تشهد مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، ولا سيّما في الفضاءات السورية، حالةً متصاعدةً من تراشق الاتهامات والاقتتال "الافتراضي"، الذي يرافقه الكثير من الإقصاء، مع تصاعد ملحوظ، مُقلق وخطير للخطاب الطائفي، الذي يبدو أنّ الانجرار نحوه أسهل بكثير مما كنّا نعتقد، ما ينعكس على الشارع السوري أو يشكّل مرآةً له، ساحباً المجتمع إلى منزلق خطير يتصاعد فيه العنف بشكل مُقلق مُنذراً باحتمال اندلاع حرب أهلية.
في ظلّ هذا المشهد، يبرز سؤال مهم: ما الذي يدفع هذا الخطاب إلى التصاعد؟ وهل هو امتداد لحالة ما بعد الحرب؟ أم أنّ هناك عوامل نفسيةً واجتماعيةً تعيد إنتاج هذا التوتر؟ هل للطبيعة البشرية دور، أو أنّ الأنظمة المستبدّة تترك في شعوبها أثراً لا يزول بسهولة؟ أو قد يكون ما سبق كله؟
وضعية النجاة
قد يبدو من البديهي ربط هذا الاحتقان بالإرث الثقيل الذي خلّفه النظام السوري السابق، إلا أنه يُلاحَظ أيضاً وجود سمة عامة في المجتمعات الخارجة من قبضة الأنظمة الاستبدادية، أو من رحم الحروب، وهي سيادة أنماط متكررة من السلوك النفسي الجماعي: كالإنكار، التبرير، الصمت، أو حتى التطبيع مع الألم.
وقد كان هذا الحال واضحاً في سوريا، حيث عانى السوريون والسوريات لقرابة أربعة عشر عاماً من حرب أنهكتهم/ نّ، في ظل قبضة نظام استبدادي وقمعي كالنظام الأسدي، دأب على تمزيق النسيج السوري وتفرقته على مدار أكثر من نصف قرن، ورسّخ خلالها سلطته عن طريق القتل، والتهجير، والخوف، وانتقاص كرامات الأفراد، حتى غدت لقمة العيش ورقة مساومة في يده.
فكّك النظام السوري الأسبق مفهوم الدولة، وقوّض قيم المواطنة والانتماء، حتى فقد المواطن السوري شعوره بالوطن والمواطنة، ولم يعد يرى الدولة سوى قوّة قمع لا تمثله في ظل غياب القانون، وسيادة شريعة الغاب.
الثقافة الديكتاتورية لا تدمّر فقط السياسة، بل تشوّه أيضاً البوصلة الأخلاقية للأفراد. في مراحل معينة من الانهيار المجتمعي، تصبح الأخلاق "مرنة"، وتخضع لمساومات البقاء، فيتحول السكوت على الظلم، بل وتبريره، إلى ضرورة حياتية لحفظ الذات
منذ بدء الثورة، مرّت الـ14 عاماً على السوريين والسوريات بمرارتها وكأنها دهر، عاش فيها الناس في "وضعية النجاة" (Survival Mode)، وهي حالة فيزيولوجية ونفسية، يُنشّط فيها الجهاز العصبي استجابة "القتال أو الهروب"، مُفرزاً هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.
تنشأ هذه الحالة في الدماغ، وتحديداً في أجزاء منه مثل اللوزة الدماغية التي تُساعدنا على النجاة في أوقات الأزمات، وتتفعّل بسبب التعرّض المستمر للخطر والصدمة وعدم اليقين، وهي شائعة في مناطق الصراع، ومن أهم سماتها التيّقظ المفرط، الخدر العاطفي، التركيز الضيّق على الاحتياجات الآنية، الانعزال وفقدان الثقة. وفي هذه الحالة قد تضطر الظروف الأشخاص إلى المساومة الأخلاقية حيث تُصبح الأخلاق مرنةً تحت ضغط النجاة، الأمر الذي قد يتسبب في تغيّرات في الدماغ بسبب الصدمة، فقد يُعيد الخوف المستمر تشكيل الدماغ، جاعلاً بذلك مركز الخوف (اللوزة الدماغية) مفرط النشاط، بينما يضعف مناطق التفكير المنطقي والتعاطف.
