حين نبحث عن معنى، غالباً ما نبدأ من الأسئلة الصغيرة. كيف يُكتب نصّ مسرحي؟ كيف يُبنى مشهد؟ كيف يتكوّن حوار؟ لكن هذه الأسئلة، مهما بدت تقنيةً، تحمل في طيّاتها أسئلةً أكبر: ما الذي يجعل إنساناً يكتب ليُلقى نصّه على الخشبة، أمام جمهور غريب؟ ما الذي يدفعنا لأن نجسّد الألم، لا أن نحكيه؟ وما الفرق، أصلاً، بين أن نحكي وأن نُمثّل؟
دخلتُ إلى المسرح من باب الكتابة، لا من باب العرض. أردتُ أن أفهم لا الإضاءة أو الحركة، بل البنية العميقة التي تجعل المسرح حيّاً. ولأنني فلسطينية من الداخل -من الحيّز المضغوط بين الهامش والمركز، بين السلطة والتاريخ، بين الحضور المُعلّق والانتماء المُشكّك فيه- فإنّ كلّ كتابٍ أفتحه هو أيضاً اختبار لموقعي من العالم، وامتحان لقدرتي على الفهم دون امتلاك المعنى.
في أحد الأيام، وبين رفوف مكتبة جامعية إسرائيلية، وجدت كتاباً بعنوان مسرحيّات الحرب على سوريا، للكاتبة السورية ناديا خوست. لم يكن الكتاب مُخبّأً، بل ظاهراً، وموضوعاً بهدوء وسط كتب أخرى، كأنّ وجوده هناك أمر بديهي. لكنه لم يكن كذلك. أن يكون هناك كتابٌ عربيّ، عن الحرب، عن الذاكرة، وعن الانهيار، محفوظ في مؤسّسة تخضع لمؤسّسة احتلالية، أمر لا يمكن أن يكون محض مصادفة.
ماذا يعني أن نكتب مسرحاً تحت سقف الاحتلال؟ أن نُمثّل بينما الحرب لم تنته؟ أن نقرأ كتاباً عن سوريا ونحن لا نستطيع أن نزورها؟ أن نُحلّل الألم ونحن نحيا في نظام يصادر الألم ويحوّله إلى علامة تجارية؟
هناك كتبٌ نقرؤها، وهناك كتبٌ تقرؤنا، وهذا واحد منها.
كان حضوره نفسه نوعاً من المشهد المسرحي: نصّ من ضفة أخرى، محفوظ هنا، لا ليُدرّس أو يُناقش، بل ليُعرَض كأثر من زمنٍ منتهٍ. كأنما السماح بوجوده هو جزء من سرديّةٍ أكبر: تلك التي تدّعي التعدديّة، والانفتاح، والسماح بالاختلاف... بشرط أن يكون الاختلاف منزوع الخطر. كُتب المقاومة تُقرأ حين تصبح أرشيفاً، وحين تفقد علاقتها بالزمن الحيّ.
في النصوص التي كتبتها ناديا خوست، لم أقرأ مشاهد حواريةً بين شخصيات مسرحيّة فحسب، بل قرأت مواجهةً كاملةً بين الذاكرة والخوف، بين جيلٍ عاش الحرب ولم يفهمها، وجيلٍ لم يعشها لكن يحاول تفسيرها. ما بدا لي في البداية مجرّد حوارات تمثيلية، انقلب إلى لحظة اعتراف جماعي: كلّ جيل يُسائل الآخر، لا ليُحاسبه، بل لأنه يطلب منه ما لا يمكن منحه؛ تفسير ما لا يمكن تفسيره.
الشباب في النصّ يسألون أسئلةً "ساذجةً": لماذا حدث ما حدث؟ من بدأ الحرب؟ هل كان يمكن تفاديها؟ أما المسنّة، فكانت تجيب بلا إجابة. تُطلق أحكاماً لا تعيد بناء المعنى، بل تحمي ذاتها من الانكشاف. الصمت لم يكن نقصاً في المعلومات، بل دفاعاً ضدّ المساءلة، لأنّ الحرب، في السياق العربي، ليست حدثاً، بل هي نظام معرفيً وأخلاقيً يُعاد إنتاجه باستمرار. وهو ما يجعل المسرح، كفنّ، في موقع حرج: هو مساحة اعتراف، لكنه أيضاً مساحة تجميل. الجسد يُعرِّي، لكنه أيضاً يخفي. الحضور يُقوّي المعنى، لكن يهدّده بالابتذال. وهنا تدخل خوست، لتلعب على الحافة: تكتب مسرحاً لا يُريح المُشاهد، ولا يُربّت على كتف الضحية، ولا يُنذر الجلاد، بل يتركنا في المنتصف فحسب، نلهث.
