وأنا أتابع ردود الأفعال العربية والعالمية على تحرّك السفينة "مادلين" باتجاه سواحل غزة، في محاولة لكسر حصارها، لفتتني بعض التعليقات السلبية التي جاءت من بعض الناشطين العرب، والتي تتّهم الناشطين أصحاب التحرّك بالاستعراضية، أو بالسعي وراء لحظة بطولية يضيفونها إلى أرشيفهم الشخصي.
هذه التعليقات وغيرها تكشف عن خلل في تعريف فعل التضامن لدى بعض الذهنيات العربية، حيث يتحوّل من كونه فعلاً حقيقياً يعرّض الجسد والحرية للخطر، إلى مجرّد شكل من أشكال التضامن الرقمي الذي يُمارَس من موقع استعلائي ووصائي.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، ساد هذا الشكل التضامني الوصائي الاستعلائي على الساحة العربية، فلم يكتفِ بعض المتضامنين العرب بدعم الفلسطينيين والغزّيين، بل تحوّلوا إلى حُرّاس على بوابات وعيهم، يُملون عليهم شروط التعبير، ويمنحونهم أو يسحبون منهم شرعية الخطاب وفقاً لمقاييسهم الخاصة.
وبينما يخوض أهل غزّة معركتهم اليومية مع الموت والحياة، لم ينشغل بعض المتضامنين العرب بدعمهم، بقدر ما انشغلوا في تقييم خطاباتهم، وتسفيه لغتهم، والتشكيك في قدرتهم على فهم واقعهم الخاص.
بينما يخوض أهل غزّة معركتهم اليومية مع الموت والحياة، لم ينشغل بعض المتضامنين العرب بدعمهم، بقدر ما انشغلوا في تقييم خطاباتهم، وتسفيه لغتهم، والتشكيك في قدرتهم على فهم واقعهم الخاص.
فعل التضامن كما يجب أن يكون
ينسى أولئك المعلّقون أنّ الفعل التضامني، كما جسّدته سفينة "مادلين"، وكما ستجسّده غيرها من التحركات القادمة، هو فعل لا يستند إلى اللغة، بل إلى الموقف. فالناشطون الذين يقودون هذه التحركات، برغم معرفتهم بأنّ فعلهم قد لا يُغيّر الواقع الميداني، يُصرّون عليه، لأنه يمثّل موقفاً ذا حمولات أخلاقية وسياسية في وجه نظام العزل والإبادة.
لم يتحدّث أولئك الناشطون نيابةً عن الفلسطينيين، ولم يدّعوا امتلاك الحقيقة بشأن ما يجب أن يُقال أو يُفعل، بل وضعوا أنفسهم موضع التهديد، كأنهم يُعلنون أمام العالم أنّ حصار غزة لا يمكن تقبّله أو التطبيع معه، حتى لو صمت العالم أجمع.
ما يميّز هذا الشكل التضامني أنه لا يبحث عن اعتراف، ولا يطلب ثناءً. فهو فعل يضع فيه المتضامن جسده في قلب المعركة، ويعرّض نفسه للخطر، لا ليحظى بوسم أو صورة، بل ليساند بشراً غيره، يشعر بهم وبمظلوميتهم، ويرى ضرورة وجوده كداعم لحقهم في الحياة، بدلاً من أن يظلّ شاهداً عليهم وهم يُجوَّعون ويُذبحون.
ما فعلته "مادلين" لم يكن مجرد محاولة فعلية -لها رمزيتها- لكسر الحصار عن غزة، بل كان تعديلاً لصورة التضامن التقليدي الذي يكتفي بالكلام أو يُمارس نوعاً من الوصاية على الضحية.
استعلاء التضامن ومطلب الصمود القسري
على عكس شكل التضامن الفعلي السابق، ينتشر على الساحة العربية شكل من أشكال التضامن الذي لا يكتفي فيه بعض المتضامنين العرب بالتعبير عن دعمهم لغزّة، بل يفرضون على أهلها معايير معيّنةً للصمود، كأنّ عليهم أن يظلوا أقوياء، أو صامتين، أو رموزاً بطوليةً لا تضعف.
هذا الشكل من "التضامن الاستعلائي" لا يعترف بإنسانية الغزّي بقدر ما يُحمّله عبء تمثيل القضية كاملة. يتحوّل الإنسان في غزّة -في ظل هذا الشكل التضامني- من كائن حيّ يحقّ له أن يصرخ أو يشكو أو حتى يطلب الرحمة، إلى أداة رمزية، ويصبح المعيار الحقيقي لقبوله في وعي المتضامِن العربي هو مدى تماهيه مع صورة الصمود المثالية، التي لا تتعب، ولا تسأم، ولا تقول "اكتفيت".
على عكس شكل التضامن الفعلي، ينتشر على الساحة العربية شكل من أشكال التضامن الذي لا يكتفي فيه بعض المتضامنين العرب بالتعبير عن دعمهم لغزّة، بل يفرضون على أهلها معايير معيّنةً للصمود، كأنّ عليهم أن يظلوا أقوياء، أو صامتين، أو رموزاً بطوليةً لا تضعف.
تخوين الصوت الغزّي حين يطلب الاعتراف بالألم
لعلّ أبرز أشكال التضامن الاستعلائي التي انتشرت على الساحة العربية، تتجلّى حين يحاول الفلسطيني المحاصَر أن يلفت نظر العالم إلى حجم الإبادة التي يتعرض لها، وأن يُطالب المتضامنين بموازنة الاحتفاء بالمقاومة مع الاعتراف بالمجازر. فهو يُواجَه في هذه الحالة -غالباً- باتهامات جاهزة بالتثبيط أو نشر اليأس. وكأنّه، بمجرد ذكره للدمار والفقد والموت الجماعي، يُهدّد الرواية المريحة التي يتبنّاها البعض عن غزة المنتصرة دوماً، غزّة التي لا تنكسر، ولا تبكي، ولا تطلب النجدة.
هذا الشكل من "تخوين الصوت الغزّي" يُقصي أصوات الناجين والناجيات، ويُجبرهم على الصمت حفاظاً على صورة نضالية مثالية لا تعبّر عن واقعهم. يتجاهل هذا التضامن الانتقائي أنّ الفعل المقاوم لا يُلغي وجع الإبادة، ولا يُعادل حجم الخسارات اليومية. بل إنّ الإصرار على التهليل المستمرّ قد يُصبح غطاءً غير واعٍ للجرائم الواقعة، بدل أن يكون تضامناً حقيقياً يُنصت للضحايا ويفضح الجريمة كما هي.
هذا الشكل من "تخوين الصوت الغزّي" يُقصي أصوات الناجين والناجيات، ويُجبرهم على الصمت حفاظاً على صورة نضالية مثالية لا تعبّر عن واقعهم.
من التضامن إلى المشاركة
ما فعلته "مادلين" لم يكن مجرد محاولة فعلية -لها رمزيتها- لكسر الحصار عن غزة، بل كان تعديلاً لصورة التضامن التقليدي الذي يكتفي بالكلام أو يُمارس نوعاً من الوصاية على الضحية. وبرغم أنّ السفينة تمّت مهاجمتها من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، واعتُقل الناشطون الذين كانوا على متنها، إلا أنها فتحت الطريق أمام أشكال أكثر جرأةً ومباشرةً من كسر الحصار، لا على المستوى الغربي فحسب، بل العربي أيضاً. فبعدها، انطلقت "قافلة الصمود" من تونس باتجاه معبر رفح، تحمل في طياتها نبضاً شعبياً عربياً رافضاً للحصار، ومُصرّاً على أنّ الفعل التضامني لا يجب أن يبقى حبيس الشاشات والشعارات.
في هذا السياق، يعود التضامن إلى تعريفه الحقيقي باعتباره فِعلاً يبتعد عن أشكال الوصاية والوعظ، ويُعاد له الاعتبار بصفته مشاركةً حقيقيةً في الجرح، وانحيازاً لا يُخوِّن، ولا يُحاسِب، ولا يطلب من الضحية أن تكون بطلةً باستمرار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Alamir -
منذ يوم❤️?
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bahta Bahta -
منذ 6 أياملم يفهم مذا تقصد
Tayma shreet -
منذ 6 أيامWow !