بين الملوك المتسامحين والنبوءات الدامية… كيف ظهرت إيران في العهد القديم؟

بين الملوك المتسامحين والنبوءات الدامية… كيف ظهرت إيران في العهد القديم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الاثنين 16 يونيو 202512:02 م

أثارت المواجهات العسكرية التي تدور حالياً بين إيران وإسرائيل، الجدلَ حول طبيعة العلاقات التاريخية بين اليهود والفرس. في هذا السياق، تظهر أهمية الرجوع للعهد القديم/التناخ باعتباره أهم المدونات التي أسهمت بحظّ وافر في تشكيل النظرة اليهودية المعيارية عن الشعب الفارسي. كيف أسهمت الدولة الفارسية الأخمينية في تحرير اليهود من أسر السبي البابلي؟ وماذا عن ملوك الفرس الذين اشتهروا برعايتهم وعطفهم للشعب اليهودي؟ وما هي أهم النبوءات التي تحدثت عن المواجهة التي ستقع بين اليهود والفرس في آخر الزمان؟

كورُش، محرّر اليهود

عانى اليهود كثيراً في فترة السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد. في أثناء تلك الحقبة، ظهرت نبوءة النبي دانيال التي توقعت خلاص اليهود من المعاناة على يد إحدى الإمبراطورات القوية التي ستظهر في المستقبل القريب. جاء في الإصحاح السابع من سِفر دانيال: "وَصَعِدَ مِنَ الْبَحْرِ أَرْبَعَة حَيَوَانَاتٍ عَظِيمَةٍ، هذَا مُخَالِفٌ ذَاكَ. الأَوَّلُ كَالأَسَدِ وَلَهُ جَنَاحَا نَسْرٍ... وَإِذَا بِحَيَوَانٍ آخَرَ ثَانٍ شَبِيهٍ بِالدُّبِّ، فَارْتَفَعَ عَلَى جَنْبٍ وَاحِدٍ وَفِي فَمِهِ ثَلاَثُ أَضْلُعٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ، فَقَالُوا لَهُ هكَذَا: قُمْ كُلْ لَحْمًا كَثِيراً". قيل إن الدب الوارد في النبوءة يشير إلى الإمبراطورية الفارسية الأخمينية التي تأسست على يد كورش العظيم. كما قيل إن ما ورد في النبوءة عن ارتفاع الدب على جنب واحد يُشير إلى أن مملكة فارس "وإن كانت شرسة مع الشعوب، لكنها كانت مُترفقة مع اليهود. تعامل الشعوب الأخرى بطريقة واليهود بطريقة أخرى".

كيف أسهمت الدولة الفارسية الأخمينية في تحرير اليهود من أسر السبي البابلي؟ وماذا عن ملوك الفرس الذين اشتهروا برعايتهم وعطفهم للشعب اليهودي؟ وما هي أهم النبوءات التي تحدثت عن المواجهة التي ستقع بين اليهود والفرس في آخر الزمان؟

بعيداً عن تلك النبوءة، وبالرجوع للمصادر التاريخية القديمة، شهد القرن السادس قبل الميلاد، صعود السلطة الفارسية في منطقة الشرق الأدنى القديم. وفي سنة 539ق.م استطاع الملك الفارسي كورش أن يهزم البابليين وأن يدخل إلى عاصمتهم بابل، ليفرض نفسه كأقوى أباطرة الشرق. بعد ثلاث سنوات فحسب، أعلن الملك الفارسي عن حق اليهود في العودة مرة أخرى إلى وطنهم في أرض فلسطين، وذلك بعد أن قضوا نصف قرن من المعاناة والنفي والعبودية في بلاد الرافدين.

بحسب ما ورد في سفر عزرا، فإن عدد اليهود الذين رجعوا إلى أورشليم كان يزيد عن الأربعين ألف شخص. ولم يكتف كورش بالسماح لهم بالعودة وتسليمهم مقتنيات معبدهم النفيسة التي كان نبوخذ نصر قد اغتصبها وأخفاها في خزائنه فحسب، بل أنه عمل أيضاً على تنظيمهم عندما نصب زربابل رئيساً لهم، وكذلك عندما وقف في صفهم وقت اختلافهم مع السامريين الذين أرادوا أن يشاركوهم في عملية بناء الهيكل، حيث وقف الملك الفارسي مع الراجعين من المنفى، وقصر حق بناء الهيكل عليهم فقط دون غيرهم.

تسببت تلك الأعمال المجيدة، في تعظيم شأن كورش في المُتخيل الكتابي. جاء في سفر أشعيا ذكر كورش باعتباره المخلص الموعود الذي سيعيد بناء مدينة الرب مرة أخرى، حيث ورد في السفر: "هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ فَادِيكَ وَجَابِلُكَ مِنَ الْبَطْنِ: «أَنَا الرَّبُّ صَانِعٌ كُلَّ شَيْءٍ... الْقَائِلُ عَنْ أُورُشَلِيمَ: سَتُعْمَرُ، وَلِمُدُنِ يَهُوذَا: سَتُبْنَيْنَ، وَخِرَبَهَا أُقِيمُ... الْقَائِلُ عَنْ كُورشَ: رَاعِيَّ، فَكُلَّ مَسَرَّتِي يُتَمِّمُ. وَيَقُولُ عَنْ أُورُشَلِيمَ: سَتُبْنَى، وَلِلْهَيْكَلِ: سَتُؤَسَّسُ". كذلك، تمت الإشادة بكورش في سفر أرميا، إذ وصف العاهل الفارسي على لسان الرب: "أَنْتَ لِي فَأْسٌ وَأَدَوَاتُ حَرْبٍ، فَأَسْحَقُ بِكَ الأُمَمَ، وَأُهْلِكُ بِكَ الْمَمَالِكَ".

وهكذا، حظي كورش بمكانة عظيمة في الوجدان اليهودي الجمعي عبر التاريخ، للدرجة التي شجعت إحدى المنظمات الدينية في إسرائيل في سنة 2018 على إصدار عملة معدنية تذكارية تحمل صورة وجهَي كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والملك الفارسي كورش، وذلك اعترافاً بدور الرجلين في خدمة الشعب اليهودي وتعمير عاصمتهم المقدسة.

أحشويروش وأستير

وردت قصة الملكة أستير وعيد البوريم في السفر المُسمى أستير. يُعدّ الجزء الأكبر من هذا السفر من ضمن الأسفار القانونية التي يؤمن بها المسيحيون بكافة طوائفهم ومذاهبهم. أما تتمة هذا السفر -وهي الأعداد من 4 إلى 13 في الإصحاح العاشر بالإضافة إلى خمسة إصحاحات أخرى كاملة- فتُعدّ من ضمن الأسفار القانونية الثانية. وهي مجموعة الأسفار التي تقبلتها الكنائس المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية، بينما رفضها اليهود والكنائس المسيحية البروتستانتية.

بدأ سفر أستير بالحديث عن الملك الفارسي المسمى أحشويروش. وهو نفسه أزركسيس/خشايارشا ابن داريوس الأول الذي حكم الإمبراطورية الفارسية في الفترة 486- 465ق.م. والذي اشتهر بمحاولاته المتعددة -الفاشلة- لغزو بلاد اليونان.

ذكر السفر أنه في السنة الثالثة من مُلك أحشويروش، قام الملك بتطليق زوجته. وأمر بالبحث عن "فتيات عذارى حسنات المنظر" ليختار إحداهن زوجة جديدة له. انتقل السفر بعدها للحديث عن مردخاي وإستير. فذكر أن مردخاي ابن يائير بن شمعي بن قيس، كان أحد شيوخ اليهود الذين وقعوا في السبي البابلي. وأنه كان يربي قريبة يتيمة تسمى هداسا أو أستير، ولمّا كانت تلك الفتاة "جميلة الصورة وحسنة المظهر". فإن مردخاي أخذها وجعلها من ضمن الفتيات السبع الحسناوات اللاتي وصلن لقصر الملك. أُعجب الملك بأستير فتزوجها و"وضع تاج الملك على رأسها". يتابع السفر الحديث عن مردخاي وكيف أنه لمّا عرف بالمؤامرة التي يخطط لها مجموعة من مساعدي الملك لقتل أحشويروش، فإنه سارع بإبلاغ أستير فأخبرت الملك ونبهته بما يُحاك ضده، فقام بالقبض على المتآمرين وصلبهم أمام الجميع.

هنا يظهر شخص جديد في القصة، كان هذا الشخص هو هامان بن همداثا الأجاجي الذي نال مكانة رفيعة في البلاط الفارسي، ومنحه أحشويروش الكثير من الصلاحيات، حتى أنه "رقاه وجعل كرسيه فوق جميع الرؤساء الذين معه. فكان كل عبيد الملك الذين بباب الملك يجثون ويسجدون لهامان لأنه هكذا اوصى به الملك". دخل مردخاي في صدام مع هامان لمّا رفض السجود له، فاشتعل غضب هامان وقرر الانتقام من مردخاي ومن كل اليهود الموجودين في المملكة"، فقال هامان للملك أحشويروش إن هناك شعباً ما متشتتاً ومتفرقاً بين الشعوب في كل بلاد مملكتك، وسننهم مغايرة لجميع الشعوب وهم لا يعملون سنن الملك فلا يليق بالملك تركهم. "فإذا حسن عند الملك فليكتب أن يُبادوا وأنا أزن عشرة آلاف وزنة من الفضة في أيدي الذين يعملون العمل ليؤتى بها إلى خزائن الملك. فنزع الملك خاتمه من يده وأعطاه لهامان بن همداثا الأجاجي عدو اليهود. وقال الملك لهامان الفضة قد أعطيت لك والشعب أيضًا لتفعل به ما يحسن في عينيك".

عرف مردخاي بما جرى بين هامان والملك، وأرسل إلى أستير يطلب منها إقناع الملك بتغيير قراره، ولكنها ردت عليه بأن ميعاد زيارة الملك لها لا يزال بعيداً، وأن قوانين القصر الملكي تنص على أن كل من يتقدم للقاء الملك دون إذن، فإنه يُقتل إلا لو سمح له الملك بذلك.

طلبت أستير من عمها أن يجمع اليهود ويصوموا لمدة ثلاثة أيام حتى ينجح الله خطتها. وفي اليوم الثالث ذهبت أستير للقاء الملك، فلمّا شاهدها "نالت نعمة في عينيه"، وسمح لها أن تطلب ما تريد، فطلبت أن يأتي مع هامان للوليمة التي ستعدّها. وافق الملك واستدعى هامان وذهبا لحضور الوليمة سوياً. في أثناء شربه للخمر، سأل الملك أستير عما تطلبه، فطلبت منه أن يقتل هامان لأنه يهدد شعبها، فوافق أحشويروش وأمر بقتل وزيره، "فصلبوا هامان على الخشبة التي أعدّها لمردخاي... ونزع الملك خاتمه الذي أخذه من هامان واعطاه لمردخاي".

أتاحت تلك المتغيرات الفرصة لليهود للتخلص من جميع أعدائهم في الدولة "فضرب اليهود جميع اعدائهم ضربة سيف وقتل وهلاك وعملوا بمبغضيهم ما أرادوا"، وقُتل الآلاف من أعداء اليهود في كل مكان في أنحاء بلاد الفرس.

تُختتم القصة بالتأكيد على تخليد تلك الذكرى في الوجدان اليهودي الجمعي "ليوجب عليهم -أي اليهود- أن يعيدوا في اليوم الرابع عشر من شهر آذار واليوم الخامس عشر منه في كل سنة. حسب الأيام التي استراح فيها اليهود من أعدائهم والشهر الذي تحول عندهم من حزن إلى فرح ومن نوح إلى يوم طيب ليجعلوها أيام شرب وفرح وارسال أنصبة من كل واحد إلى صاحبه وعطايا للفقراء".

أرتحشستا ونحميا

استمرت العلاقة القوية بين اليهود والفرس في عهد أرتحشستا ابن أحشويروش، والذي يُعدّ خامس ملوك الإمبراطورية الأخمينية. يشهد على ذلك ما ورد في سفر نحميا، المنسوب إلى نحميا بن حكليا، والذي ينحدر من سبط لاوي. جاء في هذا السفر أن نحميا كان يعمل في وظيفة مهمة بالبلاط الإمبراطوري، وهي وظيفة ساقي الملك أي المسؤول عن كل ما يُقدم من مشروبات للملك وضيوفه.

ظهرت إيران بمظهر القوة الشريرة التي تضمر الكراهية والعداوة للشعب اليهودي في بعض النبوءات الواردة في العهد القديم؛ من تلك النبوءات النبوءة المعروفة باسم نبوءة حزقيال، والتي وردت تفاصيلها في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر حزقيال

بحسب ما ورد في الإصحاح الثاني من هذا السفر، في سنة 445ق.م، فإن نحميا طلب من الملك أن يذهب إلى أورشليم "إِذَا سُرَّ الْمَلِكُ، وَإِذَا أَحْسَنَ عَبْدُكَ أَمَامَكَ، تُرْسِلُنِي إِلَى يَهُوذَا، إِلَى مَدِينَةِ قُبُورِ آبَائِي فَأَبْنِيهَا". وافق أرتحشستا على هذا الطلب، وذهب نحميا إلى أورشليم بصحبة عدد كبير من الفرسان لحمايته، وبنى سوراً كبيراً حول المدينة، ثم عاد إلى العاصمة الإمبراطورية في شوشن.

في سنة 433ق.م، حصل نحميا على الإذن الملكي بالسفر إلى أورشليم مرة ثانية، وتم تعينه والياً على المدينة. في تلك الفترة، مارس نحميا جهوداً كبيرة في سبيل توطيد الشريعة بين أبناء الشعب اليهودي.

نبوءة حزقيال

ظهرت إيران بمظهر القوة الشريرة التي تضمر الكراهية والعداوة للشعب اليهودي في بعض النبوءات الواردة في العهد القديم؛ من تلك النبوءات النبوءة المعروفة باسم نبوءة حزقيال، والتي وردت تفاصيلها في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر حزقيال.

بحسب المعلومات المتوافرة، عاش حزقيال ما بين سنتي 622 ق.م و570 ق.م. وكان من بين اليهود الأوائل الذين تم سبيهم وترحيلهم إلى بابل زمن الملك نبوخذ نصر الثاني.

تحدثت النبوءة عن ممالك "جوج وماجوج" التي ستخوض حرباً عنيفة ضد إسرائيل في آخر الزمان: "اجْعَلْ وَجْهَكَ عَلَى جُوجٍ، أَرْضِ مَاجُوجَ رَئِيسِ رُوشٍ مَاشِكَ وَتُوبَالَ، وَتَنَبَّأْ عَلَيْهِ". كما ورد أن مملكة فارس ستكون من بين الممالك المشاركة في الهجوم على إسرائيل "فَارِسَ وَكُوشَ وَفُوطَ مَعَهُمْ، كُلَّهُمْ بِمِجَنٍّ وَخُوذَةٍ".

بطبيعة الحال، اختلفت التفسيرات حول فهم تلك النبوءة وذلك بسبب اللغة الغامضة التي كُتبت بها. ذهبت الكثير من الآراء إلى أن تلك النبوءة قد تحققت بالفعل على يد أنطيوخس الرابع إبيفانيس، والذي كان يضطهد الشعب اليهودي في القرن الثاني قبل الميلاد. رغم ذلك، ذهب البعض إلى أن نبوءة حزقيال لم تقع بعد حتى الآن. يعبر عن ذلك الاتجاه ما ذكره القمص أنطونيوس فكري في كتابه "تفسير الكتاب المقدس" عندما ذكر أن الكثير من الباحثين المعاصرين قد ذهبوا إلى أن ما ورد في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر حزقيال يتحدث عن حرب مستقبلية يخوضها الروس والإيرانيون ضد دولة إسرائيل الحالية. وأن تلك الحرب ستسبق ظهور المسيح المنتظر في آخر الزمان بحسب العقيدة اليهودية، أو المجيء الثاني للمسيح بحسب العقيدة المسيحية. بشكل عام، تزايد الحديث عن تلك النبوءة في الآونة الأخيرة، خصوصاً مع توتر العلاقات بين دولة إسرائيل من جهة، والجمهورية الإسلامية في إيران من جهة أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image