حين تصبح الرحلة إلى دمشق... عبوراً بين الجراح

حين تصبح الرحلة إلى دمشق... عبوراً بين الجراح

مدونة

الأربعاء 25 يونيو 202511:49 ص

"نكتب لا كي نتذكّر، بل كي لا نُمحى".

في سوريا التي تغيّرت تضاريسها كما تتغيّر الوجوه بعد بكاءٍ طويل، لم تعد الرحلات تُقاس بالكيلومترات، بل بعدد الحواجز، وبحجم الخوف المحمول في النظرات، وبالأسئلة التي لا يُسمح بطرحها.

من القامشلي إلى دمشق، رحلة قد تبدو على الخريطة خطاً بسيطاً، لكنها في الحقيقة مسارٌ طويل عبر طبقات العطب السوري، حيث الألم ليس حدثاً طارئاً، بل إقامة شبه دائمة.

في أحد صباحات الشتاء، جمعت أوراقاً طبيةً باسم والدتي، المصابة بورم خبيث في القولون، وبعض الملابس، وهاتفاً محشواً بأرقام أطباء و"معارف" قد يساعدون على تجاوز الحواجز، ثم استقلّيت حافلةً باتجاه العاصمة. لم يكن القرار نابعاً من شجاعة، بل من إرهاق داخلي، من تلك اللحظة التي لا يعود فيها الخوف شيئاً يُحسب.

من القامشلي إلى دمشق، رحلة قد تبدو على الخريطة خطاً بسيطاً، لكنها في الحقيقة مسارٌ طويل عبر طبقات العطب السوري، حيث الألم ليس حدثاً طارئاً، بل إقامة شبه دائمة.


الطريق… حيث تُفتَّش المعاناة وتُصنَّف

مع بداية الطريق، يخيّم شعورٌ غامض بالوداع، لا لأشخاص محددين، بل لنمط حياة، لنوع من الطمأنينة القديمة. بعد الخروج من القامشلي، تتوالى القرى المهدّمة، البيوت نصف المفتوحة كأفواه لم يعد فيها صوت، والأرض التي مرّت عليها جيوش متعددة الجنسيات، كلها تركت وراءها صمتاً ثقيلاً.

عند حاجز قرب السلمية، أُجبرنا على النزول تحت المطر، رجالاً ونساءً وأطفالاً بعرباتٍ مهترئة، الكل خاضع للنداء ذاته: "هويّاتكن، أوراقكن، ليش طالعين؟".

أحد الجنود، بلحية كثيفة وعيون يقظة، راح يسأل عن التقرير الطبي لأمّي: "من أحالها؟ هذا المشفى خاص أو تابع للوزارة؟ المركز معترف به؟"...

وكأنّ الألم نفسه بات يحتاج إلى ترخيص للعبور.

النساء طُلب منهنّ ارتداء غطاء الرأس فوراً، دون نقاش. فتاة في العشرينات، تحمل طفلها، سألت بصوت خفيض: "في غطاء زيادة؟".

أعطاها رجلٌ غريب شماغه. لم يكن تضامناً بالمعنى المعروف، بل حلّاً مؤقتاً، كجميع الحلول في هذا البلد.

بعد اثنتي عشرة ساعةً، دخلنا دمشق، لكن المدينة لم تكن كما تركناها في الذكريات؛ اللافتات القديمة اختفت، تلك التي تحمل صور الأسد الأب والابن، تراجعت أو غُطّيت بآيات قرآنية وسيوف خشبية وأعلام خضراء...

دمشق… مدينة تغيّرت ملامحها وخريطتها

بعد اثنتي عشرة ساعةً، دخلنا دمشق، لكن المدينة لم تكن كما تركناها في الذكريات؛ اللافتات القديمة اختفت، تلك التي تحمل صور الأسد الأب والابن، تراجعت أو غُطّيت بآيات قرآنية وسيوف خشبية وأعلام خضراء، وأما الأسواق، فغدت مساحات من الصمت المضغوط، والخوف الذي تغيّر شكله لا جوهره.

في الطريق إلى مشفى "المواساة"، اجتزنا أحياء فيها وجوه مغلقة النوافذ، ومراهقون يبيعون السجائر بنظرات حذرة.

في مدخل المشفى، كان المشهد شبه سوريالي: مرضى من دير الزور، من رأس العين، من الميادين، يتشاركون ممرّاً طويلاً كأنهم ينتظرون في طابور حياةً مؤجلةً.

طبيب شاب قال لي بصراحة متعبة: "الأدوية ناقصة، مرضاكم ينتظرون قراراً من المستودع، والمستودع ينتظر إذناً من جهة رقابية، والجهة في انتظار مخصّصات. كل شيء مؤجّل".

طبيب شاب قال لي بصراحة متعبة: "الأدوية ناقصة، مرضاكم ينتظرون قراراً من المستودع، والمستودع ينتظر إذناً من جهة رقابية، والجهة في انتظار مخصّصات. كل شيء مؤجّل".

حتى المصل الوريدي، يُسأل عنه الأمن.

"ليش داخلين معكن هاي القنينة؟ من وين؟ صناعة شو؟".

"إنسولين ألماني؟! لأ، رجّعوه، في بديل سوري".

ونحن نعرف أن لا بديل، بل تسويات مع الخطر فحسب.

سائقو دمشق... رواة الخسارات

منذ اليوم الأول، صرت أركب سيارات أجرة كثيرة، لا لأنّ المواصلات متاحة، بل لأنّ كل سائق هنا يُمثل طبقةً مهزومةً بصيغة مختلفة.

في إحدى السيارات، سائق خمسيني، جلسته مستقيمة، وصوته خفيض يقول: "كنت مدرّس لغة فرنسية، بعد 2013 صارت لغتي تهمة، ومدرستي صارت ثكنة، فاشتريت سيارة وقلبت الصفحة".

ثم صمت وقال: "بس ما قدرت قلّب الوجع".

في أحد "السرفيسات" امرأة أربعينية، محجّبة، على خدها ندبة صغيرة: "جوزي مفقود، وابني الأصغر عندو كهربا زائدة بالدماغ، بشتغل من الصبح لآخر العصر، وبعدها برجع، ببكي وبنام".

ثم التفتت نحوي وهمست: "المدينة صارت بتكره البكاء".

وفي سيارة ثالثة، شاب نحيل يرتدي نظارات مكسورةً: "كنت مغنّي شعبي، هلأ؟ بحكي نكات للركّاب، بضحّك الناس وبضحك لحالي، إذا ما ضحكت، بجنّ".

كل راكب هو مستمع مؤقت، وكل سائق هو حارس لذاكرة فقدت التوقيت.

حيّ ركن الدين… ما تبقّى من المدينة

كنت أسكن مؤقتاً في ركن الدين، في غرفة صغيرة على سطح بيت قديم.

"الهوا هون طيب، بس ما في شي طيب بهالبلد غير الهوا"، قالت لي جارتي، وهي لاجئة داخلية من حلب، تبيع أعشاباً مجففةً قرب الجامع.

الحيّ متعب، لكنه حيّاً فيه نساء يبعن البقدونس وكأنهنّ يبعن الأمل، وأطفال يبيعون المسابح كأنهم يوزّعون الغفران.

في زاوية الحي، بائعة مسنّة تبيع الخبز، وعندما قدّمت لي رغيفاً ساخناً، همست كأنها تعرفني: "يلي إله أمّ مريضة، الله بيراعي دربه".

لم أُجِب، كنت على وشك البكاء.

في تلك اللحظة، شعرت بأنّ دمشق، برغم القسوة، لا تزال تملك نبضاً خافتاً، يشبه دقات قلب في جسد مريض، واهن، لكنه مستمر.

لكن المدينة بارعة في الالتفاف على هذا الحياد، تُدخل حزنك في أحزانها، تشدّك بلقمة ساخنة، بنظرة امرأة ترتجف، بصوت سائق يروي وجعه بلا طلب، حتى تشعر بأنّك تنتمي دون رغبة، وأنك تبكي لوجع ليس وجعك.


الانتماء مستحيل... والمراقبة حبل نجاة

في كل مرة، كنت أقول لنفسي: لا تنتمي، لا تنسي لماذا أتيتِ، راقبي فحسب.

لكن المدينة بارعة في الالتفاف على هذا الحياد، تُدخل حزنك في أحزانها، تشدّك بلقمة ساخنة، بنظرة امرأة ترتجف، بصوت سائق يروي وجعه بلا طلب، حتى تشعر بأنّك تنتمي دون رغبة، وأنك تبكي لوجع ليس وجعك.

ومع ذلك، حين غادرت دمشق، لم أشعر بأنني غادرت وطناً، بل عبَرتُه كما يُعبر المريض صالة طوارئ، يبحث عن حياة، أو معجزة، أو نهاية واضحة.

وما زلت أكتب، لأنّ الذاكرة، برغم كل شيء، لا تزال الشيء الوحيد الذي لم يُخضعوه بعد للتفتيش، ولم تُطلب له ورقة "اعتماد"، وهذا، في زمن الحرب، فعل مقاومة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image