أنا جائع… فكيف أكتب؟ 

أنا جائع… فكيف أكتب؟ 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 10 يونيو 202510:47 ص

لم أبدأ الكتابة بصفتي كاتباً. لم يكن في نيّتي أن أُعرِّف نفسي يوماً عبر مهنة أو هوية أدبية. كنت أكتب لأنّ الكتابة، ببساطة، كانت الهواء المتاح لي. وسيلة لتشكيل يومي، لتنظيم المشاعر التي تفيض داخلي دون نظام، ولصنع مساحة مؤقتة من السكينة وسط عصف لا ينتهي. الكتابة لم تكن نافذتي على العالم، بل نافذتي على ذاتي. وعندما امتلكت اللغة، شعرت بأنني اكتسبت صديقاً أخيراً على سطح هذا الكوكب المتوحش: صديق يُنصت ولا يهرب، ويشعرني بأنّ العالم يمكن أن يفلت لوقت قصير، من رتابته.

في مثل هذه الظروف، لا تعود الكتابة فعل مقاومة، بل تصبح فعلاً مستحيلاً.

لكن ما لم أكن أتوقعه، هو أن يأتي يومٌ يصبح فيه ذلك الصديق صامتاً، لا لأنني قررت التوقف عن الكتابة، بل لأنني لم أعد قادراً عليها.

والسبب؟ أنني جائع.

مذ بدأت حرب الإبادة في غزة، وأنا أعيد النظر في كل شيء. كنت أشعر بأنّ كل قيمة تشكّلني تهتزّ. حتى الكتابة، هذه القوة الدفينة التي قاومت بها مراراً الخوف والتشريد والفقد، بدأتُ أراها ضمن الأشياء التي يُحتمل أن تتفكك، أن تذوب وتختفي مع الوقت، وتحلّ بي الكارثة. الحرب كائن غريب، لا يكتفي بتدمير البيوت؛ بل يسحب بساطاً من تحت قدميك، هو اليقين، ويمسح طمأنينتك الصغيرة التي تضعها في غرفتك لتُسلّيك. لكن هل تعلم بأنّ الجوع يفعل أكثر مما تفعله الحرب؟ 

كنت أسأل نفسي: هل ما زالت الكتابة ذات جدوى؟ وهل من معنى لتكديس الجُمل بينما الجثث مكدسة تحت الركام؟ وما معنى أن تكتب عن الجمال والحب، في عالم يستمر في تجويعك، ولا يكترث لألمك؟!

لكن شيئاً ما بداخلي قاوم ذلك التفكيك. كتبت كثيراً، في قلب النزوح وتحت دوي القنابل، كتبت عن الأطفال الذين ضاعوا، عن الموتى بلا كفن، وعن البيوت المتحوّلة إلى غبار. كتبت برغم التعب، برغم الحزن، وبرغم الخوف، لكنني لم أكتب قط تحت الجوع، إلى أن جاء آذار/ مارس 2025، وأصبح الجوع مقيماً داخل جسدي، لا يطرق الباب، بل يفتح صدري عنوةً ويجلس فيه.

مذ بدأت حرب الإبادة في غزة، وأنا أعيد النظر في كل شيء. كنت أشعر بأنّ كل قيمة تشكّلني تهتزّ. حتى الكتابة، هذه القوة الدفينة التي قاومت بها مراراً الخوف والتشريد والفقد، بدأتُ أراها ضمن الأشياء التي يُحتمل أن تتفكك، أن تذوب وتختفي مع الوقت، وتحلّ بي الكارثة

فراغ

الجوع، كما أختبره الآن، ليس كما تخيّلته يوماً، وليس ما تتخيله أيضاً عزيزي القارئ. فهو لم يكن شعوراً بسيطاً بفراغ المعدة، بل هو خدر شامل يزحف من الأمعاء إلى المخّ. يُربك الذاكرة، يضعف النظر، ويجعل كل فكرة تحتاج إلى حفر عميق لا يقوى عليه الذهن المنهك. الجوع يسلبك أبسط قدراتك: التركيز، الصبر، الإحساس، والرغبة في قول الأشياء. يصير التفكير رفاهيةً، والكلمات أثقالاً لا يمكن حملها.