سقط النظام! لم يكن سقوطه مجرد انهيار لبنية استبدادية كتمت أنفاس الحريات، بل كان أيضاً انكشافاً لسنوات من الخنق الاقتصادي الذي أثقل أرواح السوريين والسوريات في كل لحظة من لحظات حياتهم/ نّ. وللحظة، بدت كأنها نادرة، تنفّس السوريون والسوريات الصعداء، أو على الأقل هذا ما شعروا/ ن به! لقد تشبّثوا/ ن يخيط الأمل هذا، لعلّه يضفي معنى على سنوات الألم والمعاناة السابقة.
غير أنّ التساؤل يبقى معلّقاً في الأفق: هل يعني التمسك بالأمل تجاهل الواقع؟ الإجابة ببساطة هي لا، فالواقع أكثر تعقيداً.
"لماذا نبرّر؟"
بدايةً، من المهم توضيح أنّ محاولة الفهم والتحليل من خلال القراءة في علم النفس لا تقدّم إجابات تبريريةً، بل قد توفّر أدوات لفهم هذه الآليات الذهنية والاجتماعية وتفكيكها. إنها محاولة لقراءة دوافع الأشخاص، ومعرفة كيف يبرر الناس مواقفهم؟ ولماذا يُفضّلون تبسيط الواقع واللجوء إلى روايات الأبيض والأسود؟ ولماذا يصرّ البعض على التبرير بينما يواجه آخرون الحقيقة المؤلمة بشجاعة؟
وفقاً لنظرية فرويد، فإنّ الإنسان يستخدم "آليات دفاع نفسيةً" (Defense Mechanisms)، لحماية نفسه من الألم العاطفي أو التناقضات الداخلية، ومنها "الإنكار" (Denial)، فيرفض الاعتراف بالحقيقة المزعجة.
وقد يلجأ الشخص إلى "التبرير" (Rationalization)، لإيجاد مبررات منطقية لسلوكيات خطأ تحدث من حوله. فالأشخاص الذين يستخدمون هذه الآليات ليسوا بالضرورة ضعفاء، بل غالباً يحاولون النجاة نفسياً حين يصعب التعامل مع الحقيقة.
وقد نجد أيضاً سِمةً عامةً لدى الأغلبية، وهي الميل إلى تبسيط الأمور، كاللجوء إلى ثنائية الأبيض/ الأسود.
لماذا يميل البعض إلى التفكير الثنائي "أبيض/ أسود"؟
يُلاحَظ في علم النفس أنه في حالات الإجهاد المزمن أو الصدمة، يميل العقل إلى تبسيط الأمور لاتخاذ قرارات سريعة تفادياً للإنهاك العقلي، فعند الشعوب الخارجة من أزمات كبرى كالشعب السوري، ومع ازدياد تعقيدات الحياة وكثرة المعاناة، يكون من الأسهل لهم نفسياً تقسيم العالم إلى "جيّد" و"سيئ"، "ضحية" و"جلاد"، أو "عدو" و"مخلّص".
تلجأ الشعوب لتبرير أخطاء من يمثّلهم كرد فعل على "تنافر معرفي": أو كيف تؤيد من ارتكب جريمة؟ فيختار العقل اللاواعي مخرجاً: تبرير الجريمة لحماية الذات من الانهيار الداخلي، وليس دفاعاً عن الجلاد.
ومن المهم معرفة أيضاً أنّ الحروب الطويلة قد تولّد صدمات وجوديةً لمن فقدوا أهاليهم، منازلهم أو هويتهم، وتالياً نرى الأفراد يسعون جاهدين للبحث عن معنى لمعاناتهم، حيث قد يُنظر إلى سقوط النظام على أنه نهاية المعاناة.
طوّر عالم النفس آرون بيك "Aaron Beck"، نظرية "التشوهات المعرفية" (Cognitive distortion)، في ستينيات القرن الماضي، وعرّفها على أنها أفكار غير منطقية تؤثر في الطريقة التي يرى بها الشخص العالم من حوله، مُنعكسة على مشاعره وسلوكياته.
قد تظهر هذه الأفكار بين الحين والآخر، إلا أنها قد تصبح مضرّةً إذا تكررت أو ازدادت حدّةً. يُلاحَظ أنه من بين أكثر عشرة تشوّهات معرفية شيوعاً، نمط "التفكير في الكلّ أو لا شيء" (All-or-Nothing Thinking)، ويُعزى إلى هذا التشوّه تفكيرنا بطريقة متطرفة، دون وجود أي مناطق رمادية أو حلول وسط. غالباً ما يستخدم أصحاب مبدأ "الكلّ أو لا شيء"، كلمات مثل "دائماً" و"جميعهم" لوصف الأمور.
يُعزى هذا التصرف إلى الإرهاق العاطفي الشديد، وتالياً تبسيط الواقع أو حتى تجاهله، وهو وسيلة لحماية النفس من الانهيار النفسي أو العودة إلى دائرة الإحباط. ويُعرف هذا الأسلوب في علم النفس باسم "مسايرة التجنب" (Avoidance Coping)، وهو إحدى آليات الدفاع النفسية التي يستخدمها العقل لتجنّب التعامل مع مسببات التوتر، فقد يلجأ إلى "التكيف التجنّبي/ السلبي"، بحيث يُقلّل التوتر عن طريق إبعاد النفس عن المشكلة.
يُعدّ التعامل بالتجنّب أيضاً، أحد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). وهذا التبسيط ليس عيباً أخلاقياً، بل استجابة إنسانية طبيعية، وتخدم وظائف نفسيةً عميقةً وهي الحفاظ على التوازن النفسي، تجنّب الصدمات المتكررة، وإيجاد معنى للتضحيات.
لكن من أجل الشفاء الحقيقي، لا بدّ من الاعتراف بالتعقيد وتجاوز التفكير الثنائي، لأنه يمنع المجتمعات من رؤية الواقع بوضوح، ما يُمهّد لتكرار الأنماط الاستبدادية السابقة نفسها. فالأمل والوعي النقدي يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب لبناء مستقبل مستقر.
التبرير كوسيلة للتهرّب من ألم التناقض الداخلي
إن أكثر ما قد يواجه السوريين والسوريات في هذه المرحلة، حالة "التنافر المعرفي" (Cognitive Dissonance)، ويُعرّفه صاحب النظرية ليون فستنغر (Leon Festinger)، على أنه انزعاج نفسي يشعر به الناس عند اعتناقهم معتقَدَين، أو قيمتَين، أو سلوكين متناقضين، أو أكثر في آنٍ واحد. بمعنى آخر، الإنسان يشعر بعدم الارتياح حين تتصادم أفكاره أو معتقداته. عندما يحدث هذا، يشعر الشخص باضطراب نفسي وعاطفي، وتالياً يسعى جاهداً إلى تخفيف هذا التنافر عن طريق خلق حالة من الاتساق الداخلي، إما عن طريق تغيير معتقداته، أو مواقفه، أو سلوكياته، أو عن طريق تبريرها.
إنّ التعامل مع تناقضات الأفكار أو التجارب أمر مُرهق نفسياً، إذ يتطلب جهداً وطاقةً لمُواجهة تلك الأمور المتناقضة، والتي تبدو جميعها صحيحةً. جادَل فستنغر، في أنّ بعض الناس سيحلّون هذا التنافر ربما بالإيمان الأعمى بما يُريدون تصديقه أو قد يعيد بعض الناس صياغة المواقف في رؤوسهم للحفاظ على صورة ذاتية إيجابية من أجل استعادة التوازن النفسي وتقليل الصراع والانزعاج النفسي.
في الحالة السورية، يقع السوري المُنتمي إلى أي طرف -خاصةً حين ارتكاب الطرف الذي ينتمي إليه خطأ- في تنافر معرفي ما بين دعم من يمثّله، ودعم الخطأ في آن معاً. ومن أجل التخلص من هذا الصراع والتنافر المعرفي، وكي يستعيد توازنه النفسي، يلجأ إلى مبررات، أو قد يلجأ إلى تصديق الشائعات بشكل أعمى، وهنا تكمن أهمية نشر الكثير والكثير من الروايات المتناقضة والمُختلفة، حيث ينتقي منها المُتلقّي المصاب بالتنافر المعرفي ما يُريحه ويعيد إليه توازنه النفسي. لذا، التبرير هنا وسيلة للتهرب من ألم التناقض الداخلي، وليس دفاعاً عن الواقع فحسب.
لماذا يواجه بعض الناس الحقيقة بينما يبرّرها آخرون؟
قد نجد في المجتمع نفسه اختلافاً في تعاطي الأشخاص مع الحقائق القاسية، وقد يرجع ذلك إلى عوامل نفسية عدة، مثل قدرتهم النفسية على التحمّل، سماتهم الشخصية، آلياتهم الدفاعية، نظرتهم إلى السيطرة على حياتهم، ودرجة اندماجهم في الرواية الجماعية للمجتمع.
وفقًا لنظرية الهوية الاجتماعية، يُفضّل الأفراد تجاهل الحقيقة إذا ما هددت صورتهم عن جماعتهم الداخلية. يصبح الكذب مريحاً لأن الاعتراف بالحقيقة سيُفكك هويةً جماعية، وقد يقود إلى عزلة أو إقصاء، ما يجعل الإنكار وسيلة نفسية للبقاء داخل الـ "نحن"
فمثلاً قد نرى أحدهم يُركّز على مواجهة الأخطاء، بينما يكرّر الآخر قول "إن الأمر أكبر من قدرتنا". كلاهما بشري، لكنهما يسلكان مسارات نفسيةً مختلفةً في التعامل مع الألم. لماذا؟
يُقدّم عالم النفس جوليان روتر (Julian Rotter)، مفهوم "مركز الضبط" (Locus of Control)، وهو مفهوم يشير إلى تصوّر الفرد لمدى شعوره بالسيطرة على الأحداث التي تؤثر على حياته، ويُقسم الأفراد إلى مجموعتَين:
الأولى، تتعلق في الأساس بما إذا كان شخص ما يعتقد أنه يمكنه التأثير على النتائج من خلال أفعاله الخاصة "موضع التحكم الداخلي".
بينما تعتقد المجموعة الثانية، أنّ القوى الخارجية، مثل الحظ أو القدر، هي المحركات الرئيسية "موضع التحكم الخارجي".
ويعتقد الأفراد ذوو موضع التحكّم الداخلي، أنّ أفعالهم وسلوكياتهم تؤثر بشكل مباشر على نتائج حياتهم، وتالياً يميلون إلى الشعور بمزيد من التحكّم، وتحمّل مسؤولية نجاحاتهم وإخفاقاتهم، ويكونون أكثر استباقيةً ومثابرةً في تحقيق أهدافهم، وعليه يميلون إلى مواجهة الحقيقة. وقد يكونون أكثر سعادةً وأكثر استقلالية.
بينما يميل الأشخاص ذوو موضع التحكم الخارجي، إلى الاعتقاد بأنّ عوامل خارجيةً، مثل الحظ أو القدر أو الآخرين، تتحكم في حياتهم وقد يكونون أقل ميلاً إلى تحمّل المسؤولية الشخصية عن أفعالهم، وقد يشعرون بمزيد من العجز أو ضعف التحفيز لإجراء التغييرات، فيشعرون بأنهم ضحايا للظروف أو للآخرين، لذا قد يبررون الواقع بدلاً من مواجهته، وهم أكثر عرضةً لتجربة "العجز المكتسب".
من المهم ملاحظة أنّ موضع التحكم، سلسلة متصلة. لا أحد يمتلك موضع تحكم داخلي أو خارجي كامل، بل يقع معظم الناس في مكان ما على السلسلة المتصلة بين طرفي النقيض.
هذا التصور قد يتكامل مع نظرية لورانس كولبرغ (Lawrence Kohlberg)، عن "مراحل التطور الأخلاقي"، حيث إنّ موقع الفرد في هذه المراحل يؤثر بدوره في كيفية مواجهته للحقائق الأخلاقية. وقد قسّم كولبرغ، مراحل التطور الأخلاقي إلى ثلاثة أقسام، يمكن تبسيطها كالتالي:
1- ما قبل التقليدية: شائعة بشكل خاص لدى الأطفال وقد تظهر عند البالغين أيضاً، يتصرف فيها الشخص بدافع الخوف من العقوبة والرغبة في المكافأة، حيث يتجنب مواجهة الحقيقة أو قولها لأنها قد تُسبب له المشكلات.
