يحدث القصف هناك ويقع الحطام هنا... في رأسي

يحدث القصف هناك ويقع الحطام هنا... في رأسي

مدونة نحن والحقوق الأساسية

السبت 21 يونيو 202501:38 م

تحوّلت من كائن يحبّ موعد النوم، ويقدّسه، إلى كائن يخافه ويترقّبه بحذر. هكذا، وبعد حرب طاحنة لا أعرف إن كانت قد انتهت فعلاً أم لا، تحوّل موعد نومي إلى كابوس مزعج أعجز عن الاستيقاظ منه. 

أكتب هذا النص في ساعةٍ متأخرة، كمحاولة لحثّ دماغي على التوقّف عن التفكير. هذه الماكينة التي تعتلي جبهتي تكاد أن تنفجر من هول ما يحدث فيها. كيف للمرء أن يواجه القلق وهو أعزل لا يملك من الأمل شيئاً يُسكت به الأصوات الخائفة التي تنخر رأسه؟

قرأت يوماً جملةً علقت في ذهني، تتحدّث عن بلداننا القاسية. هذه العبارة التي وردت في مدوّنة عبر رصيف22، وتقول إنّ "هذه البلاد صعبة لدرجة أنّها تعطيك كل المقومات لتنهار، ولكنها لا تعطيك حق الانهيار"، تلخِّص هول المشهد. مشهد يصلح لأن يكون لقطةً سينمائيةً: أتقلّب في سريري وأحاول مراوغة القلق، فينتصر عليّ مذكِّراً إياي بتلك العبارة. صدقاً، ما فائدة البلاد التي تجعل من انهيارك رفاهيةً تتمنى حصولها؟

مرحلة ما بعد الصدمة ليست مرحلةً لاحقةً كما يظن البعض، بل هي زمن موازٍ. أنتَ فيه هناك وهنا في آنٍ معاً. تجلس في غرفة، وتسمع ضجيج انفجار حدث قبل شهر أو أسبوع أو يوم، تتحدّث مع صديق ويغلبك شعور الخوف، تحاول النوم ويوقظك صراخٌ لم يصدر من أحد

في الصباح، أستفيق وكأنني لم أنَم. الجسد ممدّد، لكن الروح مشنوقة بخيط قلق رفيع، لا يُرى، لكنه يخنق. أفتح هاتفي بعينين نصف مغلقتين، لا لأتفقد الوقت أو رسائل العمل، بل لأطمئن: هل لا يزال المكان الذي أنتمي إليه موجوداً؟ أم تفصله غارة واحدة عن العدم؟ أم أنني سأجد صورة بيتٍ مدمّر على عجلته الأخيرة قبل النشر، يتداولها الناس بتعاطف لن يغيّر شيئاً؟

أعيش اليوم وكأنني أركض فوق طبقة رقيقة من الجليد. لا أعلم متى تنكسر، ولا أملك أدوات النجاة إن كُسرت. أتنفس بصعوبة، وأتظاهر بأنني بخير. أكتب، أبتسم، أعمل، وأعد القهوة كأنّ شيئاً لم يكن، لكن، في داخلي، تصدر أصوات ارتطام هائلة، كأنّ كل ضربة في الخارج تعيد ترتيب الأحشاء وتخلخل الأعصاب.

مرحلة ما بعد الصدمة ليست مرحلةً لاحقةً كما يظن البعض، بل هي زمن موازٍ. أنتَ فيه هناك وهنا في آنٍ معاً. تجلس في غرفة، وتسمع ضجيج انفجار حدث قبل شهر أو أسبوع أو يوم، تتحدّث مع صديق ويغلبك شعور الخوف، تحاول النوم ويوقظك صراخٌ لم يصدر من أحد.

