يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
في تونس، تروى نُكتةٌ عن فيل وغراب في طائرة حيث يقوم الغراب بضغط زرّ مناداة المضيفة مرّات عدة، وكلما تأتي لتسأله عمّا يريد، يقول إنّه "يتقوحب"، وهي كلمة سفيهة جداً باللهجة التونسية، يُقصد بها أنه يريد السخرية منها دون سبب.
أعجبت اللعبة الفيل، فضغط بدوره على الزرّ، وأجاب المضيفة بالسفاهة نفسها. فغضبت وألقت بهما من الطائرة. في طريقهما إلى الأسفل، رفرف الغراب بجناحيه، وقال للفيل: "كي ما تعرفش تطير… علاش تتقوحب؟".
دعنا نتّفِقُ أوّلاً، على أنّ الجزء المسؤول عن التّخيّل في المخّ عندنا -نحن جيل الألفية العرب بشكل خاصّ- قد ذبُلَ وأصابه ضمور شديد، تاركاً مكانه لبلادة ذهنية، وغباء قد يكون أحياناً إرادياً وبكامل ما بقي من وعينا، فقط لنحمي أرواحنا المثخنة.
في تونس، تروى نُكتةٌ عن فيل وغراب في طائرة حيث يقوم الغراب بضغط زرّ مناداة المضيفة مرّات عدة، وكلما تأتي لتسأله عمّا يريد، يقول إنّه "يتقوحب"، وهي كلمة سفيهة جداً باللهجة التونسية، يُقصد بها أنه يريد السخرية منها دون سبب
وإلّا كيف لرصيف22، أن يتجرّأ على اقتراح فعل وقِحٍ مثل "لنتخيّل". تخيّل!
يعني، يا رصيف22، يا عزيزي، أيّ خيال يُنتَظرُ منّي، أنا المُثقل بقاروة الغاز المنزلي التي ظفرت بها بعد شقاء دام أسابيع، أنا المبعثِرُ سنوات عمري جرياً وراء هموم الذات وفاتورة الكهرباء، أنا المُشتّت بين أوجاع وطني وصور أطفال غزّة وهم يرمقون خذلاني بابتسامة رطبة، أنا اللّاهثُ وراء أقساط السيارة، متحاشياً نظرات رفاقي المسجونين زوراً… كيف أتخطّى ذلك كله وأتخيّل؟ هل تتخيّل؟
عندما تقول "لنتخيّل مستقبلاً أفضل"، أتساءل: هل تقصد مستقبلاً ورديّاً أم "وردية عمل" ثابتة؟ لأننا هنا في تونس، التخيّل الأكثر واقعيةً هو أن تحلم بوظيفة مستقرّة بعد أن تقضي سنوات في الدراسة، لتكتشف أنّ سوق العمل يريدك أن تكون خبيراً في كل شيء، لقاء راتب شهري لا يكفي أسبوعاً.
حتى الخيال العلمي، لم يعد موضع شغف كما في طفولتنا. اختفى تاركاً مكانه لأنواع أطرف من الخيال. فمثلاً، وجود الماء "الصالح للشرب" (ههه لا علينا)، في الحنفية ليومين متتاليين، أضحى ضرباً من الخيال. أو مثلاً، بدعة أن تتخيّل أنّ اجتماعاً مهمّاً عن بُعد، يمكن أن يكتمل بلا انقطاع إنترنت أو كهرباء.
يا سيدي فلنتمادَ: لا يزال التخيّل مجانياً حسب ما أذكر، أليس كذلك؟
تخيّل معي مواطناً تونسيّاً محفوظ الكرامة، لا يلقمه شرطيّ حذاءه، ولا قاضي يسجُنُه لرأي تفوّه به، ولا إعلام يستهين بذكائه. مواطن يمرَضُ فيجد دواءه في أول صيدلية تعترضه، ويتعلّم فيجد مدرسةً تعلّمه ولا "تُعلّم عليه"، ويعمل فيجد شهريةً تكفيه ولا تُفلسه، ويحلم فيجد أرضاً تحتضن أحلامه ولا تلقي بها وبه إلى البحر. تخيّل مواطناً يتنفّس حريةً لا تُقيّدها أغلال الفساد، ويسير في شارع لا يخاف فيه من لصوص النهار ولا لصوص الليل.
تخيّل معي تونسياً لا يحتاج إلى معجزة ليعيش، ولا إلى كَتِفٍ لينجح، ولا إلى حَرْقةٍ ليحقّق ذاته. تخيّل معي مواطناً يرى في المرآة إنساناً لا رقماً في إحصائية بطالة، أو اسماً في قائمة انتظار لا تنتهي.
"تخيّل معي تونسياً لا يحتاج إلى معجزة ليعيش، ولا إلى كَتِفٍ لينجح، ولا إلى حَرْقةٍ ليحقّق ذاته. تخيّل معي مواطناً يرى في المرآة إنساناً لا رقماً في إحصائية بطالة، أو اسماً في قائمة انتظار لا تنتهي"
تخيّل معي نُخبةً سياسيّةً واعيةً بأهميّة دورها في القيادة وضرب المثل، ومثقّفين يقودون المعركة ضد الدجل والشعوذة. تخيّل عقداً اجتماعياً قائماً متماسكاً. تخيّل اختلافاً يُحترمُ وأقليّةً -من أيّ نوع- لا تُضطهدُ. هل تتخيّل؟ تخيّل أموالاً منهوبةً تُستَرجَع وحقوقاً تُستردّ. تخيّل وطناً لا يعامل أبناءه كأيتام يتأفف من الاعتناء بهم.
تخيّل معي تونسيّاً يرسمُ مستقبله بيده، حقاً، بدلاً من أن يكون مجرد مشاهد في فيلم رديء الإخراج، تُكتبُ أحداثه مسبقاً، وما على المواطن غير السمع والطاعة.
تخيّل معي... ولو لمرة واحدة، تونسياً يصل إلى السلطة يوماً ولا تراوده فكرة الخلود فيها؟
لماذا تضحك؟
عزيزي رصيف22، لقد كانت لهذا التّونسيّ، الذي تُضحِكُك اليوم صورة كرامتِه محفوظةً، تجربةٌ -وإن يتيمة- واسعةٌ في ممارسة التخيّل الحالم، إبّان ما حدث في 2011. نعم، ما حدث كان ضرباً من الخيال والهذيان، قبل أن يتلقف هذا التونسيّ أمّ الخيالات من أعلى قمة، ويرجع بها إلى الشارع واقعاً مفروضاً، استطعنا لمس أطرافه لبعض الوقت، فانهالت علينا الخيالات بلا نهاية.
كانت تجربةً تخيّلها المسكين ثورةً، فاختطف بها المُمكِنَ من قلبِ المُتخيَّل، وأسقط أصناماً كان يتخيّلها خالدةً، فاختال المسكين زهواً، وهو يتخيّل تفاصيل المستقبل المشرق الذي تتحدّث عنه، إلى أن عجِز الخيال عن وسعه، فرفعه إلى قممٍ متخيَّلةٍ حاملاً معه خيالات شعوبٍ بأكملِها، ثُمّ سَقَط أو أُسقِطَ أو ربما تساقط… المهم أنّه هوى بِدَويٍّ هائلٍ على أرض واقعٍ من الإسمنت الجاف، بلا مقدماتٍ ولا خيال.
أنا مثلاً، مخلوق بسيط، أدمنتُ الخيال وقتها بسرعة البرق، وركبت خيال الثورة مع من ركبوا، فصرت أتخيّل مستقبلاً مشرقاً -هل ترى نوع الجرأة التي تغويك فيها الخيالات؟- وأصبحت أعدّ درجات العلوّ الشاهق الذي هيّأته خيالاتي لقادم الأجيال حتى تجني ثماره. صار صوتي يعلو في المقهى وأنا أُعدّد بكل صفاقة أحسن الطرق وأقصرها نحو القمّة المنشودة، إلى أن جاء ذلك الصباح المشؤوم.
"أنا مثلاً، مخلوق بسيط، أدمنتُ الخيال وقتها بسرعة البرق، وركبت خيال الثورة مع من ركبوا، فصرت أتخيّل مستقبلاً مشرقاً -هل ترى نوع الجرأة التي تغويك فيها الخيالات؟"
ذات صباح أرعن من شباط/ فبراير 2013، تكسّرت خِلقتي في سقطة مهولة من شاهق تخيّلاتي الديمقراطيّة وأحلامي التقدّمية، مع أوّل رصاصة لم يتخيّلها أحد، وهي تخترق رأس شكري بلعيد، وتلوِّن شاربه الأسطوريّ بالدّم.
شكري، الجميل الذي عرف كيف يمارس فعل الخيال في أبهى حُلَلِه، أحلّ لنا التخيّل دون خوف من السقوط أو وجل من السُّقّاط. عدنا بوطن أطيبَ من الخيال، وقف ونادى على قاتليه، لينعموا بحقّهم في الخيال. تخيّل! لم يعجبهم الأمر طبعاً، إذ أرادوا صبّ إسمنت جديد يسقف خيالنا، فتركهم شكري، وتركنا، وذهب وحده دون أن يعلّمنا كيف نواصل الخيال بعده.
" تونس حديقة فيها مئة وردة، بمئة لون، نختلف ونتعدد داخل إطار مدني سلمي وديمقراطي"، كان يقول.
هل من خيال أبدع من هذا الخيال، عزيزي رصيف22؟
مع الرصاصة الرابعة، طلّقتُ الخيال وتبتُ عن التخيّل وعُدت ملتصقاً بإسمنت الواقع، متقوقعاً متذلّلاً ومستسمِحاً، ووعدت نفسي المكلومة بألّا أجازف بها مرةً أخرى في قِممٍ لا أجيد الهبوط منها.
"ذات صباح أرعن من شباط/ فبراير 2013، تكسّرت خِلقتي في سقطة مهولة من شاهق تخيّلاتي الديمقراطيّة وأحلامي التقدّمية، مع أوّل رصاصة لم يتخيّلها أحد، وهي تخترق رأس شكري بلعيد، وتلوِّن شاربه الأسطوريّ بالدّم"
حنثتُ بوعدي، طبعاً. فاجأت نفسي متلبّسةً بِتَخيُّلاتٍ مسمومة لم أتخيل شرّها قبلاً، تخيُّلات لا أعرف مصدرها، مثل سطوة القانون الدولي، وحقوق الإنسان الكونيّة، والمساواة في الأرض، ودور المجتمع الدولي، وغيرها من أضغاث الأحلام، ليأتي السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وما تلاه، فيفصد آخر الخيالات الفاسدة من دمي، ويُعيدني إلى مكاني، عربيّاً جنوبيّاً، قمحيّاً مغايراً ومُستَعمَراً. لا تخيّلات لي عن الأبيض الشمالي الأشقر الحنون الذي يمدّ لي يد القانون الدولي ليهديني حريّتي المسلوبة وأرضي المغتصبة، فأشكره.
اقتلعتُ بأظافري هذه التخيّلات الجوفاء من عروقها، وغرستُ مكانها حقيقةً عاريةً ثابتةً ومطلقةً لا مناص منها: الأرض المنهوبة سترجع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ يوماتمنى الرد يا استاذ ?
Apple User -
منذ يومهل هناك مواقف كهذه لعلي بن ابي طالب ؟
Assad Abdo -
منذ 3 أيامشخصية جدلية
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامأن تسخر التكنولوجيا من أجل الإنسان وأن نحمل اللغة العربية معنا في سفرنا نحو المستقبل هدفان...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياملم تسميها "أعمالا عدائية" وهي كانت حربا؟
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...