في الحالة السورية الراهنة، ومع التحوّل الذي أسقط بنية الدولة السلطوية المركزية، تقف البلاد اليوم على مفترق فكري لا يقلّ خطورةً عن تعقيداتها السياسية. ثمّة من يتحدّث، بهدوء محسوب أو بلهجة انتصارية، عن ولادة "دولة إسلامية ناعمة"؛ دولة تُحاول المواءمة بين مقتضيات السياسة الدولية ومفردات الخطاب الحداثي من جهة، وبين بنية تشريعية وسلوكية مستمدّة من الشريعة الإسلامية من جهة أخرى.
قد لا يُعلَن هذا التحوّل بوضوح في النصوص التأسيسية، لكنه قد يتجسّد في رمزية الشعارات، وشكل مؤسسات الدولة، وأنماط الرقابة الاجتماعية، وربما في التدرّج الهادئ لإضفاء طابع ديني على التشريع والسلوك العام، تحت ذريعة المرحلة الانتقالية أو "تمرير الوقت وتثبيت الحكم". هنا، لا يعود السؤال تقنياً أو دستورياً، وإنما يصبح وجودياً؛ فمن يملك حقّ التشريع؟ وأيّ شرعية ستؤسِّس للدولة القادمة؟
في معنى التشريع ومرجعيته
التشريع لا يُختزل في كونه أداةً لتنظيم شؤون المجتمع أو فضّ منازعاته، إنما هو في جوهره إعلان رمزي عن مصدر السلطة ومكانة الإنسان داخلها. فعندما يُقال إنّ القوانين تُستمَدّ من "الشريعة"، فإنّ التشريع يُعامَل حينها بوصفه انعكاساً لإرادة عليا مفارقة، تضع الإنسان في موقع التلقّي والخضوع، وليس في موقع المشاركة والتداول. أما حين يُفهم التشريع على أنه نتاجٌ لإرادة جماعية بشرية، قابلة للتفاوض والتعديل، فإننا نكون إزاء تصوّر مغاير للدولة والمجتمع، يرى في الإنسان فاعلاً أخلاقياً سياسياً، لا مجرد منفّذ لتكليفٍ إلهي.
التاريخ السياسي للفكر الديني قام على مركزية مبدأ "الحق الإلهي في الحكم"، والذي كان يعني أنّ "السيادة لله"، وأنّ الحاكم إنما "يُطبّق مشيئةً عليا". لكن مع ولادة الفلسفة السياسية الحديثة، بدأت مفاهيم السيادة تتبدّل؛ لم تعد السلطة شيئاً يُورَّث أو يُنزَّل، وإنما يُفوّض ويُنتزع عبر "عقد اجتماعي"
في هذا السياق، لا يكون جوهر الإشكال في "محتوى القانون"، إذ قد تتقاطع بعض المخرجات الشكلية بين المرجعيتين، وإنما في "مصدره الفلسفي"؛ هل ينبثق من وحيٍ غير خاضع للمراجعة، أو من عقل جمعي يمتثل للمساءلة والتعديل؟ كذلك هل يُؤسِّس التشريع لمواطنٍ يُشارك في صناعة المعايير، أو لتابعٍ يُنتَظر منه الامتثال لما يُقدَّم على أنه حكم نهائي غير قابل للنقاش؟
هذه الإشكالية كانت جوهر ما تناوله جان جاك روسو، حين تحدّث عن "الإرادة العامة" بوصفها المصدر الشرعي الوحيد للقانون، مشيراً إلى أنّ الإنسان لا يكون حرّاً إلا حين يطيع القوانين التي ساهم بنفسه في صياغتها.
في المقابل، أشار عبد الجبار نوري في تحليلاته لبنية التشريع في المجتمعات الإسلامية، إلى أنّ تحوّل الشريعة إلى مصدر حصري للقانون قد شلّ قدرة المجتمعات على تطوير معاييرها القانونية، لأنّ المعيار يُستمَدّ من النص وليس من الواقع، ومن الماضي لا من التفاوض الحاضر.
التاريخ السياسي للفكر الديني قام على مركزية مبدأ "الحق الإلهي في الحكم"، والذي كان يعني أنّ "السيادة لله"، وأنّ الحاكم إنما "يُطبّق مشيئةً عليا"، لا يصوغها بنفسه. وقد مثّل هذا المبدأ عماد السلطويات الدينية عبر العصور، إذ حوّل الحاكم إلى ظلّ إلهي على الأرض، يحكم باسم النص، لا باسم العقد.
لكن مع ولادة الفلسفة السياسية الحديثة، بدأت مفاهيم السيادة تتبدّل. لم تعد السلطة شيئاً يُورَّث أو يُنزَّل، وإنما يُفوض ويُنتزع عبر "عقد اجتماعي"، حيث الشعب هو مصدر السيادة، والقانون هو التجسيد المدني لإرادة متفاوض عليها، لا لتكليف سماوي مفروض من الأعلى.
جان جاك روسو، في نظريته عن "العقد الاجتماعي" (الكتاب الثاني، الفصل الرابع)، لا يُنكر القيمة الرمزية للأديان، لكنه يُسقط عنها صفة الاحتكار الأخلاقي. فالتشريع في الدولة الحديثة لا يقوم على المطلقات، وإنما على النقاش والتوافق، وعلى قابلية القوانين للتبديل مع الزمن، لأنها تُفهم كتعبير عن إرادة بشرية متغيّرة.
وبينما تبدو هذه الرؤية ابنة الحداثة الأوروبية، فإنّ جذورها تمتد أحياناً إلى داخل التقليد الإسلامي العقلاني، كما في تأكيد ابن رشد على استقلال العقل في إدراك الخير (كتاب "فصل المقال"، الجزء الأول، الباب الأول، ص 10)، ورؤية المعتزلة التي فصلت بين معرفة الخير والشر وبين الإيمان بالوحي، وهو ما يُعيد طرح سؤال التنوير، دون عدّه قطيعةً مع الدين، وإنما يعدّ تحريراً للعقل من وصاية النص، لصالح سيادة الإنسان على مصيره.
في المجتمعات التي تستبطن بنيتها التشريعية على أساس ديني، لا تُمارَس الطاعة بوصفها سلوكاً خارجياً فحسب، وإنما تتحوّل إلى بنية داخلية تسكن الضمير ذاته. في هذا الإطار، يتحوّل "الضمير الأخلاقي" إلى ما يشبه ما وصفه فرويد بـ"الأنا العليا"، حيث تصبح الذات مشروطةً بالامتثال، لا عبر الحوار أو النقاش، بل عبر شعور داخلي بالذنب والتهديد.
وهنا، تُمَأسَس السلطة في الوعي النفسي، قبل أن تتجسّد في البُنى القانونية، أي أنّ المواطن في الدولة الدينية يعيش تحت رقابتين؛ الأولى خارجية (تمثّلها مؤسسات الشريعة)، والثانية داخلية (تسكنه كفرد منذ الطفولة عبر التربية الطقسية والدينية والإيمائية).
بينما في الدولة المدنية، تُبنى العلاقة بين المواطن والقانون على أساس الاحترام المتبادل والمسؤولية. القانون لا يُطاع لأنه يمثّل المقدّس، بل لأنه ناتج عن تفاهم اجتماعي يُفترض أنّ الفرد جزء منه. وهكذا، تنتقل الطاعة من منطقة الخوف الماورائي إلى منطقة المسؤولية العقلانية، ومن بنية عمودية إلى علاقة أفقية بين المواطن والمؤسسة.
يجري الحديث عن ولادة "دولة إسلامية ناعمة" في سوريا؛ قد لا يُعلَن ذلك صراحةً في النصوص التأسيسية، وإنما في شكل مؤسسات الدولة، وأنماط الرقابة الاجتماعية، والتدرّج الهادئ لإضفاء طابع ديني على التشريع والسلوك العام. لكن السؤال: من يملك حق التشريع؟ وأيّ شرعية ستؤسِّس للدولة القادمة؟
من السيادة المطلقة إلى العقل المتعاقد
في التقليد الكلاسيكي، صاغ توماس هوبز، فكرة السيادة على أنها تجسيد لـ"ليفياثان" حديث (الفصل 18، ص 18)، أي الكيان الجامع الذي يفترض أنّ الأفراد تخلّوا له عن كامل حريتهم مقابل الأمان. السيادة هنا مطلقة، نهائية، ولا تتجزّأ. وهي في أصلها، وإن بدت دنيويةً، إلا أنها مستبطنة لفكرة "الإله المستتر" الذي لا يُسأل عما يفعل.
وفي تطوّر معاصر أكثر، طوّر كارل شميت - برغم خلفيته اللاهوتية القانونية - أطروحته القاتمة ("اللاهوت السياسي"، الفصل الأول، ص 5)، بأنّ "السيادي هو من يقرّر في حالة الاستثناء"، أي من يملك حق التعليق على القانون نفسه. لكن هذه النظرية التي تستبطن احتكاراً رمزياً للسلطة، هي ما حاول أن يتفاداها المفكرون الليبراليون المعاصرون، من خلال الدفاع عن دولة تحكمها مؤسسات، لا مزاج شخصي أو وصاية دينية.
في التقليد اللاهوتي، الأخلاق مشروطة بعلاقة ثنائية بين العبد والإله؛ الخير ما أمر به، والشرّ ما نهى عنه. لا مكان فعليّاً لفكرة "الضمير" المستقل. لكن الفلسفة الحديثة، خصوصاً الكانطية؛ قلبت هذه المعادلة. يقول كانط ("أسس ميتافيزيقا الأخلاق"، القسم الأول، ص 10)، إنّ الإنسان لا يُصبح أخلاقياً لأنه ينفّذ أوامر خارجيةً، بل لأنه يُخضع أفعاله لمبدأ يمكن تعميمه عقلانياً.
هذا التحوّل، من الطاعة إلى المسؤولية، هو ما يجعل القانون المدني في الدولة الحديثة ممارسةً أخلاقيةً لأنها تُنتج نظاماً يُحاسَب الإنسان فيه لأنه يملك حرية الاختيار. وهنا تدخل مفاهيم علم الاجتماع الأخلاقي، كما طرحها إميل دوركايم ("الأشكال الأولية للحياة الدينية"، الفصل الأول)، وماكس فيبر ("الاقتصاد والمجتمع"، الفصل الثالث)، حيث تكون الأخلاق مُنتجةً ضمن السياق الاجتماعي.
ربما يكمن قلب المسألة في سؤال السيادة. ففي النظم المستندة إلى الشريعة، تكون الكلمة الأخيرة للنص أو لسلطة تؤوّل النص (فقهاء، هيئات شرعية، مجالس دينية أو مجلس إفتاء أعلى). أما في الدولة المدنية، فالكلمة الأخيرة تعود للشعب، ممثّلاً في المؤسسات المنتخبة، التي تحتكم إلى العقل العمومي لا إلى الاجتهاد اللاهوتي.
لا يعني هذا بالضرورة إقصاء الدين من الفضاء الاجتماعي، لكنه يُعيد تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة، بحيث لا تكون الشريعة سلطةً تعلو فوق المواطن، بل تكون خياراً ضمن فضاء الحريات، لا يفرض ذاته على الجميع.
ولا تنفي الدولة المدنية وجود الدين، لكنها تتعامل معه كجزء من الفضاء الاجتماعي الرمزي، وليس كسلطة تشريعية فوق دستورية. هنا، تستند الدولة إلى مبدأ "الحياد الأخلاقي"، الذي طرحه جون راولز ("الليبرالية السياسية"، الفصل الأول)، أي أنّ الدولة لا تنحاز إلى أيّ تصوّر شامل للخير، فهي تضمن حيادها تجاه المعتقدات، كي تتيح التعايش في مجتمع تعدّدي. هذا الحياد لا يعني اللاتديّن، بل عدم فرض تصوّر ديني واحد على المجال العام، وهو ما يعزز مبدأ المواطنة ويضمن احترام ضمير الأفراد.
الفارق الجوهري ليس فقط في المرجعية، وإنما في نوع العلاقة بين المواطن والقانون، فحين تُستمدّ السيادة من النصّ المقدّس، تُطلب من المواطن الطاعة، لأنه أمام كلامٍ لا يُردّ. أما في الدولة المدنية، فالقانون ليس مُقدّساً بل مطالبٌ بالتبرير أمام العقل العمومي. السلطة لا تُفرض، ويُشترط أن تكون مفهومةً ومُقنعةً حتى تُحترم.
وهذا الانتقال من "الطاعة" إلى "التبرير" يُعدّ من أعظم مكاسب التنوير، حيث تُستبدل العلاقة العمودية بالعلاقة الحواريّة، ويُعاد تعريف الشرعية من موقع القوة إلى منطق العقل.
أن تكون السيادة لله، أو للنص، أو للهيئة الدينية، فهذا معناه ببساطة أنّ المواطن ليس هو من يُحدّد مصيره، لكن الدولة الحديثة إن كانت جادّةً في إنسانيتها، لا تُعرّف الإنسان بأنه كائن مطيع، بل كائن حرّ، يُخطئ ويُصوّب، يُفكّر ويُحاسِب، يقترِح ويُعدِّل. ولهذا، يكون التشريع في الدولة المدنية ممارسةً أخلاقيةً عميقةً
وثمّة فرق جوهري بين الشريعة بوصفها مرجعيّةً مغلقةً، وبين القانون المدني بوصفه منتجاً عقلياً يستجيب لضرورات الحياة. والقانون الحديث هو أداة تنظيمية تحمي الحقوق وتوازن بين الحريّات، وهو نظام للحياة المشتركة، ويتغيّر حين تتغيّر شروط الاجتماع البشري.
من هنا، يتجلّى أنّ العلمانية ليست حرباً على الدين، وإنما تحييد للقداسة عن دوائر القرار، فالتشريع القائم على التفاوض يُنتج مجتمعات ناضجةً، بينما التشريع المستند إلى الإلهام يُنتج تبعيةً ذهنيةً لا عقلانية.
أحد أعظم مظاهر التنوير هو الاعتراف بأنّ كل قانون بشري هو قانون ناقص، قابل للمراجعة. في حين أنّ الشريعة – بوصفها نصّاً إلهياً – تُفهَم عادةً على أنها معصومة، وفوق النقد، ونهائية.
الدولة الحديثة تنطلق من مبدأ مضاد؛ القانون المدني هو اجتهاد بشري قابل للخطأ، وبهذا المعنى، فهو أكثر "تواضعاً معرفياً"، وأقرب إلى الإنسان. أن تكون السيادة لله، أو للنص، أو للهيئة الدينية، فهذا معناه ببساطة أن المواطن ليس هو من يُحدّد مصيره، لكن الدولة الحديثة إن كانت جادّةً في إنسانيتها، لا تُعرّف الإنسان بأنه كائن مطيع، بل كائن حرّ، يُخطئ ويُصوّب، يُفكّر ويُحاسِب، يقترِح ويُعدِّل. ولهذا، يكون التشريع في الدولة المدنية ممارسةً أخلاقيةً عميقةً تقوم على الإيمان بالعقل، وبالمسؤولية، وبأنّ الحقيقة تُنتَج عبر التفاوض والاعتراف.
في هذا المعنى، لا تحتاج الدولة إلى صبغة دينية كي تكون عادلةً. تحتاج فقط إلى عقل يحترم الاختلاف، ويمنع تغوّل أي حقيقة واحدة على حساب الحريات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.