هل حوّلتني الغربة إلى

هل حوّلتني الغربة إلى "عاهرة خيال"؟

مدونة

الأربعاء 25 يونيو 202512:12 م

أغلقتُ لتوّي مكالمة فيديو مع صديقتي المقيمة في برلين. وصلنا، هي وأنا، إلى أوروبا قبل أكثر من عام بقليل، وكنتُ على وشك البدء بكتابة هذه المادة عندما فجأةً اتصلت بي.

حديثنا بدأ بعفوية، حول خيالاتنا الواسعة وأحلامنا الصغيرة، خصوصاً بعد أن شاركتُها معلومةً جديدةً أخبرني إياها صديق لي مقيم في فيينا منذ سنوات طويلة، عن طرق سهلة نسبياً لامتلاك بيت هُنا.

بدأت تشرح لي الخيارات التي تعرفها في برلين أيضاً، بابتسامة ملؤها الأمل: "هنا، سأملك يوماً بيتاً في ريف المدينة، مع حديقة صغيرة أزرعها بكل أنواع الزهور التي أحبّ". 

قالتها وكأنها تتخيّل المكان نفسه بكل تفاصيله. "رأيت إعلاناً له منذ فترة؛ هو مكان هادئ أهرب إليه من صخب الحياة، حيث يمكنني أن أحتضن قططي الشقيّة بحرّية، وأستثمره بالإيجار في الشتاء".

برغم أننا لا نملك حتى الآن بيتاً للإيجار، وأننا مضطرّتان إلى الالتزام بالمثل القائل: 'مد لحافك على قد رجليك'، إلا أننا نتخيّل.

لم أعتد بعد على أن أتخيّل في هذه البلاد، برغم أنّ أفق خيالي اتسع، وهذا ما لاحظه كل من حولي. بعضهم قال مستهزئاً: "كلنا في بداية مجيئنا تخيلنا أشياء كثيرةً، ورسمنا طموحات لم نحقق منها سوى القليل"، وبعضهم أسكت خيالي مؤكداً أنّ الطريق للوصول إلى تلك الأحلام لا يزال طويلاً.

لم أعتد بعد على أن أتخيّل في هذه البلاد، برغم أنّ أفق خيالي اتسع، وهذا ما لاحظه كل من حولي. بعضهم قال مستهزئاً: "كلنا في بداية مجيئنا تخيلنا أشياء كثيرةً، ورسمنا طموحات لم نحقق منها سوى القليل"، وبعضهم أسكت خيالي مؤكداً أنّ الطريق للوصول إلى تلك الأحلام لا يزال طويلاً.

لكنني كنت دائماً أهرب منهم، وأسير في عالمي الخيالي الموازي لعوالمهم الواقعية حد التشاؤم أحياناً...

حين يصل خيالي كفتاة سورية نشأت في ظلّ حكم الأسد، وما تلاه من سنوات الحرب الطويلة، والركض من أجل لقمة العيش وأهلي، وأسعار البيوت الخيالية في بقعة جغرافية تملؤها رائحة الموت والقهر، حدّ أن يصبح حلمي اليوم أن أمتلك بيتاً في فيينا -مدينة أسمهان و ليالي الأنس فيها- يصير جنوناً لا يحتمله عقلي حتى الآن.

أتذكر اليوم الأول لي بعد أن وطأت قدماي مطارات لم يخطر لي يوماً أن أزورها. أشرب قهوتي و أتناول إفطاري في مقهى نمساوي قديم، يشبه تماماً تلك المشاهد التي كنت أراها وأنا صغيرة، حين كنت أشاهد مسلسل الأطفال "هايدي" والطبيعة الخلابة التي تحيط به، أو "ساندي" الصحافية الشقراء الجميلة. لكن في ذلك الوقت، كنت متيقنةً من أن كل ذلك مجرد رسومات متحركة، ولم يخيّل إليّ يوماً أن أكون جزءاً من تلك الرسومات، لكن على أرض الواقع!

في ذلك اليوم، بدأت أتخيل كيف سأتعرف على كل هذه الشوارع، وتخيلت نفسي أتحدث كما يتحدث سكانها بلغتهم الألمانية الغاضبة، التي شبّهها أحد أصدقائي النمساويين بأنها تبدو كأنها مشادة كلامية بين شخصين. تخيلت شعري بلا غطاء رأس: كيف سأخرج هكذا بعد أكثر من عقد ونيّف؟

وكما شخصيتي المزاجية، أشعر أحياناً بأنني لم أخرج بعد من حدود خيالي الطبيعي، من رغباتي وطموحاتي وما أصبو إليه، لكن جاءت تلك اللحظة التي أدركت فيها أن الخيال هنا ربما لا سقف له…

حين يصل خيالي كفتاة سورية نشأت في ظلّ حكم الأسد، وما تلاه من سنوات الحرب الطويلة، والركض من أجل لقمة العيش وأهلي، وأسعار البيوت الخيالية في بقعة جغرافية تملؤها رائحة الموت والقهر، حدّ أن يصبح حلمي اليوم أن أمتلك بيتاً في فيينا -مدينة أسمهان و ليالي الأنس فيها- يصير جنوناً لا يحتمله عقلي حتى الآن.