2- التقليدية: وهو نمط شائع لدى المراهقين والبالغين، وفي هذه المرحلة يتصرف الشخص بدافع الولاء للجماعة أو القواعد، فيتمسك بموقف الجماعة حتى في حال الخطأ حفاظاً على الولاء والانتماء.
3- ما بعد التقليدية: تتميز بإدراك متزايد بأنّ الأفراد كيانات منفصلة عن المجتمع، وأنّ القواعد ليست إملاءات مطلقةً ينبغي أن تُطاع دون تشكيك، نظراً إلى أنّ الأفراد في مستوى ما بعد التقليدية يرفعون تقديرهم الأخلاقي إلى ما فوق المواثيق الاجتماعية، بإعلاء المبادئ الأخلاقية الفردية فوق القوانين، مع التركيز على العدالة وحقوق الإنسان كأساس للحكم الأخلاقي. في هذا المستوى، تُعدّ القوانين أدوات قابلةً للتعديل ويُتّخذ القرار وفق القيم المجرّدة لا الإملاءات الاجتماعية.
ووفقاً لكولبرغ، نرى أنّ النضج الأخلاقي الحقيقي يتطلب مواجهة الحقائق الصعبة حتى في حالة الرفض الاجتماعي، وهو ما يُعرف أيضاً بـ"الشجاعة الأخلاقية".
ما هي الشجاعة الأخلاقية؟
تُعرّف "الشجاعة الأخلاقية" (Moral Courage)، على أنها القدرة على قول الحقيقة أو اتخاذ موقف أخلاقي، حتى لو كان ذلك مكلفاً أو محفوفاً بالمخاطر. يُعرّفها راشورث كيدر (Rushworth Kidder)، في كتابه "الشجاعة الأخلاقية" (Moral Courage)، على أنها الاستعداد لتحمّل الخطر من أجل المبدأ، ويوضح أنّ الشجاعة في العمل توجد عند تقاطع ثلاثة عناصر: العمل المبني على القيم الأساسية، والوعي بالمخاطر، والاستعداد لتحمّل المشقّة الضرورية. فهي الجسر بين التحدث عن الأخلاق وتطبيقها.
يمتاز من يتحلّون بالشجاعة الأخلاقية غالباً بالنزاهة، فنراهم يتمسكون بالقيم، حتى لو كان الثمن غالياً. ولديهم حسّ عالٍ في التعاطف مع المظلومين من أيّ فئة كانوا. يمتلكون تفكيراً مُستقلّاً، فنراهم يفكرون خارج القطيع أو الرواية الجماعية، ولديهم المرونة النفسية التي تجعلهم قادرين على تحمّل النقد، العزلة، الإقصاء، أو حتى الاعتقال.
من المهم تذكّر أنّ هؤلاء الأشخاص كانوا شرارة الثورة السورية وبدايتها، ففي المجتمعات القمعية أو ما بعد الحروب، غالباً ما تكون الشجاعة الأخلاقية نادرةً.
لكن لماذا لا يمتلكها الجميع؟ يشرح علم النفس التطوري، أنّ الإنسان يسعى إلى التماشي مع الجماعة حفاظاً على الأمان، وليس دائماً للبحث عن الحقيقة. فنرى أنّ الضغط الاجتماعي وهوية الجماعة يلعبان دوراً مهماً هنا، لهذا، فالشجاعة الأخلاقية تتطلب كسر هذه البرمجة الاجتماعية، وهو أمر صعب جداً ونادر.
تأثير الضغط الاجتماعي وهوية الجماعة
أولاً- الضغط الاجتماعي:
كفكرة عامة، البشر كائنات اجتماعية. حاجتنا للانتماء إلى جماعات هي حاجة متجذرة في البقاء والهوية. غالباً ما يتفوق هذا الدافع النفسي على التفكير العقلاني، خاصةً عندما تُهدد الحقيقة ولاء الجماعة أو السلامة الشخصية.
