى تفاقم أزمة الجوع بشكل غير مسبوق. في ظلّ هذا الحصار الإسرائيلي، ظهرت جهة تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية GHF"، وهي منظمة أمريكية مدعومة بشكل مباشر من إسرائيل، لتتولى توزيع المساعدات بآليات أثارت جدلاً واسعاً حول التزامها بالمعايير الإنسانية.

وتحت ضغط انتقادات دولية، سمحت تل أبيب بدخول كميات محدودة من المساعدات، إلا أنّ آلية التوزيع المفروضة لم تختلف كثيراً، إذ تُرمى السلال الغذائية في مناطق مفتوحة يتجمهر فيها آلاف المواطنين وسط مخاطر شديدة، تحت مراقبة القنّاصة وتطويق الآليات العسكرية. هذا التوزيع لا يهدد حياة الناس فحسب، بل يعزز سيطرة الاحتلال على الموارد الأساسية، ويحول رغيف الخبز إلى أداة إذلال.

في هذا السياق، تواجه الجهات المحلية تحديات كبيرةً، إذ تؤكد وزارة التنمية الاجتماعية في غزة أنّ الواقع الميداني خرج عن السيطرة خلال الأشهر الأولى من الحرب، بعد تدمير المقارّ الحكومية، وانقطاع وسائل الاتصال، ما أفقد الوزارة القدرة على الوصول إلى قواعد بياناتها. لذلك استعانت الوزارة بالبلديات والمجتمعات المحلية لسدّ الفجوة، برغم عدم جهوزيتها للتعامل مع احتياجات ما يقرب من مليونَي نازح. "كنا نواجه واقعاً يفوق إمكانيات أي مؤسسة، وفوضى التوزيع كانت حتميةً"، بحسب المتحدثة باسم الوزارة.

الجهة الأميركية التي تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية" أو "GHF" وتدير التوزيع بتعاون إسرائيلي أمريكي، لا تخضع لأي مساءلة حقيقية، ولا لرقابة من أي نوع، نتيجة غياب وجود جهات دولية في غزة. كما أن آليات التوزيع التي تتبعها مشكوك بها، ويرى البعض أنها أقرب إلى طُعم منها لطعام

أما المكتب الإعلامي الحكومي، فهو يلعب دوراً محورياً في متابعة وتوثيق عمليات التوزيع، عبر رصد كميات المساعدات وآليات التوزيع، مع التركيز على الشفافية والكشف عن التجاوزات، مستعيناً بشبكة من الصحافيين الميدانيين وشهادات المواطنين. 

وبرغم عدم تدخّل المكتب المباشر في إدارة التوزيع، إلا أنه يراقب الالتزام بالمعايير الأخلاقية ويصدر بيانات رسميةً وتحذيرات تجاه أي ممارسات خطأ، خصوصاً مع انتشار آليات توزيع مشبوهة خارج الإطار الإنساني الرسمي تشكّل خطراً على المدنيين.

توجد أيضاً قنوات مفتوحة لاستقبال شكاوى المواطنين والإعلاميين بشأن أي خلل أو تجاوزات، ويؤكد المكتب أنّ هذه البلاغات تُحال إلى الجهات المختصة لضمان تصحيح الأخطاء وحماية مصداقية العملية الإغاثية.

أما بخصوص آلية التوزيع الأمريكية-الإسرائيلية، فيصفها المكتب الإعلامي بأنها لا ترقى إلى أدنى معايير العدالة والشفافية، بل تشكل خطراً جسيماً على المدنيين بسبب إدارتها الأمنية ومواقع التوزيع المكشوفة، حيث تتحول نقاط التوزيع إلى ساحات قتل جماعي، مع استبعاد واضح للفئات الأكثر حاجةً وغياب للتوزيع العادل. ويرى المكتب أنّ هذه الآليات تهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وتحويل المساعدات إلى أداة إذلال وجوع ممنهج، مطالباً بوقفها فوراً وإعادة توزيع المساعدات عبر قنوات رسمية ومحايدة.

غياب الإنصاف في التوزيع… روايات من نازحين

في الميدان، تتحدث شهادات المواطنين عن واقع أكثر قسوةً من أي بيان رسمي: يقول سامي أبو يوسف، نازح من بيت حانون شمالي القطاع ومقيم حالياً في أحد الملاجئ العشوائية في المنطقة، لرصيف22، إنه شاهد مئات الشاحنات تمرّ من أمام منزله المدمّر دون أن يحصل على أي مساعدة، ويتساءل بحسرة: "هل نحن غير محسوبين ضمن سجلات المساعدات؟".

نادية خليل، من رفح، تؤكد في حديثها إلى رصيف22، أنّ بعض المخيمات تتلقى مساعدات من أكثر من جهة في الوقت نفسه، في حين تُترك مناطق أخرى لمصيرها. تقول: "هناك محسوبية وواسطة، واللي عنده معرفة بيوصل واللي ما عنده بضيع". 

هذه الشهادات لا تعبّر فقط عن اختناقات لوجستية، بل تكشف عن خلل ضعف عميق في الشفافية والمساءلة، وغياب منظومة عادلة لتوزيع الموارد، بما يهدد مبادئ العمل الإنساني في جوهرها.

ولم تكن الفوضى في مراكز التوزيع نقص في الإدارة، بل تحولت في بعض المواقع إلى خطر فعلي على حياة الناس. 

وزارة التنمية في غزة فقدت قواعد بياناتها بسبب القصف، وتعمل بشكل مرتجل عبر البلديات، بينما تُترك الفوضى لتمزيق ما تبقى من ثقة الناس، كأن المطلوب ليس فقط تجويع الفلسطيني، بل تدمير قدرته على تنظيم ذاته.

جهاد حسن، نازح من غزّة إلى رفح، يروي لرصيف22 كيف كاد أن يختنق من غاز الفلفل في أثناء محاولته استلام مساعدة إنسانية من أحد مراكز التوزيع الأمريكية على حدود القطاع. "الكمية يلي استنشقتها كانت كافية لتقتلني في المكان. طلعت بصعوبة من الزحمة، والناس كانت بتضرب ببعض"، يقول بصوت مختنق.

ويشير جهاد إلى أنّ القناصة الإسرائيليين يراقبون نقاط التوزيع، ما منعه حتى من توثيق المشهد بالكاميرا، وأكد أنّ المساعدات الأمريكية باتت هدفاً للطامعين والمتنفذين، ووصف مراكز التوزيع بأنها ساحة "للمافيات وقطاع الطرق"، في ظل غياب الرقابة وضعف التنظيم.

الجهات الرسمية تحت الضغط

برغم تصاعد شكاوى المواطنين بشأن غياب العدالة في توزيع المساعدات، تؤكد الجهات الرسمية في غزة أنها تعمل ضمن ظروف استثنائية فرضتها الحرب الإسرائيلية. وتوضح المتحدثة باسم وزارة التنمية الاجتماعية، عزيزة الكحلوت، أنّ التوزيع يتم وفق معايير محددة تعتمد على السجل المدني ونظام السلة الواحدة لتفادي التكرار، وأن اختيار المستفيدين يتم حصرياً عبر رسائل نصية صادرة عن الوزارة، دون تفويض لأيّ جهة خارجية.

ومع ذلك، تواجه الوزارة تحديات كبيرةً تعيق الأداء، منها نقص الموارد، استهداف مراكز التوزيع، انقطاع الخدمات، ورفض بعض المؤسسات التنسيق، ما يزيد من صعوبة ضمان التوزيع العادل.

من جهته، يعترف المكتب الإعلامي الحكومي بوجود اختلالات في آلية التوزيع، نتيجةً لغياب التنسيق الكامل وتصرف بعض الجهات بشكل منفرد، لكنه يؤكد وجود نية لتفعيل أدوات رقابية وتوثيق أشمل ضمن خطة طوارئ وطنية، بالتنسيق مع الجهات المحلية والدولية، برغم صعوبة الظروف الميدانية.

انهيار منظومة الرقابة

يرى مدير المكتب الإقليمي لائتلاف "أمان" في قطاع غزّة، أنّ إدارة المساعدات في القطاع مرّت بمراحل متعددة، وشهدت اختلالات بنيويةً واضحةً، بدأت بحالة من الارتباك الشديد نتيجة جريمة الإبادة الجماعية التي تعرّض لها القطاع، فاستُهدفت المقارّ والمؤسسات الإغاثية، كما قُتل وجرح عدد من عمال الإغاثة، وهو ما أضعف من قدرة المؤسسات على التنسيق والاستجابة، خاصةً في الأسابيع الأولى. لكن سرعان ما استعادت بعض الجهات توازنها، وحاولت تقديم المساعدات وفق إمكانياتها، وإن ظلّ الحصار ومنع إدخال المساعدات، بالإضافة إلى الاعتداءات المتكررة على الشاحنات، عوامل معطّلةً أساسيةً.

أما في ما يتعلق بالرقابة، فيؤكد بعلوشة أنّ الاحتلال ساهم بشكل مباشر في تفكيك منظومة الرقابة، سواء عبر استهداف الجهات الرسمية، أو عبر نشر الفوضى التي غابت فيها الشفافية والمعلومات حول حجم وطبيعة المساعدات. 

وبرغم ذلك، استقبل ائتلاف "أمان" عدداً من الشكاوى التي رصدت حالات ضعف عدالة في التوزيع، لكنه أشار إلى أن هذا الوضع نتيجة طبيعية لانعدام التوازن بين الاحتياج الكارثي والقدرات المحدودة. وتبقى هذه الشكاوى، عند توافر أدلة، قيد الإحالة إلى جهات الاختصاص، عبر مركز المناصرة والإرشاد القانوني.

في الوقت الذي تحصل فيه مناطق معيّنة على مساعدات من أكثر من جهة، تُترك مناطق أخرى بدون أي إغاثة تُذكر، وذلك بحسب شهود عيان من منطقة رفح، كما يشكو كثير من أهل غزّة من غلبة الواسطة والمحسوبية واستخدام القوة على عملية توزيع المساعدات

أما عن المعايير، فيقرّ بعلوشة بأنّ تحديد الفئات المستحقة خلال الحرب أمر بالغ الصعوبة، إذ نزح قرابة مليونَي شخص، وباتت الحاجة شاملةً للجميع، ما جعل من الصعب تطبيق آليات استهداف دقيقة. وبرغم أنّ تعدد الجهات العاملة في التوزيع مطلوب لتلبية الاحتياجات المتزايدة، إلا أنّ غياب التنسيق بينها أفضى إلى تضارب واختلالات واضحة، خصوصاً في البداية. لاحقاً، تمكّنت بعض المؤسسات من إنشاء أجسام تنسيقية لتحسين الأداء، لكن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في التحكم بمسار المساعدات، جعل العدالة هدفاً بعيد المنال.

تراجع المجتمع المدني وتحديات الحكومة

مع ازدياد حجم الاحتياج الإنساني، تراجع دور عدد من الجمعيات المحلية نتيجة استهدافها أو إقصائها من آليات التنسيق، كما في حالة جمعية "إنقاذ المستقبل الشبابي" التي أُبعدت بسبب القيود الإسرائيلية، ما أضعف من حضور الفاعلين الوطنيين.

في المقابل، تسعى وزارة التنمية إلى تجاوز هذه الفجوات عبر تطوير أدوات رقمية مثل تطبيق ذكي يوفر بيانات فوريةً حول عمليات التسليم. لكن في ظل هشاشة التنسيق وغياب إطار رقابي موحد، تبقى الجهود المتفرقة غير كافية. بينما ما تحتاجه غزة، منظومة إنسانية وطنية واضحة، تنطلق من قاعدة بيانات مركزية، وتضمن الشفافية عبر التنسيق بين المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني، وخضوع الجميع للمساءلة. إعادة الثقة تبدأ من إقرار بالقصور، وتأسيس لآليات إصلاح مستدامة.

حين تتحول الإغاثة إلى اختبار للكرامة

في خضم فوضى الإغاثة وغياب التنسيق، وبين طوابير الانتظار الطويلة ونقاط التوزيع المحفوفة بالخطر، يبدو أنّ كرامة الإنسان في غزّة باتت على المحك أكثر من أي وقت مضى. لم تعد المساعدات مجرد مواد غذائية، بل تحولت إلى اختبار حقيقي لعدالة النظام الإنساني وفعالية المؤسسات، وسط حرب لا ترحم ومشهد دولي مشوش. تقول وزارة التنمية الاجتماعية: "كنا نواجه واقعاً يفوق إمكانيات أي مؤسسة"، بينما يحذّر المكتب الإعلامي الحكومي من "تحويل الإغاثة إلى ساحة قتل جماعي"، في وقت يعبّر فيه مواطن غزّي عن المأساة بقوله: "المشكلة مش بالمساعدات، المشكلة كيف تُوزع".

هذه الأصوات، برغم اختلاف مواقعها، تتقاطع عند حقيقة واحدة: غياب الشفافية والمساءلة لا يصيب فقط آليات العمل، بل يهزّ الثقة العامة ويفكك الروح الجماعية التي لطالما ميزت المجتمع الفلسطيني. فما يجري في قطاع غزة ليس خللاً إدارياً عابراً، ولا مجرد نتيجة لحرب تقليدية، بل هو انعكاس واضح لجريمة إبادة جماعية مستمرة، يُستخدم فيها التجويع والإغاثة كأدوات قمع وتهجير، في ظل صمت دولي مريب، وتواطؤ واضح في إفشال النظام الإنساني.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image