بدأت أشعر، فجأةً، ويوماً بعد يوم، بأنّ شيئاً يتغيّر في داخلي. حين أمشي وحدي بحرية، حين أحاكي ذاتي وأتعرّف إليها من جديد، حين أختلط بالآخرين وأسرع في هذا الاندماج الغريب، أبدأ بالتساؤل وأنا برفقة نفسي: ما بال مخيّلتي؟ هل بدأت تشذّ عن طبيعتها؟ أَوَلَم تعد "عذراء" كما كانت؟ هل اتّسعت حدودها وتجاوزت دائرتها الضيقة التي كانت محصورةً فيها؟

لم أعد أسيطر عليها. أحاول كل يوم ترويض مخيلتي حتى لا تأخذني معها إلى هاوية لا تُحمد عقباها. أجرّها إلى بؤرة العادات والتقاليد أو إلى ما بقي راسخاً في ذهني من الدين، فقط لأتذكّر كيف لم نكن نجرؤ على إطلاق العنان لأفكارنا. حتى حين كنا نمسك قلماً لنكتب، كنا نخشى الخيال، وإذا حدث وتجرأنا فنسخر من واقعنا المُزرِي الذي لا ضوء في نهايته.

أعترف بأنني بدأت أخاف من هذه المخيلة، من أن تتحول إلى عاهرة مشاكسة يوماً بعد يوم و قد تتحكم بي، وتحوّلني إلى "عاهرة خيال" متمردة، لا حد لها، كما لو أنها لم تكن جديدةً، بل كانت في داخلي بديلاً عن تلك المقموعة والخائفة.

وأنا أراقب مخيلتي وأتابع تساؤلاتي، أضحك أحياناً مستهجنةً خوفي من أفق الخيال الذي بات يكبر يوماً بعد يوم. كل هذه القيود والحدود التي قيّدوني بها كامرأة شرقية، حاولوا من خلالها السيطرة على خيالي، لكنني اليوم أصرّ على أن أحرّره، على ألا أخاف من كسر كل الحدود التي رسمتها لنفسي في الماضي أو التي فرضوها عليّ.

أسأل نفسي: هل يُغفر للمرأة أن تتخيّل أكثر من اللازم؟ أن تطمح؟ أن ترغب؟ أن تتخيّل نفسها تملك بيتاً، جسداً حرّاً، ومستقبلاً يشبهها؟ هل يُسمح لها أن تحلم بلا سقف؟ 

قرأتُ يوماً عبارةً -لا أذكر من كتبها من أصدقائي على ذلك التطبيق الأزرق- تقول:

"المشكلة ليست فيك بالضرورة، ربما هي في مكانك أو محيطك. جرّب أن تغيّر مكانك لتكتشف ذاتك".

أعترف بأنني بدأت أخاف من هذه المخيلة، من أن تتحول إلى عاهرة مشاكسة يوماً بعد يوم و قد تتحكم بي، وتحوّلني إلى "عاهرة خيال" متمردة، لا حد لها، كما لو أنها لم تكن جديدةً، بل كانت في داخلي بديلاً عن تلك المقموعة والخائفة.


وهنا، الآن، أدركت أنني أخطأت كثيراً في حقّ خيالي. كنت أقيّده، وأختزل طموحاتي في حدود ضيقة لم يخطر لي يوماً أن أخرقها. والآن، أُحسّ بجرأة اتخذتني لأتخيّل أشياء لم تخطر على بالي من قبل. وأحزن على سنواتي التي ضاعت، وعلى إرثي من الخيال الممنوع الذي لم أنعم به يوماً.

لكنني، برغم كل شيء، ما زلتُ أؤمن بأنني في هذا المكان الجديد، سأجلس يوماً بعد سنوات على شرفة منزلي الجميل الذي أملك وأحب، أكتب، ومعي كأس نبيذ أحمر بطعم مرّ، وسيجارتي النحيلة. أستمع إلى موسيقى الجاز التي أحبّ، إلى فرقة Cigarettes After Sex، وأقرأ هذا النص تحديداً، وأضحك… على تلك البداية، حين بدأت أتعرف على مخيلتي الجديدة، البديلة، والجامحة.

أضحك على نشوة اللاحدود في أفقها... وأفهم حينها أنها لم تكن "عاهرةً"، بل كانت أنا التي لم أعرفها من قبل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image