في خمسينيات القرن الماضي، أجرى سولومون آش (Solomon Asch)، تجارب أظهرت التأثير القوي لضغط المجموعة على سلوك الفرد، حتى عندما تكون المجموعة مخطئةً بوضوح.
في هذه التجارب، طُلب من المشاركين تقدير طول خطوط معيّنة، لكنهم عُرضوا عمداً على أغلبية أعطت إجابات خطأ. كشفت الدراسة أنّ نسبةً كبيرةً من المشاركين امتثلت للأغلبية الخاطئة، حتى عندما كانت الإجابة الصحيحة واضحةً موضوعياً.
تمّت في ما بعد إعادة التجربة مع تغيّر العديد من العوامل كالفئة المُستهدفة، البيئة، والتاريخ الزمني للتجربة، إلى أنّ جميعها أفضت إلى تأثير المجموعة على حكم الفرد أو سلوكه، لكن بنسب متفاوتة.
لماذا انصاع المشاركون بسهولة؟ عند مقابلتهم بعد التجربة، قال معظمهم إنهم لم يصدّقوا إجاباتهم المتوافقة تماماً، بل انصاعوا للمجموعة خوفاً من السخرية أو اعتبارهم "غريبين"، وقال عدد قليل منهم إنهم يعتقدون أنّ إجابات المجموعة كانت صحيحةً.
يبدو أنّ الناس يتوافقون لسببين رئيسيين: لأنهم يريدون أن يتناسبوا مع المجموعة، ولأنهم يعتقدون أنّ المجموعة أكثر اطلاعاً منهم. وعليه، نجد في الحياة الواقعية أنّ الخوف من الرفض، والرغبة في تجنّب الصراع قد يجعلان الناس تلتزم الصمت أو قد تجنح نحو ترديد روايات كاذبة، ليس لأنّهم يصدقونها، بل لأنّ التكلفة الاجتماعية للاختلاف باهظة للغاية.
يمل عقل الإنسان في بيئات القمع والحروب الطويلة لتقسيم العالم إلى "خير/شر"، "ضحية/جلاد". هذا التفكير لا يعكس غباءً أو تبسيطاً متعمّداً، بل استجابة بيولوجية لتقليل الإنهاك العقلي في بيئة ضاغطة نفسياً.
ثانياً- هوية الجماعة (نظرية الهوية الاجتماعية):
وفقًا لنظرية "الهوية الاجتماعية"، التي طوّرها هنري تاجفيل (Henri Tajfel)، والتي تشرح كيف يستمدّ الناس جزءاً من قيمتهم الذاتية من الجماعات التي ينتمون إليها (عرقية، سياسية، دينية، ووطنية)، نرى أنّ كون الفرد جزءاً من مجموعة يمكن أن يغرس مشاعر الاتصال والوحدة، ما يمنح الأفراد الشعور المريح بأنهم ليسوا وحدهم في تجاربهم أو وجهات نظرهم.
تُوفّر المجموعات إطاراً لفهم الذات في سياق مجتمع أكبر، المجموعة الداخلية "نحن"، والمجموعة الخارجية "هم".
تزعم النظرية أنّ الناس لديهم ميل طبيعي إلى جماعتهم الداخلية، بينما يكونون محايدين أو حتى سلبيين تجاه المجموعات الخارجية أو قد يلومونها، وتالياً يعززون صورتهم الذاتية. لذا قد تميل هذه المجموعات إلى مقاومة الأدلّة التي تُهدد الصورة الأخلاقية للمجموعة الداخلية، الأمر الذي قد يُؤدي إلى "جهل مُتعمّد"، فيُلاحظ حينها ميل الناس إلى تجنّب معرفة الحقائق التي قد تُضرّ بسمعة الجماعة أو شعورها بهويتها.
إنّ وجهات النظر المتحيزة بين الثقافات قد تؤدي إلى العنصرية. وفي أشكالها المتطرفة، قد تؤدي العنصرية إلى الإبادة الجماعية، كما حدث في رواندا بين الهوتو والتوتسي، وفي يوغوسلافيا السابقة بين البوسنيين والصرب.
