شكّلت هزيمة حزيران/ يونيو 1967، التي يُطلق العرب عليها "النكسة"، منعطفاً مفصلياً غيّر وجه إسرائيل والمنطقة بأسرها، ولا تزال آثارها ملموسةً بعد 58 عاماً. فخلال ستة أيام فقط، حققت إسرائيل نصراً عسكرياً حاسماً عزز من مكانتها إقليمياً ودولياً، والأهم تحوّل هذا الانتصار السريع إلى رمز بطولي في الوعي الإسرائيلي، ممهداً لصعود أقوى للمشروع الاستيطاني وإعادة تشكيل مفاهيم الهوية والأرض داخل الأوساط الإسرائيلية.
في هذا التقرير، يقدّم رصيف22، مقاربةً تحليليةً لفهم الأثر الذي تركته حرب حزيران/ يونيو 1967، في إعادة تشكيل الوعي السياسي والأمني الإسرائيلي. وانطلاقاً من قراءات متنوعة لأبرز الباحثين وصنّاع القرار الإسرائيليين، نسعى إلى استكشاف كيف رسخت تلك الحرب تحولات سياسيةً وأمنيةً وإستراتيجيةً لا تزال تلقي بظلالها على المشهد الإسرائيلي والمنطقة حتى اليوم.
الدوافع كما يرويها الإسرائيليون
في تحليله "حرب الأيام الستة... انتصار رسخ ذهنية جامدة"، يشير وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه يعلون، إلى أنّ الأجواء التي سبقت حرب 1967، كانت مشبعةً بشعور عام بوجود تهديد وجودي يحدق بإسرائيل ضمن حدودها الضيقة، ما دفع إلى تصاعد الدعوات لاحتلال مزيد من الأراضي بهدف تحقيق أمن حدودي أكثر ثباتاً واستقراراً.
بحسب يعلون، فإنّ الأجواء التي سبقت حرب 1967، كانت مشبعةً بشعور عام بوجود تهديد وجودي يحدق بإسرائيل ضمن حدودها الضيقة، ما دفع إلى تصاعد الدعوات لاحتلال مزيد من الأراضي بهدف تحقيق أمن حدودي أكثر ثباتاً واستقراراً. فما هي تداعياتها على الإسرائيليين بعد مرور كل هذه السنوات؟
كذلك، يرى المدير الأسبق لمديرية التخطيط في الجيش الإسرائيلي ونائب مدير معهد دراسات الأمن القومي، عودي ديكل، في تحليله "ما مصير إسرائيل لو لم تندلع حرب الأيام الستة؟"، إلى أن إسرائيل قبل هذه الحرب كانت تفتقر إلى أوراق تفاوضية فعالة، وكانت القيادة العسكرية تميل إلى تغيير هذا الواقع من خلال تنفيذ ضربة استباقية ضد العرب.
في تحليلهما المشترك "تحديث الجيش الإسرائيلي في مرحلة ما بعد حرب الأيام الستة"، يشير كل من غابي سيبوني وغال بيرل، إلى أنّ تقريراً صدر عن سلاح الجو عام 1962 خلص إلى أنّ إسرائيل لا يمكنها تحمّل ضربة جوية عربية مباغتة، ما استدعى تبنّي خيار الضربة الاستباقية، وبإشراف قائد سلاح الجو آنذاك الجنرال عيزر وايزمن، تم إعداد خطة لتوجيه ضربة جوية استباقية ستُنفَّذ لاحقاً في 1967.

وفي تحليله "تأمّلات في الردع... دروس من حروب إسرائيل منذ عام 1967"، يرى العميد المتقاعد شلومو بروم، أنّ حرب 1967 كانت استباقيةً، إذ هدفت إسرائيل إلى إحباط تهديدات محتملة نتيجة الحشد العسكري المصري في سيناء وتنسيقه مع سوريا والأردن، ومع ذلك، يؤكد بروم أنه لم يُعثر على أيّ أدلة تؤكد وجود نية مصرية حقيقية لشنّ الحرب.
أما الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي والأستاذ في جامعة بن غوريون، زكي شالوم، فيشير في تحليله "حكومة أشكول قبل حرب الأيام الستة"، إلى أنّ خطوات مصر في أيار/ مايو 1967، من نشر قواتها في سيناء وطرد قوات الأمم المتحدة إلى إغلاق مضيق تيران، مثّلت تراجعاً في قوة الردع التي كانت إسرائيل قد بنتها في صراعاتها السابقة مع الدول العربية. ويؤكد شالوم، أنّ هذا الشعور بتآكل قوة الردع كان الدافع الأساسي الذي دفع إسرائيل إلى خوض الحرب.
أما في تحليله "حرب الأيام الستة... تقييمات الاستخبارات قبيل اندلاع القتال"، فيبيّن ديفيد سيمان، أنّ الاستخبارات الإسرائيلية قللت من خطورة التحركات المصرية في 1967، بل استبعدت احتمال اندلاع صراع عسكري، كما اعتبرت اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا مجرد إجراء شكلي، ومع ذلك، اختارت إسرائيل التصرف وفق مبدأ أن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع.

وفي الوقت الذي شكك فيه هؤلاء العسكريون والباحثون في الطبيعة الدفاعية لحرب 1967، وقدّموا روايات ترى أنّ إسرائيل استغلت الفرصة لتدمير القدرات العسكرية للعرب، فإنّ السردية الشعبية الإسرائيلية ما تزال تُقدّم تلك الحرب كصراع دفاعي فُرض على إسرائيل بفعل تهديدات وجودية، وأنهم كانوا يواجهون "محرقةً جديدةً" أو تهديداً يماثل الهولوكوست.
وفي هذا السياق، يؤكد المدير العام الأسبق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، شلومو أفينيري، في تحليله المعنون "الجدل المتجدد حول التقسيم... انعكاسات حرب يونيو 1967 على السياسة الإسرائيلية ومكانة إسرائيل الدولية"، أنّ حرب الأيام الستة كانت دفاعيةً بحتةً ولم تكن تهدف إلى احتلال أيّ أراضٍ.
آثار هزيمة العرب على المجتمع الإسرائيلي
منذ حرب 1967، مرّ المجتمع الإسرائيلي بتحولات جذرية لم تقتصر على التوسع الجغرافي والسيطرة على أراضٍ جديدة، بل شملت أيضاً تراجع الشعور بالقلق الذي سبق الحرب، وترسيخ إحساس بالأمن والثقة، كما تعززت مكانة الجيش الإسرائيلي داخلياً، وازدادت ثقة النخبة السياسية والعسكرية بقدراتها، ما أسفر عن حالة من النشوة الجماعية اجتاحت المجتمع الإسرائيلي.
وفي تحليله "الحرب والسلام... مسار الأمن الإسرائيلي خلال خمسين عاماً"، يشير القائد الأسبق في سلاح الجو الإسرائيلي ورئيس الاستخبارات العسكرية، عاموس يادلين، إلى أن النصر السريع في حرب 1967 خلق شعوراً أشبه بمعجزة توراتية، واعتقدت قطاعات كبيرة من الإسرائيليين أنّ هذه هي الأيام الستة لقيام "دولة إسرائيل".
كما يذكر أفينيري، في تحليله، أنّ الغالبية العظمى من التيارات الصهيونية قد تكيّفت مع الواقع الذي أفرزته حرب 1948، واعتبرته إنجازاً تاريخياً للشعب اليهودي. غير أنّه يوضح كيف قلبت حرب 1967 الأمور رأساً على عقب، وأحدثت تحوّلاً جذرياً في الوعي السياسي والخطاب الإسرائيلي، ويشير إلى أنّ الزخم العاطفي الذي اجتاح مختلف شرائح المجتمع الإسرائيلي بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، لم يقتصر على استعادة أماكن يعدّها اليهود مقدسةً كحائط المبكى والحرم الإبراهيمي، بل ألقى هذا التأثير بظلاله على المشهد السياسي.
وفي هذا السياق أيضاً، يرى أفينيري، أنّ الواقع الذي أفرزته حرب 1967 ساهم في إحداث تحول سياسي لصالح التيار اليميني، مع تعزيز مشروع الاستيطان وتشكيل سردية صهيونية جديدة، كما تعززت القناعة بأنّ بقاء إسرائيل في الأراضي الفلسطينية لم يعد مجرد خيار أمني مرحلي، بل بات مرتبطاً بدوافع أيديولوجية تمسّ جوهر الرؤية الصهيونية.

أما العميد ديكل، فيرسم في تحليله المشار إليه سلفاً، تصوّراً لما كان يمكن أن يكون عليه الوضع بالنسبة إلى إسرائيل لو لم تندلع الحرب، فقبل 1967، كانت إسرائيل دولةً صغيرةً تواجه تحديات على الأصعدة كافة. ويعتقد ديكل، أنه لو لم تُحقق إسرائيل انتصارها في 1967، لظلّ الصراع العربي الإسرائيلي يرتكز في أفضل حالاته حول القضايا الأساسية التي نشأت عام 1917، وأُعيد تشكيلها في عام 1948.
ويشير ديكل إلى أنّ انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة أفرز شعوراً بالتفوق والاستخفاف بالعدو، وأسهم بشكل كبير في ترسيخ موقف سياسي يرفض الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم أو نيل حقوقهم السياسية. ويرى ديكل، أنّ هذا التحول مثّل لحظةً فارقةً في السياسة الإسرائيلية، حيث تراجع الاستعداد لأي مرونة أو تنازل، بما في ذلك رفض فكرة إقامة كيان فلسطيني مستقلّ في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي تحليله "حرب 1967... التغييرات والتحديات"، يؤكد آفي كوبر، أنّ النصر في حرب الأيام الستة أفرز موجةً من الغطرسة داخل إسرائيل، حيث طغت ثقافة الهجوم على الخطابين السياسي والعسكري، وتحولت إسرائيل إلى دولة احتلال تتحكم عبر قوتها العسكرية بمصير أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني يعيشون تحت سيطرتها.

رسم كاريكاتيري إسرائيلي يسخر من الهزيمة التي مُني بها جمال عبد الناصر في 1967 برغم أنه كان مُجهزاً ومسلحاً جيداً من الاتحاد السوفياتي.
كذلك، يوضح أفينيري، كيف غيّرت نشوة 1967 المشهد السياسي الإسرائيلي بالكامل، فبينما أبدت أحزاب اليسار قبل الحرب استعداداً لتسوية تقضي بإقامة دولة فلسطينية، أدت نتائج حرب 1967 إلى تراجع هذا التوجه، كما صعدت التيارات اليمينية التي رأت في السيطرة على الأراضي المحتلة فرصةً لتحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى".
"النصر في حرب الأيام الستة أفرز موجةً من الغطرسة داخل إسرائيل، حيث طغت ثقافة الهجوم على الخطابين السياسي والعسكري، وتحولت إسرائيل إلى دولة احتلال تتحكم عبر قوتها العسكرية بمصير أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني"
أيضاً، يوضح موشيه يعلون كيف أنّ نتائج حرب 1967 عززت نمطاً ذهنياً صارماً داخل المؤسسات السياسية والأمنية في إسرائيل، وخلقت شعوراً واسعاً بالأمان لدى مختلف فئات المجتمع، ورفعت من مكانة الجيش، ما أثار نشوةً وثقةً كبيرتين لدى الجمهور والقيادة على حد سواء.
مع ذلك، ينتقد يعلون هذه الحرب قائلاً إنها أدت إلى حالة من الجمود في التفكير السياسي، ودفعت القيادة الإسرائيلية للتمسك بأسلوب تفكير عسكري جامد، ويشرح كيف كان الجيش والمجتمع الإسرائيلي يعتقدان أنّ الحرب القادمة ستكون مجرد استمرار لحرب 1967، وإلى درجة انتشار مصطلح "حرب اليوم السابع"، ما يعكس الشعور بأنّ أيّ تحدٍّ جديد سيواجَه بنصر مؤكد.

غلاف كتاب "جميع نكات الأيام الستة" لرافي إلان، 1967.
وفي تحليله "منعطف حاسم... تأثير روايات الجنود وحركة إسرائيل الكبرى في إعادة تشكيل الخطاب الإسرائيلي بعد حرب 1967"، يتناول أومير إيناف، كيف أعادت حرب 1967 تشكيل الوعي الإسرائيلي، حيث تحول التصور من شعب ضعيف ومضطهد إلى شعب قوي ومنتصر، ومن دولة صغيرة محاصرة إلى دولة تضاعفت مساحتها ثلاث مرات وأزالت كل التهديدات التي كانت تهدد وجودها.
ويُبرز إيناف، التحولات العميقة التي شهدها المجتمع الإسرائيلي بعد حرب 1967، مسلّطاً الضوء على الكيفية التي جرى من خلالها تحويل هذه الحرب إلى عنصر ثقافي مؤسِّس، عبر إعادة إنتاجها وتمثيلها في الكتب المدرسية والمناهج التعليمية والأفلام، لتغدو جزءاً محورياً في تشكيل الهوية الإسرائيلية.
يشير إيناف، أيضاً، إلى أن من أبرز مفارقات نتائج حرب 1967 أنها أعادت إحياء الروح الصهيونية، وأطلقت موجةً واسعةً من الدعوات للهجرة الجماعية وتوسيع المشروع الاستيطاني، وقد ذهبت بعض التيارات الصهيونية إلى تفسير هذا الانتصار السريع باعتباره تعبيراً عن مشيئة إلهية وتجلّياً للدعم الربّاني للمشروع الصهيوني.
ويرى إيناف أنّ من أبرز نتائج حرب 1967 تمهيدها الطريق لصعود اليمين المتطرف في إسرائيل، موضحاً أنّ حركة "إسرائيل الكبرى"، برغم جذورها العلمانية ومعارضتها الجزئية للدين، تبنّت بعد حرب 1967 سرديات دينيةً وتوراتيةً لتسويغ مشروعها السياسي.
رؤية الإسرائيليين لتداعيات نصرهم في 1967
وفي "الحرب والسلام... مسار الأمن الإسرائيلي خلال خمسين عاماً"، يقول يادلين إنّ نصر إسرائيل في 1967 أزال الخطر الوجودي العربي الذي كان يهددها، وفتح أمامها آفاقاً إستراتيجيةً غير مسبوقة.
فمنذ ذلك الحين لم تواجه إسرائيل تهديداً مماثلاً، ويفيد يادلين بأنّ حرب 1967 هي الحدث الأهم في مسار الصراع، إذ غيّرت البيئة الأمنية الإقليمية لصالح إسرائيل بشكل جذري، ومهّدت الطريق للسلام مع مصر والأردن، كما ساهمت في تقليص مستوى التهديد السوري.

ويؤكد الرئيس الأسبق لمديرية التخطيط في الجيش الإسرائيلي ونائب مدير معهد دراسات الأمن القومي، عودي ديكل، في تحليله "ما مصير إسرائيل لو لم تندلع حرب الأيام الستة؟"، أنّ هذه الحرب غرست قناعةً لدى العرب بعدم إمكانية هزيمة إسرائيل عسكرياً، ويزعم أنّ حرب الأيام الستة منحت إسرائيل عمقاً إستراتيجياً مكّنها من التعامل حتى مع الهجوم المفاجئ لحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973.
أما شلومو أفينيري، فيذكر ، في التحليل المشار إليه سلفاً،كيف غيّرت حرب الأيام الستة موقع إسرائيل، من "دولة صغيرة بالكاد استطاعت حماية نفسها والحفاظ على وجودها، إلى قوة إقليمية ذات تفوّق عسكري".
ويؤكد أفينيري، أنّ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، برغم ما حملته من تحديات لإسرائيل، لم تُغيّر جوهرياً من المكانة التي أرستها حرب 1967، ويرى أن المكسب الأهم لإسرائيل من حرب الأيام الستة تمثّل في دورها في إعادة تشكيل البيئة الأمنية الإقليمية.
السلام مع مصر
يتفق المحللون الإسرائيليون بغالبيتهم على أنّ توقيع معاهدتَي السلام مع مصر والأردن ما كان ليحدث لولا الهزيمة العربية في 1967، ففي تحليله "ما مصير إسرائيل لو لم تندلع حرب الأيام الستة؟"، يرى العميد عودي ديكل، أنّ هزيمة مصر في 1967 دفعتها إلى إعادة تقييم جدوى الاستمرار في الصراع العسكري مع إسرائيل، ما مهّد لتغيير جذري في إستراتيجيتها.
يذكر أفينيري كيف غيّرت "حرب الأيام الستة" موقع إسرائيل، من "دولة صغيرة بالكاد استطاعت حماية نفسها والحفاظ على وجودها، إلى قوة إقليمية ذات تفوّق عسكري".
ويؤكد ديكل أنّ هذا التحول لم يكن ليتحقق لولا الصدمة التي خلّفتها هزيمة 1967، ويرى أن تبنّي مصر نهج السلام مع إسرائيل يُعدّ أحد أبرز المكاسب الإستراتيجية التي أفرزتها حرب 1967.
من جانبه، يرى إفرايم كام، المتخصص في قضايا الشرق الأوسط والأمن القومي الإسرائيلي، في تحليله "تأثير حرب الأيام الستة في إعادة تشكيل العقيدة الأمنية العربية"، أنّ حرب 1967 تركت أثراً بالغاً على شخصية الرئيس أنور السادات، ووجهت خياراته السياسية في السنوات التالية.
ضعف الفلسطينيين
خلافاً للرأي السائد الذي يرى في هزيمة 1967 نقطة انطلاق لصعود الحركة الوطنية الفلسطينية، ترى أنات كورتز، في تحليلها "منعطف 1967... لحظة فاصلة في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية"، أنّ حرب 1967 أدت إلى تحولات بنيوية أضعفت الموقف الفلسطيني، وحولت القضية الفلسطينية من شأن عربي جامع إلى مسألة ثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين يُنتظر منهم وحدهم إيجاد حلّ لها.
تشير كورتز إلى أنّ نتائج حرب الأيام الستة عززت شعور الفلسطينيين بخيبة الأمل من قدرة الأنظمة العربية على تحرير فلسطين، وهو ما دفعهم إلى تبنّي نهج الكفاح المسلح، غير أنّ هزيمة 1967 أفضت إلى تراجع الدعم العربي، ويتجلى ذلك في طرد حركة فتح من الأردن ولبنان، الأمر الذي دفع الحركة إلى توجيه جهودها نحو بناء مؤسسات سياسية واجتماعية، بدلاً من التركيز على الخيار العسكري.
إعادة تشكيل العقيدة الأمنية العربية
كذلك، ناقش إفرايم كيف دفعت هزيمة 1967 الدول العربية إلى إعادة تقييم عقيدتها الأمنية وإستراتيجياتها في التعامل مع إسرائيل. وهو يرى أنّ من أبرز مكاسب إسرائيل في حرب 1967، ترسيخ قناعة لدى الدول العربية بتفوقها العسكري، مشيراً إلى أنّ الهزيمة تركت أثراً نفسياً عميقاً ومتجذراً سيظلّ حاضراً في الوعي الجماعي العربي لعقود طويلة.

أما العميد شلومو بروم، فيرى أنّ أبرز إنجازات حرب الأيام الستة، امتناع مصر عن ضرب العمق الإسرائيلي خلال حرب 1973، وحتى سوريا امتنعت عن استهداف مناطق بعيدة داخل إسرائيل.
ويؤكد شلومو، أن حرب الأيام الستة تجلّى تأثيرها في تحديد أهداف العرب المحدودة خلال حرب 1973، ففيما كان القادة العرب، حتى منتصف ستينيات القرن العشرين، يعلنون أن هدفهم هو القضاء على إسرائيل، تغيّر هذا الهدف بعد حرب حزيران/ يونيو، ليتركز على إزالة آثار هزيمة عام 1967، أي استعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل خلال تلك الحرب.
في الواقع، أدت هزيمة 1967 إلى تغيير مهم في الإستراتيجية العربية ودور الوحدة العربية الشاملة في الصراع مع إسرائيل، وبرغم محاولات التنسيق بين الدول العربية خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، إلا أنّ قصور التنسيق وتضارب المصالح بين الجيوش العربية كانا واضحين، ما دفع غالبية المحللين الإسرائيليين إلى اعتبار حرب 1967 آخر محاولة عربية للعمل العسكري المشترك، وهي محاولة لم يُعَد تكرارها منذ ذلك الحين.
مكانة إسرائيل دولياً
وفي "الحرب والسلام... مسار الأمن الإسرائيلي خلال خمسين عاماً"، يستعرض يادلين التحولات الجوهرية التي طرأت على مكانة إسرائيل بعد حرب الأيام الستة، إذ تحوّلت من دولة صغيرة وضعيفة تعتمد في أمنها على دعم القوى الكبرى، إلى قوة إقليمية تتمتع بتفوق إستراتيجي وعسكري واستخباراتي.
ويؤكد يادلين أنّ حرب الأيام الستة أسست لتحالف إستراتيجي راسخ بين إسرائيل والولايات المتحدة، بحيث أصبحت واشنطن حجر الزاوية في منظومة الأمن القومي الإسرائيلي، والمزوّد الأساسي للتسليح والدعم العسكري للجيش الإسرائيلي.
من جانبه، يرى ديكل أنّ إسرائيل عقب حرب 1967، ارتقت إلى موقع بارز على الساحة الدولية، وبدأ يُنظر إليها كقوة عسكرية مهيمنة في المنطقة، واصفاً إيّاها بـ"جالوت الإقليمي". أما شلومو أفينيري، المدير العام الأسبق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، فيؤكد أنّ الانتصار الإسرائيلي آنذاك نال دعماً واسعاً من الدول الغربية بلغ حدّ الإجماع.
تصدّع الأسطورة
وفي تحليلهما المشترك "تحديث الجيش الإسرائيلي في مرحلة ما بعد حرب الأيام الستة"، يوضح كل من غابي سيبوني وغال بيرل، أنّ التهديد الوجودي التقليدي الذي كانت تشكله الجيوش العربية على إسرائيل تراجع منذ عام 1967، فيما بدأت تظهر منذ أوائل الألفية تهديدات من نوع مختلف تمثلت في جماعات ما دون الدولة، مثل حزب الله وحماس.
يصف بروم هذا الواقع بالمفارقة اللافتة، مؤكداً أنّ إسرائيل برغم كل الإجراءات التي اتخذتها، لم تتمكن من إيصال رسالة ردعية فعّالة لخصم كحماس بشأن تكلفة الحرب، وتجد إسرائيل نفسها اليوم في مأزق حقيقي
يرى شلومو بروم أنّ حربَي 1967 و1973، وما أعقبهما من مسارات سلام، ساهمت في تقليص خطر الحروب التقليدية ضد إسرائيل، إلا أنّ التهديد الرئيسي الذي تواجهه إسرائيل اليوم، بحسب بروم، يتمثل في حركات غير دولتية لم تتمكن إسرائيل من ردعها كما فعلت مع جيوش نظامية.
ويصف بروم هذا الواقع بالمفارقة اللافتة، مؤكداً أنّ إسرائيل برغم كل الإجراءات التي اتخذتها، لم تتمكن من إيصال رسالة ردعية فعّالة لخصم كحماس بشأن تكلفة الحرب، وتجد إسرائيل نفسها اليوم في مأزق حقيقي يتعلق بوضع إستراتيجية فعّالة للتعامل مع هذا النوع من التهديدات.
ويطرح كل من مائير إلران وكارميت بادان، في تحليلهما المشترك، تساؤلاً جوهرياً حول قدرة حركات مثل حزب الله وحماس على تشكيل تهديد فعال لإسرائيل، ويتوقفان عند المفارقة المتمثلة في عجز إسرائيل عن التعامل مع هذه التهديدات بالفعالية ذاتها التي أظهرتها في مواجهتها الجيوش العربية النظامية.
يقارن الباحثان مائير إلران وكارميت بادان، بين واقع إسرائيل الحالي وما كانت عليه في الفترة التي تلت حرب 1967، ويشيران إلى أنّ صناع القرار في إسرائيل يواجهون اليوم تحدّياً رئيسياً يتمثّل في تهدئة مخاوف الجمهور وتخفيف شعوره الدائم بالتهديد.
وبرغم قدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق انتصارات عسكرية، يؤكد الباحثان أنّ الظروف النفسية والمجتمعية الحالية تفرض تحديات تمنع تكرار مشاعر النشوة والوحدة الوطنية التي سادت عقب انتصار 1967، مشيرَين إلى أنّ المجتمع الإسرائيلي آنذاك كان أكثر تماسكاً، بخلاف حاله اليوم.

أما شلومو أفينيري، فيؤكد أنه برغم تفوق إسرائيل العسكري وغياب أي تهديد عربي وجودي حالي، إلا أنها تشهد تراجعاً في مكانتها على الساحة الدولية. ويُرجع ذلك إلى التحول في الصورة النمطية السائدة في الغرب، حيث يُنظر إلى الفلسطينيين اليوم كضحايا للاحتلال، ما يؤدي إلى تآكل الدعم الدولي لإسرائيل، بخلاف ما كانت عليه الأمور في عام 1967، حين حظيت إسرائيل بتأييد عالمي مكّنها من ترسيخ روايتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.