الكتابة نفسها -كل كتابة- هي ساحة معركة، والكلمة، مثل الرصاصة، لا تحتاج إلا إلى سياقٍ صحيح كي تُطلق.
لم أكن أبحث عن البعد السياسي في هذا الكتاب، لكنه كان حاضراً رغماً عنّي. الكتاب، بمضمونه وموقعه الجغرافي، يطرح سؤالاً فلسفيًاً حول "توزيع الحقيقة". من يملك الحقّ في أن يروي؟ من يُسمح له بالحفاظ على سرديته؟ من يُمنح امتياز تحويل وجعه إلى نص، وخسارته إلى وثيقة؟
كل نظام سلطوي لا يخاف من الألم، بل من اللغة التي تُعيد صياغته. إسرائيل، بهذا المعنى، لا تخشى وجود الكتاب العربي، بل تخشى أن يتحوّل إلى قراءة جديدة للواقع، تقلب الطاولة. ولذلك، تُبقي عليه كأثر، كجزء من عرضٍ متعدّد الهويات، لتقول للعالم: "نحن لا نخاف أصواتكم. لقد جعلناها جزءاً من أرشيفنا".
لكن المعرفة لا تعمل بهذه الطريقة. المعرفة، حين تكون حيّةً، تُقاوم الأرشفة. تنفلت من التصنيف، وتُخرّب النظام الذي وُضعت فيه.
حين قرأت نصوص ناديا خوست، كنت أفكّر في الجيل الذي كتبت عنه، وفي الجيل الذي أكتب منه. نحن فلسطينيي الداخل نعيش دائماً في صراع مع الذاكرة. ليست لنا دولة نحمل أرشيفها، ولا نملك خطاباً رسميًاً يحفظ جراحنا. نعيش في ظلّ أرشيف غيرنا، ونقاوم بأن نكتب في الهوامش، بيدٍ تهدم، ويدٍ تترجّى الاعتراف.
ما قرأته في كتاب خوست، لم يكن عن سوريا وحدها، بل عن منطق كامل يُعيد إنتاج الكارثة، ويُجمّلها حين تتعفّن. كان عن خيانة الذاكرة حين تُحوَّل إلى عمل فنّي دون مساءلة. عن رغبتنا جميعاً في النجاة، حتى لو كلّفنا ذلك الكذب.
ولذلك، لا أظنّ أنّ المسرح وسيلة للنجاة، بل هو المكان الذي نخسر فيه وهم البراءة.
نحن فلسطينيي الداخل نعيش دائماً في صراع مع الذاكرة. ليست لنا دولة نحمل أرشيفها، ولا نملك خطاباً رسميًاً يحفظ جراحنا. نعيش في ظلّ أرشيف غيرنا، ونقاوم بأن نكتب في الهوامش، بيدٍ تهدم، ويدٍ تترجّى الاعتراف
أقفلت الكتاب وسألت نفسي: ماذا يعني أن نكتب مسرحاً تحت سقف الاحتلال؟ أن نُمثّل بينما الحرب لم تنتهِ؟ أن نقرأ كتاباً عن سوريا ونحن لا نستطيع أن نزورها؟ أن نُحلّل الألم ونحن نحيا في نظام يصادر الألم ويحوّله إلى علامة تجارية؟
هذا الكتاب لم يُعلّمني كيف أكتب مشهداً دراميًاً، لكنه جعلني أفهم شيئاً آخر: أنّ الكتابة نفسها -كل كتابة- هي ساحة معركة، وأنّ الكلمة، مثل الرصاصة، لا تحتاج إلا إلى سياقٍ صحيح كي تُطلق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.