الدماغ لا يعرف كيف يفرّق بين ما انتهى وما يتكرّر. والمشكلة أنه لم ينتهِ أصلاً. نحن لا نملك رفاهية العبور إلى التعافي. ولم نغادر لحظة الخطر بعد، بل نتقلّب داخلها، مثل كائنات صغيرة في عبوة مهتزة. صوت الطائرات ليس في السماء فقط، بل مزروع في رأسي، يعيد تشغيل نفسه في كل لحظة سكون.

حتى الأمنيات تغيّرت. لم أعد أطلب "السلام"، أصبحت أتمنى "الاعتياد". أرجو أن يعتاد جسدي التوتر، أن تصير رعشة يديّ مألوفةً، أن يكفّ قلبي عن الارتجاف كلما دوّى صوتٌ قريب. أريد فقط أن أستطيع الوقوف دون أن أشعر أنني سأسقط، أن أعمل دون أن أبحث عن خبر عاجل يعكّر المزاج أو يعصر القلب.

أحياناً، أشعر بالتعب من تعبي. كيف أفسّر للمراقبين أننا كمن يهرب من الجحيم، بشكل يومي؟ هذا القلق هو نفسه جحيم. أنا خائفة، حتى وإن كنت آمنةً لحظياً. أنا مرهقة، حتى وإن كنت على قيد الحياة.

العالم من حولي يطلب السرعة. أن أعود كما كنت، أن أكتب كأن لا شيء حدث، أن أبتكر وأبدع وأعلّق على التراند. لكني بالكاد أتنفس. بالكاد أستطيع أن أتكلم دون أن تهتزّ نبرة صوتي. من أين آتي بالقوة، وأنا لم أجد بعد طريقةً لفهم ما حدث، ولا حتى طريقة لتجاوزه؟

في الداخل، تتراكم الطبقات. كل صدمة فوق الأخرى، كأننا نجمع أرشيفاً للحزن، ملفاً كبيراً عنوانه: "كيف ننجو دون أن نعيش فعلاً؟".

الليل لا يزال طويلاً. والنوم يظلّ فكرةً مخيفةً، لا لأنني لا أستطيع الوصول إليه، بل لأنني أخشى ما سيحمله. الأحلام ليست ملاذاً هذه الأيام، بل استكمال للكوابيس، ولكن على شاشة أخرى.

أكتب لأنّ الكتابة هي الشكل الوحيد الذي لا يحاسبني على ضعفي. الكتابة لا تفرض عليّ تجاوزاً سريعاً. هي الشيء الوحيد الذي يسمح لي أن أكون حقيقيةً، أن أقول إنني خائفة، مشوّشة، منهكة، وإنني لا أرى الضوء في نهاية هذا النفق حتى الآن.

الأمنيات تغيّرت. لم أعد أطلب "السلام"، أصبحت أتمنى "الاعتياد". أرجو أن يعتاد جسدي التوتر، أن تصير رعشة يديّ مألوفةً، أن يكفّ قلبي عن الارتجاف كلما دوّى صوتٌ قريب

لكنني، برغم هذا كله، ما زلت أكتب. وهذا وحده مقاومة صغيرة للأدوار الزائفة التي نحاول ارتداءها كل صباح. أكتب، لأنني إن لم أفعل، سأختفي داخلياً، شيئاً فشيئاً.

وأعلم أنّ كثيرين مثلي، يكتبون أو يلوذون بالصمت، لكنهم جميعاً يحملون هذا الصراع نفسه. صراع أن تكون حيّاً في زمنٍ لا يريدك أن تكون كاملاً، أن تبقى بلا حيلة في وجه قصفٍ يتجدد، وتهديد لا ينام، وواقع لا يرحم.

ختاماً، لا أملك خاتمةً لهذا النص. لا رسالة أمل مصطنعةً، ولا نهاية مرتبة، لأنّ الحقيقة هي أننا في المنتصف. في قلب العاصفة. نحاول فقط أن نبقى، حتى لو على الهامش. نحاول أن ننجو من دون أن نكذب على أنفسنا. نحاول أن نعترف: هذا الخوف حقيقي، وهذا التعب حقيقي، وهذا الليل... طويل جداً.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image