الجوع كما أرقد داخله الآن، ويبتلعني، ليس سوى تفريغ للراحة وهدوء النفس، وتسوية جديدة لذاتك، وأنت تشارف على الانتهاء.

شكوت للمحررة أسماء عزايزة، قبل أيام، أنني لم تعد لديّ أفكار أو مقترحات للكتابة، ولم أعد قادراً على وضع خيط داخل إبرة، كما كنت أفعل سابقاً في نصوصي وأفكاري.

أخذت برأي أسماء، وقررت الكتابة عما أعيشه من نحافة عقلية، ووهن وتساقط، فقد كان مقترحي الجديد، ألمي الذي لم أعرفه من قبل.

الجوع، كما أختبره الآن، ليس كما تخيّلته يوماً، وليس ما تتخيله أيضاً عزيزي القارئ.

صرت أكتب جملةً ثم أتوقف. لا لأعيد التفكير، بل لأني لا أملك الطاقة الذهنية لمتابعة سطر آخر. الجوع يسحقك ببطء، وكأنك تموت وحدك في صحراء لم تطأها قدم من قبل. لم أعد أقدر على النوم الصحي، أو الجلوس للقراءة. أشعر بأني أتحلل، وبأنّ الكتابة التي لطالما منحتني التماسك لم تعد تستطيع شيئاً أمام هذا الانهيار البطيء.

جوع جماعي

تموت وحدك في الجوع، تنكسر نفسياً، فلا قيمة للجائعين حولك، ولا يدعمك وجودهم نفسياً، بل على النقيض، حين تشعر بأنّ الجوع أصبح جماعياً تعرف بأنّ كل الأيدي من حولك تقطعت، ولن يساعدك أحدهم. كيف أكتب عن هذا يا ترى؟

في شمال قطاع غزّة، حيث أُقيم، لم تصل قمحة واحدة منذ آذار/ مارس الماضي. الأسواق خاوية، وما يتوافر من بضائع، يُباع بمئتَي ضعف ثمنه، دون رقابة، دون خجل، وكأننا لسنا بشراً. كل ما نأكله: عدس، أرز، فاصولياء معلّبة، ولا شيء من هذا يسدّ الرمق. صار العدس عدوّي، وهو الشيء الوحيد المتاح. تكرار مذاقه يبعث على الغثيان. لا طاقة فيه، ولا أمل.

أنا أعيش على وجبة واحدة في اليوم، وهكذا سكان غزة جميعهم. وجبة بلا بروتين، ولا كالسيوم، وبلا خبز، وبلا طعم. وجبة خالية من المعنى كما هي خالية من العناصر. ومع ذلك، عليَّ أن أمارس يومياً مهام مرهقةً: حمل الحطب، جلب الماء من نقاط بعيدة، تسلّق الدرج حتى الطابق الخامس، والبحث لساعات عن كيلو طحين يباع بعشرين دولاراً أمريكياً، أو علبة سردين، تميّع النفس.

وهذا كله بأدنى مستويات الطاقة التي عرفتها في حياتي.

في شمال قطاع غزّة، حيث أُقيم، لم تصل قمحة واحدة منذ آذار/ مارس الماضي. الأسواق خاوية، وما يتوافر من بضائع، يُباع بمئتَي ضعف ثمنه، دون رقابة، دون خجل، وكأننا لسنا بشراً. ك

في مثل هذه الظروف، لا تعود الكتابة فعل مقاومة، بل تصبح فعلاً مستحيلاً. جسدي لا يسندني، وعقلي تائه في الدوار. أحاول أن أبدأ نصّاً، لكن رأسي فارغ كالمخازن في المدينة. لا حضور لفكرة، ولا شغف يجرّني، ولا إحساس داخلي يُرغّبني في البناء. ما من شيء في الداخل، وكأنّ الجوع جرف التربة التي نبتت منها كلماتي.

أسوأ ما في هذا الجوع، أنه يجعلك غريباً حتى عن نفسك. تفقد تعاطفك مع الأشياء. تتبلّد. تنكمش. تراقب حياتك وكأنك غريب عنها. تخاف من نفسك، وتخاف على نفسك. يصبح الطعام فكرةً وجوديةً، وطيفاً أسطورياً. تتذكر طعوماً نسيتها. مفضّلاتك تتغير. علبة تونة تصبح ذروة ما تحلم به، وحين تطهوها على النار مع قطعة بطاطس وطحينية، تحتفل كأنّك تأكل أعظم الأكلات.

تفكيك للذات

ليس هذا نصّاً عن المأساة فحسب. إنه نصّ عن التعرّي، حين لا يترك لك الجوع سوى نفسك الهشة، وجسدك الضعيف، ولغتك الغائبة. حين تشعر بأنّ العالم لا يراك، لا يسمعك، ولا يكترث لحالك إن كنت حيّاً أو في طريقك إلى الموت.

الجوع، كحالة داخل حرب إبادة، أكثر من حرمان جسدي. إنه تفكيك للذات. انقراض تدريجي لطاقتك على الحياة. تبدأ بالتساؤل: ما قيمة الكتابة إن لم أستطع أن أشعر بالشبع؟ ما جدوى الذاكرة إن كنت لا أقدر على استعادتها؟ وما معنى أن تحيا إن كان كلّ يومك محاولةً فاشلةً لتأمين وجبة لا تُشبه الطعام؟

اليوم، حين أجلس للكتابة، أشعر بأنني أكتب من خارج جسدي، وبأنّ الكلمات ليست مني، بل من بقايا رجلٍ كنتُه يوماً. أشعر بأنني أكتب لأنه عليّ أن أفعل شيئاً ينسيني أنني جائع. أصبحت الكتابة لحظةً مرهقةً، تتطلب مجهوداً جسدياً ونفسياً أعجز عنه. الجوع يجرّدك من اللغة، كما يجرّدك من النوم، من الراحة، ومن الأمل.

وأسوأ ما في الأمر، أنّ العالم صامت.

صامت كلياً.

وكأنّ الجوع الذي يقتلني لا يُسمع، لا يُرى، ولا يعني أحداً.

أنا كاتب، أو كنت كذلك.

لكنني الآن لا أقدر على الكتابة.

الجوع، كحالة داخل حرب إبادة، أكثر من حرمان جسدي. إنه تفكيك للذات. انقراض تدريجي لطاقتك على الحياة. تبدأ بالتساؤل: ما قيمة الكتابة إن لم أستطع أن أشعر بالشبع؟

أنا جائع، والجوع صار أقوى من اللغة. صار أقوى من ذاكرتي، من قدرتي على المعالجة، ومن حاجتي إلى التوثيق. هذا ليس اعتزالاً للكتابة، بل عجز تامّ. لم أعد أملك الأدوات لأعبّر، ولا الجسد الذي يحتمل الجلوس، ولا العقل الذي يتّسع لجملة طويلة.

أخاف أن أموت دون أن أكتب موتي.

أخاف أن تبقى اللغة حبيسةً داخلي، لا تجد طريقاً للخروج.

أخاف من الجوع أكثر من الموت، لأنه يأخذك على دفعات، ويحوّلك إلى ظلٍ يتآكل دون أن يصرخ.

هل سيقرأ أحد هذا؟

هل سيصدّق أحد أنّ كاتباً لم يعد يقدر أن يكتب لأنه لم يجد ما يأكله؟

هل سيهتمّ أحد بأنّ في بقعة من هذا العالم، بشراً يجوعون حتى تسكت أرواحهم؟

ربما لا.

لكنني كتبت هذا، برغم كل شيء.

كتبت لأقول إنّ الكتابة ممكنة… فقط عندما يُسمح للجسد بالبقاء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image