من المهم ملاحظة أنّ مفهومَي "الجماعات الداخلية" و"الجماعات الخارجية" متغيّران. فالجماعة التي ينتمي إليها الفرد قد تتغير تبعاً للسياق أو البيئة أو بمرور الوقت.
زيادةً على ذلك، ينتمي كل فرد إلى مجموعات داخلية متعددة عبر جوانب مختلفة من هويته. كما أنّ التصنيف إلى مجموعات داخلية وخارجية يلعب دوراً مهماً في ديناميكيات المجموعات، والتحيّزات، والصراعات في ما بينها.
هل يُبرّر علم النفس تصرّف الناس بجهل أو إنكار للحقيقة؟
الجواب باختصار "لا"، علم النفس يفسّر السلوك لكنه لا يُبرّره.
هناك فرق جوهري بين فهم أسباب تصرّف الأشخاص بطريقة معيّنة (التفسير)، وبين قبول هذا السلوك أو القول إنه مُبرّر أخلاقياً (التبرير).
فالفهم لا يعفي من المسؤولية الأخلاقية، خصوصاً عندما يؤدي جهلهم إلى استمرار الظلم أو الأذى. فعلى سبيل المثال، نشوء الشخص في بيئة عنصرية تُفسر تحيّزه، لكن لن تجعل سلوكه العنصري مقبولاً أخلاقياً أو أقلّ أذى، ومن المؤكد أنها لا تُبرّره.
ما التصرّف الأخلاقي الواجب علينا؟
من منظور الفلسفة الأخلاقية، هناك مُصطلح يُعرف بـ"العواقبية" (Consequentialism)، وهو مصطلح يشير إلى فئة من النظريات الأخلاقية المعيارية التي ترى أنّ نتائج السلوك هي الأساس النهائي للحكم على مدى صواب ذلك السلوك أو خطئه. وعليه، من وجهة نظر العواقبية، فإنّ الفعل الأخلاقي السليم (بما في ذلك الامتناع عن الفعل)، هو الفعل الذي يؤدي إلى نتيجة جيدة. وإنّ التجاهل المتعمد هو فعل أخلاقي سلبي لأنّ تجاهل الحقيقة في وجود الظلم يساهم في استمرار الظلم، بمعنى أنّ الصمت والتبرير يمنعان العدالة، والإنكار يعرقل المصالحة، تحديداً في المجتمعات الخارجة من حالة حرب أو المجتمعات المقموعة سابقاً، وأنّ إنكار الأخطاء يمنع التعافي الحقيقي.
تقع على عاتق الفرد مسؤولية السعي للبحث عن الحقيقة، حتى لو كانت مزعجةً مع تخطّي التحيّزات الشخصية، وتجنّب التجاهل المتعمد. من المهم أيضاً مراجعة المُعتقدات ومواجهة التحيزات، ومواجهة النفس وتفعيل النقد الذاتي. تجب مراجعة القناعات باستمرار، والبحث عن أدلّة مضادة وعدم الاكتفاء بما يدعم وجهة نظرك، ومن المهم تذكّر أنّ الحقيقة في الغالب فجّة وواضحة، وقد يكون رد فعلك الأوّلي في محاولة تبريرها هي إشارتك الأولى إلى ملاحظة أنك قد تهرب من مواجهتها.
هنا، من المهم تذكر أنه في عالمنا اليوم، وفي ظلّ سهولة الوصول إلى المعلومة، فإنّ "الجهل" خيار وليس قدراً، وأنّ اختياره هو مسؤولية الفرد، وتالياً فإنّ نتائج اختياره ستنعكس عليه أيضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Michel abi rached -
منذ يومينمقال مميز
Ali Ali -
منذ 5 أيامجميل و عميق كالبحر
Magdy Khalil -
منذ 6 أياممقال رائع، يبدو انني ساوافق صاحب التعليق الذي اشار اليه المقال.. حيث استبعد ان يكون حواس من سلاله...
Thabet Kakhy -
منذ أسبوعسيد رامي راجعت كل مقالاتك .. ماكاتب عن مجازر بشار ولا مرة ،
اليوم مثلا ذكرى مجزرة الحولة تم...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينيا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينمحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا