هذه هي الليلة الأولى التي أمرّ بها من دون فلذة كبدي...
هذه هي الليلة الأولى التي أمرّ بها من دون فلذة كبدي...
منذ ساعات، حلّ الليل، لكنه لم يكن ككل ليلة. هذه الليلة ثقيلة، خانقة، مشبعة بالحزن والخوف والقلق، وممتلئة بتساؤلات لا أملك لها أجوبة. هذه الليلة تحديداً هي أولى الليالي التي تمرّ عليّ، وأنا أمسك روحي بيدي، أشعر بثقل الغياب، وأحاول أن أستوعب أنّ طفلي لم يعد هنا؛ ليس غائباً عن حضني فحسب، بل عن حدود الوطن أيضاً.
صحيح أنّ حضانة طفلي لم تكن لديّ، وقد انتقلت إلى أبيه قبل مدة، وصحيح أنني لم أكن أراه كل يوم، وأحياناً كانت تمرّ أيام كثيرة دون أن ألتقيه، لكنني كنت على يقين من أنه بخير، في مكان آمن، بين أيدٍ تعرف الحب وتفهم الخوف عليه، أيدٍ تخشى عليه من نسمة هواء باردة، وتحميه من قسوة العالم.
لكن اليوم، انقلبت حياتي في لحظة.
رسالة صوتية واحدة، أرسلها والد طفلي، كانت كفيلةً بأن تهزّ كياني كاملاً. يخبرني فيها بأنه هو وطفلنا عبرا الحدود السورية اللبنانية سيراً على الأقدام، عبر النهر هرباً. كلمة واحدة، لكنها تحمل كل ما يمكن أن يختبئ تحتها من وجع، من خوف، من ضياع، من ألم، من تشتت، ومن قرارات قاسية اتُخذت تحت ضغط لا يُحتمل.
رسالة صوتية واحدة، أرسلها والد طفلي، كانت كفيلةً بأن تهزّ كياني كاملاً. يخبرني فيها بأنه هو وطفلنا عبرا الحدود السورية اللبنانية سيراً على الأقدام، عبر النهر هرباً.
لم يكن هروباً عادياً، بل كان قراراً اضطرارياً، فعلى حدّ قوله، لم يعد الوضع محتملاً. منذ سقوط نظام الأسد، وهو يتعرّض للتهديد اليومي، تارةً بسيارات مطلية بالوحل يقودها عناصر مسلحون، وتمرّ باستفزاز أمام محله، وتارةً أخرى بسرقة سيارته من دون أن يحرّك أحد ساكناً، وكأنّ القانون قرر أن يتعامى عن ظلمه. وأحياناً، يأتي التهديد على هيئة كلمات كراهية تُقال على العلن، تُطلق في كل مكان، وتتوعد بـ"إبادة جميع العلوية عن بكرة أبيهم"، وكأنّهم ليسوا بشراً، ولا شركاء في هذا الوطن المكسور.
والد طفلي علويّ من أمّ سنّية، وكان دائماً يقول إنّ الهوية الحقيقية للإنسان هي أفعاله، لا طائفته. قبل أن يسقط نظام الأسد في سوريا بسنوات قليلة، تمّ اعتقاله لستة أشهر، خرج منها مباشرةً إلى الخدمة العسكرية الاحتياطية، وبعدها بدأت المطاردات والضغوط والتضييق من جميع الجهات. تمت مداهمة محله التجاري مرتين من قبل الجمارك، وسُرق منه ما يقارب خمسة آلاف دولار، بحجة أنه يبيع بضائع "غير مرخّصة".
وعلى الرغم من كل شيء، وبرغم الانفصال الذي وقع بيننا، إلا أنه رجل مدّ يده لفعل الخير، ولطالما واظب على التبرّع والتصدّق، وساعد من يحتاج دون تردّد، ووقف مع المظلوم حتى وإن كان غريباً.
كيف يُعقل أنّ إنساناً ظُلِم في عهد النظام، يُظلَم أيضاً في عهد ما بعده؟ ما ذنبه؟ وماذا اقترف ليعيش خائفاً طوال حياته؟ أهي وصمة الطائفة التي تلاحقه؟ هل صرنا نحاسب الإنسان على اسمه ومكان ولادته، وديانة أهله وطائفته، دون أن ننظر إلى قلبه وأفعاله ونواياه؟
والد طفلي علويّ من أمّ سنّية، وكان دائماً يقول إنّ الهوية الحقيقية للإنسان هي أفعاله، لا طائفته. قبل أن يسقط نظام الأسد في سوريا بسنوات قليلة، تمّ اعتقاله لستة أشهر، خرج منها مباشرةً إلى الخدمة العسكرية الاحتياطية، وبعدها بدأت المطاردات والضغوط والتضييق من جميع الجهات.
أنا أمّ سنّية، أقولها علناً وبفمٍ ملآن: أنا أمّ لطفل من أصل علويّ، ولن أخجل من هذه الحقيقة، أو أختبئ وراء إصبعي. لا أنكر معاناتي كامرأة من إدلب، ولا ما تعرّضت له، ولا الألم الذي يحمله كل فرد في هذه البلاد. لكنني لا أعمّم. لا أعادي من لا يعاديني، ولا أكره من لم يؤذِني. علّمت نفسي، وعلّمت ابني أنّ الإنسانية فوق كل شيء، وأنّ الظلم لا طائفة له.
لطالما شاهدت مقاطع مصوّرةً لأشخاص يهربون عبر النهر. كنت أراهم عبر الشاشة وأشعر بانقباض قلبي. أقول لنفسي: يا ربّ وين صرنا؟ إلى أيّ دِرك وصلنا؟ كنت أشاهدهم وأفكر كم هو قاسٍ أن يحمل الأب طفله على كتفيه، ويخوض معه تلك المياه الباردة تحت جنح الظلام، هاربَين من وطن من المفترض أن يحميهما، لا أن يلفظهما. كنت أظن أنني بعيدة عن هذا المصير، وأنني متفرجة فحسب، وأنّ هذا الألم هو "وجع الآخرين". واليوم، أنا من هؤلاء الآخرين. اليوم، صار ابني أحد أولئك الأطفال الذين رأيتهم على الشاشة، وانقبض قلبي. واليوم، صار وجعي حيّاً، يلامس جلدي، ويمزّقني من الداخل.
طفلي البريء، الهارب فوق أكتاف أبيه، كان يظنّ أن عبور النهر لعبة حماسية، وكان يضحك بسذاجة الأطفال، ويتمنّى لو سار بنفسه فوق المياه، لكنه لم يدرك أنّ تلك الرحلة القصيرة كانت مليئةً بالمخاطر، وأنّ والده حمله على كتفيه ليدرأ عنه البرد والموت والذلّ.
كيف يُعقل أنّ إنساناً ظُلِم في عهد النظام، يُظلَم أيضاً في عهد ما بعده؟ ما ذنبه؟ وماذا اقترف ليعيش خائفاً طوال حياته؟ أهي وصمة الطائفة التي تلاحقه؟
وفي مكالمة فيديو، كان يحدّثني ببراءة: "ماما، أنا زعلان من بابا... ما خلّاني أمشي فوق النهر... كنت بدّي ألعب". بكيت وأنا أضحك، وأخبرته بأنّ "بابا كان خايف عليك من البرد، فحملك فوق أكتافه كي لا تتعب".
لكني كنت أعلم. كنت أعلم أنّ الأمر أكبر من لعبة، وأننا دخلنا في فصل جديد من الخوف.
أنا الآن أكتب هذا وأنا منهكة، أعصابي مرهقة، وقلبي متآكل. أفكر في الغد ولا أراه. أفكر في كيف ستسير الأيام؟ وإلى أين؟ إلى متى؟ كم من الوقت سنظلّ نعيش على الحافة، نهرب من موت إلى آخر، من ظلم إلى آخر، من قسوة إلى قسوة، دون أن نجد وطناً نحتمي به، ودون أن نشعر أنّ هناك مكاناً في هذا العالم يحتوينا نحن وأطفالنا؟
أنا لست بطلةً، ولا أدّعي الشجاعة. أنا أمّ مكلومة فحسب، فقدت جزءاً من روحها على ضفة نهر. طفلي الآن في لبنان، لا أعرف أين بالتحديد، ولا كيف ستمرّ عليه الليالي هناك. هل سينام دافئاً؟ هل سيأكل جيداً؟ هل سيضحك؟ هل سيشتاق إليّ؟ هل سيتذكّر حضني؟ هل سيشعر بأنّ أمّه تراقبه من بعيد وتبكيه كل لحظة؟
أفكر فيه في كل لحظة، أسمع صوته، وأتخيّل خطواته الصغيرة وهو يمشي فوق الماء، بينما يحمله أبوه، وأحاول أن أصدّق أن كل هذا حقيقي، وأنه ليس مجرد كابوس سيزول عند الصباح.
لكن لا صباح يبدّد هذا الكابوس.
اليوم، أنا أمّ سورية، من إدلب، أقولها بكل ألم: ابني علوي، هارب، لاجئ، وبريء. ابني طفل لا يعرف الطائفية، لا يعرف الكراهية، ولا يعرف الحقد. كل ما يعرفه هو الحب، واللعب، والحكايات التي كنت أرويها له قبل النوم. أين سيكمل هذا الطفل قصته؟ في أي بلد؟ بأيّ لغة سيكبر؟ وعلى أيّ ضفة نهر سيبني أحلامه؟
كل ما أعرفه أنّ قلبي ما عاد يحتمل، وأنّ الحزن صار أثقل من أن يُحتمل، وأنّ هذه البلاد تأكل أبناءها دون رحمة، وتحوّلهم إلى لاجئين قبل أن يعرفوا كيف يكتبون أسماءهم.
لا أعرف.
كل ما أعرفه أنّ قلبي ما عاد يحتمل، وأنّ الحزن صار أثقل من أن يُحتمل، وأنّ هذه البلاد تأكل أبناءها دون رحمة، وتحوّلهم إلى لاجئين قبل أن يعرفوا كيف يكتبون أسماءهم.
هذه قصتي. وهذه أول ليلة لي من دونه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Michel abi rached -
منذ 3 أياممقال مميز
Ali Ali -
منذ 6 أيامجميل و عميق كالبحر
Magdy Khalil -
منذ أسبوعمقال رائع، يبدو انني ساوافق صاحب التعليق الذي اشار اليه المقال.. حيث استبعد ان يكون حواس من سلاله...
Thabet Kakhy -
منذ أسبوعسيد رامي راجعت كل مقالاتك .. ماكاتب عن مجازر بشار ولا مرة ،
اليوم مثلا ذكرى مجزرة الحولة تم...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينيا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينمحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا