لا تزال كوكب الشرق أم كلثوم منذ رحيلها عام 1975، تشغل أذهان العديد من النقّاد والباحثين والمستمعين بفنها وتاريخها الفني الممتد كشجرة باسقة. هذه الشجرة التي مثّلت حفلاتها الشهرية أحد فروعها الأساسية الراسخة على مدار الأجيال، ويبدو أيضاً أن الحديث عن سيرتها وأبرز المحطات في مسيرتها، لا زال يضم تفاصيل عدّة وأسراراً تتكشف مع الوقت.
أحد الشغوفين بأم كلثوم وصوتها هو الباحث المصري كريم جمال، المولود في الإسكندرية عام 1992، والذي درس الموسيقى العربية أكاديمياً، قبل أن يحصل على دبلوم الدراسات العليا في مجال العلوم السياسية من كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية جامعة الإسكندرية (2021)، ويكتب العديد المقالات البحثية حول الأدب العربي والتراث الغنائي والموسيقى الشرقية في الصحافة العربية.
غلاف الكتاب
ينتظر كريم كتابه الجديد "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" عن دار تنمية بالقاهرة، فكان لنا هذا الحوار الشيّق معه، وسألناه في البداية عن الدافع وراء تأليفه لهذا الكتاب، فكان جوابه: "فكرة الكتاب قديمة بعض الشيء؛ ففي نهاية عام 2017 أتيح لي الاطلاع على تحقيق كبير أجرته صحيفة فرنسا الأولى (لومند) عن زيارة السيدة أم كلثوم إلى باريس في نوفمبر/تشرين الثاني 1967، وكان الاحتفاء كبيراً بمناسبة مرور خمسين عاماً على تلك الزيارة التاريخية، والتي كانت نقطة البداية في الحفلات الخارجية في مشوار المجهود الحربي، وبالقراءة المتأنية لذلك التحقيق تكشَّف لي أننا مازلنا نجهل الكثير في حياة أم كلثوم، خصوصاً في تلك المرحلة القاسية في حياتها.
ينتظر الباحث المصري كريم جمال كتابه الجديد "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي"، وهو كتاب يحاول توثيق سنوات محددة في حياة أم كلثوم، ومراجعة الدور الفني والوطني الذي تطوّعت للقيام به، من خلال تتبع خطواتها اليومية بين نكسة يونيو 1967 وبين توقفها عن الغناء في مطلع يناير 1973، وهو ما يخالف معظم الكتب والدراسات التي صدرت عنها سابقاً
السيدة أم كلثوم في باريس نوفمبر 1967، من أرشيف صحيفة لومند الفرنسية
فكل ما كُتب عنها أغفل تلك المرحلة، أو أشار إليها سريعاً دون البحث وراء كل رحلة من رحلاتها الخارجية، وتوثيقها بشكل حقيقي، سواء من الناحية التاريخية أو من ناحية التسجيلات الصوتية والمرئية، وكان أكثر ما أثار تعجبي أن دولة غربية مثل فرنسا تقدّر بشكل كامل أثر تلك الرحلة التاريخية، وتعتبرها نقطة مفصلية في تاريخ العلاقات السياسية والفنية بين مصر وفرنسا، في ظل ظروف عصيبة ربطت مصر بالعالم الخارجي".
أم كلثوم والمجهود الحربيّ
يضيف كريم: "اللافت للنظر أنه في العام التالي لذلك التحقيق (2018) أصدر الأرشيف الوطني الإماراتي مجلداً مصوراً ضخماً عن زيارة السيدة أم كلثوم إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1971، وكتب الكاتب والأديب الإماراتي محمد المر في مطلع الكتاب دراسة صغيرة لكنها هامة عن تلك الرحلة وظروفها الخاصة، مع توثيق الرحلة بالصور والتغطيات الصحفية الإماراتية، وهنا تبلورت في ذهني فكرة الكتاب.
وكان القرار هو البحث عن تلك السنوات الغامضة في حياة السيدة أم كلثوم، خصوصاً أننا نعلم جميعاً أن أم كلثوم تعتبر الرمز الأكبر في ما يعرف باسم "المجهود الحربي"، لكننا بكل تأكيد لم يتح لنا معرفة حجم ما قدمته أم كلثوم للدولة المصرية في تلك الظروف القاسية، ولا نعلم أيضاً مقدار الاهتمام الذي قدمته الجمهورية العربية المتحدة آنذاك في تغطية تلك الرحلات وتوثيقها بشكل صحفي ومرئي بسبب غرضها النبيل، والأهم من ذلك، أثر تلك الرحلات في مسيرة أم كلثوم الفنية، خصوصاً أنها تزامنت مع سنواتها الفنية الأخيرة.
لم يعد القارئ في حاجة إلى معرفة متى ولدت أم كلثوم أو مِن مَنْ تزوجت، فهذه المعلومات قُتلت بحثاً على مدار سنوات عديدة، وذلك في حياتها أو بعد وفاتها، لكننا بحاجة إلى محاولة توثيق التاريخ الفني والدور الاجتماعي والوطني الذي تركته أم كلثوم خلفها
وفي نهاية 2019، كانت المادة الأرشيفية قد اكتملت تقريباً، واتضحت الصورة التاريخية عن تلك المرحلة، بكل عناصرها السياسية والفنية والاجتماعية وكل ما لحق بالمجتمع المصري عقب الهزيمة، لأنتهي من المسودة الأولى الكاملة من الكتاب في مايو/أيار2021".
بالرغم من وجود مؤلفات عدّة حول أم كلثوم فإن كريم يرى أن كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" لا يقدم بيوغرافيا بمعناها المتعارف عليه عن أم كلثوم، مثل معظم ما كُتب عنها، ولكن الكتاب يحاول تقديم وتوثيق مُركّز لسنوات محددة في حياة أم كلثوم، ومراجعة ذلك الدور الفني والوطني الذي تطوّعت للقيام به، من خلال تتبع خطواتها اليومية في المرحلة الواقعة بين نكسة يونيو/حزيران 1967 وبين توقفها عن الغناء في مطلع يناير/ كانون الثاني 1973، وهو ما يخالف معظم الكتب والدراسات التي صدرت عنها سابقاً.
أم كلثوم في باريس
فأنا لدي قناعة كبيرة أن القارئ لم يعد في حاجة إلى معرفة متى ولدت أم كلثوم أو مِن مَنْ تزوجت، فهذه المعلومات قُتلت بحثاً على مدار سنوات عديدة، وذلك في حياتها أو بعد وفاتها، لكننا بحاجة إلى محاولة توثيق التاريخ الفني والدور الاجتماعي والوطني الذي تركته أم كلثوم خلفها، ومازال إلى اليوم هو العامل الأكثر تأثيراً في استمرار هالتها الفنية والوطنية، والركيزة الأولى في صياغة صورتها المجتمعية المقدسة، التي مازالت تعتبرها إلى اليوم هرماً من أهرامات القومية المصرية!".
قصيدة الأطلال تعتبر العامل المشترك الأول بين معظم حفلات المجهود الحربي لأم كلثوم، وكان الجمهور يطلبها في كل دولة عربية، حتى لو كان برنامج الحفل يحتوي على أغنية أخرى، بل وصل الأمر إلى غنائها مرتين في بعض الرحلات تلبية لرغبات الجمهور العربي
البحث عن "آثار" أم كلثوم
الباحث كريم جمال
لا يرى كريم أن الكتاب موجّه إلى فئة بعينها من القراء، "فالكتاب موجّه للجميع، فلغته سلسة وبسيطة، وسرده يكاد يقترب من سرد النصوص الروائية وذلك حتى يستطيع القارئ العادي وغير المتخصص فهم تلك المرحلة الصعبة بكل تعقيداتها السياسية والاجتماعية والفنية، ولكن طبعاً دون الإخلال بتوثيقية المعلومات، فكل ما ورد بين دفتي العمل له أصل تاريخي في المصادر الصحفية أو التغطيات التلفزيونية أو من خلال الشهادات التاريخية التي قدمها منْ عاصر تلك المرحلة أو رافق أم كلثوم في تلك الرحلات الخارجية".
ذكاء أم كلثوم المسرحي جعلها تعيد تدوير معظم ما أنتجته في عقد الستينيات، وإعادة تقديمه في حفلات المجهود الحربي بأسلوب جديد وعظيم
لعل أصعب ما يواجه الباحث خلال مشروعه هو توافر المصادر وإمكانية إتاحتها فبحسب كريم: "مصادر الكتاب يمكن تقسيمها إلى قسمين، الأول هو الكتب والشهادات التاريخية، وذلك من أجل توثيق الشق التاريخي لتلك المرحلة وفهم التغيرات التي طالت المجتمع المصري والمنطقة العربية بأثرها، خصوصاً أن لكل بلد عربي فصلاً في الكتاب، أما القسم الثاني فهو الأرشيف الصحفي ويشمل الصحف اليومية والمجلات الفنية، والتي كانت تغطي مجهود أم كلثوم الحربي، ويمكن القول إن 95% مما ورد في الكتاب قد بُني على ذلك الأرشيف الصحفي.
فالصحافة المصرية والعربية كانت تعتبر تحركات أم كلثوم الوطنية بمثابة قيامة للفن العربي في مواجهة المحنة، لذا أفردت الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية على امتداد الوطن العربي عناية خاصة في توثيق جولات أم كلثوم الداخلية والخارجية، وهو ما اعَتَمدت عليه بشكل كبير.
أما بخصوص سهولة الوصول للأرشيف فبكل أسف الأمر صعب للغاية، فالأرشيف الصحفي غير بعيد عن فكر البيروقراطية الحكومية، والوصول إليه يحتاج إلى العديد من الإجراءات والانتظار وأحياناً التصاريح. اللافت للنظر أن تلك البيروقراطية يمكن حلها باستعمال الطرق التكنولوجية في حفظ وتوثيق التراث الصحفي، بدلاً من التعقيدات وكذلك حفاظاً للأرشيف من التلف والضياع، لكن إلى اليوم ذلك الحل لا يُطرح ولا يسعى أحد لتنفيذه!".
كان لا بد من سؤال كريم حول مزاج الجمهور في البلاد العربية التي زارتها أم كلثوم وحول الأغنيات التي كان الطلب عليها يتكرّر، فكان جوابه "بالطبع، فقصيدة (الأطلال) على سبيل المثال، تعتبر العامل المشترك الأول بين معظم حفلات المجهود الحربي، وكان الجمهور يطلبها في كل دولة عربية، حتى لو كان برنامج الحفل يحتوي على أغنية أخرى، بل وصل الأمر إلى غنائها مرتين في بعض الرحلات تلبية لرغبات الجمهور العربي".
حين وقعت أم كلثوم على الخشبة، ثم نهضت
وبطبيعة الحال، لم تخلُ هذه الحفلات من مواقف صعبة وأخرى طريفة، فبحسب كريم: "أم كلثوم تعرضت لمواقف صعبة طوال حياتها، بداية من طفولتها وغنائها في القرى، حتى توقفها عن الغناء عام 1973، لكن في سنوات المجهود الحربي كان معظم تلك المواقف الصعبة مرتبط بالمحبة الشعبية الجارفة التي أحاطت بها، ولعل أبرز تلك المواقف سقوطها على المسرح في باريس عام 1967، وسيجد القارئ في الكتاب التفاصيل الدقيقة لذلك الحدث وكيف حاولت تجاوزه أم كلثوم، وكيف تناولته الصحافة العربية والعالمية".
من يتابع بعض هذه الحفلات يلاحظ أنها شكّلت مخزوناً سمعياً مهماً لسميعة السِت في كل مكان، خصوصاً فيما يتعلق بطريقة الأداء والارتجال. يقول كريم عن هذه النقطة تحديداً: "أعتقد أن هذه هي النقطة الأهم في الكتاب، فالنص يفتح باب تناول تلك التسجيلات الكلثومية وربطها بسياقها الزمني والمكاني والجماهيري، ويحللها من ناحية المدة الزمنية والارتجالات النغمية، والتي كانت في العادة تعتبر نصاً موسيقيّاً موازياً تماماً لكل الألحان الأصلية لأغاني أم كلثوم.
فذكاء أم كلثوم المسرحي جعلها تعيد تدوير معظم ما أنتجته في عقد الستينيات، وإعادة تقديمه في حفلات المجهود الحربي بأسلوب جديد وعظيم، يؤكد أن أهمية حفلات المجهود الحربي ليس فقط مرتبطاً بقضية محو آثار الهزيمة وتخطي النكسة، ولكن أيضاً في زيادة ميراث الذاكرة النغمية لفن أم كلثوم، تأكيداً على أهمية مفهوم الحفلات الحية في حياتها الفنية، ولعل أغرب ما توصلت له أن تلك الحفلات كانت حتمية لا مناص منها في نهاية حياة أم كلثوم، فمع قرب وفاة أم كلثوم كان لابد لها أن ترى بعينها قدر المحبة والتقدير التي كنَّها الشعب العربي لها، وتحاول أن تترك لكل شعب عربي إرثه ونسخته الخاصة من أغانيها، لذا نقول قصيدة (الأطلال) المغرب أو (بعيد عنك) تونس، أو (هذه ليلتي) السودان وهكذا!".
توثيق لا حكم أو انتقاد
يبدو أن هذا المشروع كان مليئاً بالمفاجآت خلال الفترة التي عمل خلالها كريم، كما يقول: "في الحقيقة المشروع مرّ بتطورات عديدة في السنة الأولى تحديداً، فالتصور الأولي للكتاب كان يختلف قليلاً عن المنتج النهائي، ففي البداية كنت أريد كتابة تفسير موسيقيّ وسياسيّ بحكم دراستي للموسيقى والعلوم السياسية عن مرحلة ما بعد الهزيمة من خلال تجربة أم كلثوم، لكن مع الوقت اكتشفت أنه من الأفضل تدوين وتوثيق تلك السنوات فقط، وترك القارئ يخرج بالحكم الذاتي والخاص به الذي يرضيه عن تلك المرحلة الفاصلة، فالكاتب لا يجب أن يكون وصيّاً على القارئ، ولا يصحّ أن يفرض عليه أفكاره وأيديولوجياته، فقط يوّضح له الصورة كما رآها، ويضع يديه على المفاتيح المعرفية التي قد تفتح له كل ما هو مغلق في قراءة التاريخ!".
لا يحب كريم تصنيف هذا العمل، فهو يرى أن "الكتاب في مجمله بحث تاريخي توثيقي وليس نقدياً، والقارئ هو وحده من يملك حق النقد والتقييم في كل ما ورد في الكتاب".
لم تكن هذه الرحلة التوثيقية هيّنة بالنسبة لكريم، فهناك مجموعة من الحفلات المفقودة بصورة بصرية ولم تظهر إلى يومنا هذا، حيث يقول: "الغالبية العظمى من حفلات المجهود الحربي الصوتية محفوظة في كل الإذاعات العربية تقريباً، ولكن هناك بعض الحفلات القليلة غير موجودة في الإذاعة المصرية، بسبب ضعف إمكانيات الإرسال الإذاعي بين مصر والدول العربية آنذاك.
لكن الجيد في الأمر أن تلك الحفلات مازالت موجودة في أرشيف الإذاعات العربية، وتذاع بشكل دوري عبر موجاتها الإذاعية، أما التسجيلات المصورة فهذه هي المشكلة الحقيقة؛ فبعض تلك التسجيلات فُقد حتى في أرشيف التلفزيونات العربية، بسبب أوضاع داخلية خاصة، مثل تسجيلات حفلات المغرب المصورة، والتي يقال إنها أُتلفت بعد انقلاب الجنرال أوفقير الشهير عام 1972، محواً لأي أثر مُسجل يظهر فيه الجنرال المنقلب، ولكن القدر حفظ لنا بعض المقاطع القصيرة من حفلات المغرب وغيرها، وهو ما يطرح إمكانية العثور على تلك الوثائق المصورة ذات يوم محفوظة عند بعض هواة التسجيلات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع