
ميريل (84 عاماً)، جارتي التي تحبّ أن أناديها بـ"ميشا"، مفعمة بالحيوية والنشاط. تحمل ابتسامةً ساحرةً وتتمتع بقوام ممشوق، وتبدو سنوات العمر باديةً على وجهها: في تجاعيده، وفي التصبّغات الجلدية... ومع ذلك، يظلّ جمالها نقياً، دافئاً، وصافياً.
هي ليست نجمةً تلفزيونيةً تسعى إلى لفت الأنظار، بل امرأة عادية من عائلة بولندية لجأت إلى فرنسا هرباً من الحرب. وُلدت في ليون، ودرست فيها، وكبرت بين أحيائها، ولم تغادرها إلا في رحلات قصيرة. عملت في مجال المبيعات، وحصلت على تعليم متوسط، لكنها تفيض تجربةً ودفئاً إنسانياً.
حين دعوتها ذات مساء إلى منزلي مع بعض الأصدقاء، قالت لي بحماسة: "أحب أن أكون بين الناس، فما زال قلبي شابّاً". تأثرت بكلماتها كثيراً، ووجدتني أتساءل: ماذا يعني أن نتقدّم في العمر؟
ربما يجدر بنا استخدام كلمة "نما/تنمو" بدلاً من "كبر/تكبر"، فحينها قد يُنظر إلى التقدّم في السنّ بطريقة مختلفة وأكثر إيجابية
نقول: "نشيخ"، "نعجّز"، "نكبر"، أو "نرزن"، وربما نصف المرحلة بـ"الحكمة". لكنها جميعها كلمات محمّلة بشيء من القلق أو التهميش. أقرأ قليلاً عن الشيخوخة، فأظنّها موضوعاً هامشياً، بينما الحقيقة أنها من أكثر الموضوعات بحثاً وتمويلاً في العالم: من عقاقير إطالة الحياة إلى عمليات التجميل، ومن الأساطير إلى الحقائق، ومن أول عملية تحنيط في مصر القديمة إلى مشاريع السفر إلى المريخ… كلّها محاولات للهروب من فكرة الزمن والتدهور والموت.
هذا ما أردت أن أكتب عنه. ولكن ما الكلمة الأنسب: "عجوز"؟ "كبير في السنّ"؟ "متقدّم في العمر"؟ هل توجد بالفعل كلمة واحدة تفي بالغرض؟
عندما بدأت تعلّم اللغة الفرنسية، قيل لي: "نقول للأطفال إنهم ينمون، وبعد سن الثامنة عشرة نقول إننا نكبر. فلا تخلطي بين الفعلين!"، ومنذ ذلك الحين، صرت أختار فعل "نما" لا "كبر"، وكأنّ في داخلي شيئاً يرفض الكلمة، يخشاها، ويتجنّبها. كأننا جميعاً نمارس نوعاً من الصمت المُتواطئ حين يتعلّق الأمر بالتقدّم في العمر.
ومع ذلك، يبقى هذا الموضوع حاضراً في ذهني، كامرأة في منتصف الأربعينات، وكاختصاصية نفسية تُرافق الآخرين في فهم تحوّلاتهم.
شيخوخة "الثورة"
يمكننا النظر إلى الشيخوخة من زاويتين أساسيتين: جسدية ونفسية؛ فمن الناحية الجسدية، من المتوقّع أن تبدأ القدرات والكفاءات بالتراجع تدريجياً، وهو ما يشكّل تحدياً نفسياً في التقبّل والتأقلم. يتحدث كثير من كبار السنّ عن هذا التدهور: عن أجسادهم التي لم تعد تعمل كما ينبغي، وعن شعورهم بفقدان السيطرة على وظائف أساسية كانوا يعدّونها بديهية.
في المقابل، ومن منظور خارجي، قد يصبح هذا الجسد الطاعن في السنّ محطّ نظرات غير مريحة، يفرض حضوره في المشهد العام بطريقة تُربك أو تثير نفوراً عند البعض، ما يدفعهم - ولو ضمنياً - إلى إقصائه أو إبعاده عن الأنظار.
أما من الزاوية النفسية، فالتدَهور العقلي أو الوجداني لا يحدث بالضرورة مع التقدّم في العمر. ومع ذلك، تسود فكرة أن نهاية الحياة تعني فقدان المشاريع والانكفاء إلى دور المتلقّي، في انتظار النهاية الحتمية. هذا التصوّر لا ينبغي أن يُعامَل كأمر طبيعي أو حتمي.
نحن، في كثير من الأحيان، ننكر وجود الاكتئاب لدى كبار السن، أو نعدّه جزءاً مألوفاً من الشيخوخة، وهذا خطأ مؤسف. فالربط التلقائي بين هذه المرحلة العمرية وعبارات من قبيل "انتظار الموت" يُعبّر، برأيي، عن حالة وجدانية اكتئابية حقيقية لا نتعامل معها بالجدية المطلوبة.
الشيخوخة أشبه باتجاهين متعاكسين؛ الجسد ينكمش مع الزمن، بينما تبقى النفس محتفظة بملامحها، كأن التقدّم في العمر لا يعني بالضرورة نهاية لما نحن عليه
ربما لا نُنصت جيداً إلى هواجس كبار السنّ، لأننا في العمق نخاف من الشيخوخة نفسها. لا نرغب في أن يكونوا قريبين منا أكثر مما ينبغي، وكأنّ "الشيخوخة" قد تكون مُعديةً، وفي الوقت نفسه، لا نتحدث عنهم إلا من زاوية هشاشتهم ومخاوفنا المرتبطة بهم، لا من زاوية ما يشعرون هم به فعلاً.
في سوريا بعد الثورة، قُتل كثيرٌ من الشبان والشابات، وفرّ كثيرون وكثيرات من بطش نظام الأسد أو خوفاً من الالتحاق بالخدمة العسكرية، تاركين وتاركات خلفهم/ نّ الأمهات والآباء، والجدّات والأجداد. كبر هؤلاء بمفردهم، وهم يبحثون عن دليلٍ على حياة أبنائهم وبناتهم، وعن أثر يدلّ على وجودهم. عاشوا سنوات طويلةً معلّقين بالأمل، منتظرين أن يخرج أحبّاؤهم/ نّ من الزنازين. أربعة عشر عاماً مرّت، كبرت فيها الأجساد، فيما بقيت القلوب والعقول معلّقةً بالزمن الذي اختفى فيه الأبناء والبنات.
منهم من يتلمّس أصوات أولاده/ ا وبناته/ ا عبر الهواتف المحمولة، التي باتت أكثر ما يتقنه كبار السنّ في سوريا اليوم. يرون صور أحفادهم وحفيداتهم تكبر على الجانب الآخر من العالم، بينما يُتركون ويُتركن لمواجهة الحياة ومصاعبها وحدهم/ نّ.
عليهم/ نّ أن يصبروا/ ن: إما حتى يحصلوا/ ن على تأشيرة لقاء، أو حتى يشاء الله ويسقط الأسد، ويهرعون/ن عندها للبحث عن سنواتهم/ نّ الضائعة. لكن الزمن لا ينتظر أحداً؛ كثيرون وكثيرات لا تسعفهم/ ن أجسادهم/ ن الهرِمة، ومع ذلك، لا يتوقّفون/ ن عن البحث.
اليوم، وبعد أشهر من الغياب، لا دليل على الحياة أو الوفاة. لا جثمان يُدفن، ولا جنازة، ولا عزاء. وفجأةً، يكتشفون/ ن أنهم/ نّ كبروا/ ن، وأنّ الزمان لم يعد كما كان. حتى تلك القلوب التي انتظرت بأملٍ شاب، باتت تنهكها الآلام.
أما من كان "محظوظاً" وعاد إليه الغائب/ ة، فقد عاد ليجد أن كل شيء قد تغيّر: الأبناء لم يعودوا كما كانوا، ولا الآباء والأمهات بقوا كما كانوا. وهكذا، يصبح السؤال عن التقدّم في السن، والشيخوخة، والرعاية، حاضراً بقوة في أذهان الجميع.
النقطة الحرجة
مع تقدّم العمر تعود إلى السطح مشاعر دفينة، راسخة في أعماق الطفولة الأولى. يشير المعالج النفسي جان مارك تالبين، المتخصص في الشيخوخة الطبيعية والمرضية، في إحدى محاضراته التي استند فيها إلى نظريات سيغموند فرويد، إلى أنّ الحاجة إلى المساعدة في الشيخوخة ليست فقط نتيجةً لوهن الجسد، بل ترتبط أيضاً - وبقوة - بتجارب الرضيع الأولى. في تلك المرحلة، كان البقاء مرهوناً تماماً باهتمام الكبار، وإذا ما ترافقت هذه الحاجة مع شعور بالإهمال أو الخوف أو الفقد، فإن أثرها يبقى ساكناً في النفس لسنوات طويلة. وحين يعود الجسد للمطالبة بالمساعدة في الكِبر، تنفتح الجراح القديمة: الخوف من الهجر، من التبعية، ومن أن نصبح عبئاً على من حولنا.
في شيخوختنا، نكتشف أننا نعود إلى تلك النقطة الحرجة: عندما كانت حياتنا مرتبطةً بإرادة الآخرين. لذلك، قد يسلك كبار السن أحد طريقين: إما التمسّك الشديد بالآخر والتعلّق به كضمانة ضد الوحدة، أو الرفض التام للمساعدة في محاولة لإثبات الاستقلالية، حتى لو كان الثمن العزلة والانهيار الصامت.
لكن الأزمة لا تقف عند حدود الجسد. فمع التقدّم في العمر، تخوننا أجسادنا أحياناً: لا تلبّي رغباتنا، ولا تواكب إيقاع أرواحنا. ويصبح التراجع الجسدي صدمةً نرجسيةً مؤلمةً، يصعُب الحديث عنها. فمن المؤلم أن يتحوّل الجسد، الذي كان أداة الفعل، إلى عبء يحتاج إلى رعاية.
وعند هذا المفترق، تعود مشاعر الطفولة المبكرة، ويُعاد فتح جرح الاعتمادية. وهذا ما يجعل مرافقة كبار السن أمراً يتجاوز الرعاية الجسدية، إلى مسؤولية عاطفية ونفسية عميقة، تتطلّب الإصغاء لما لم يُقَل في السابق.
القلق من التقدم في السنّ، في جوهره، ليس إلا قلقاً من النهاية، من الموت نفسه. وهو قلقٌ يتجلّى في رغبة دفينة في إيقاف الزمن، وكأننا نحاول تجميد الجسد في لحظة شباب دائم. من هنا نفهم اللجوء المتزايد إلى الجراحات التجميلية، والهوس باستعادة مظاهر الفتوة، بل حتى ذلك النشاط المفاجئ الذي يعيشه البعض في منتصف العمر، وكأنهم يعودون إلى سنّ الخامسة والعشرين، يعيشون قصص حب مراهقة ويصرّون على أن العمر مجرد رقم.
لكن خلف هذا السعي، يكمن سؤال أعمق: ماذا يعني أن نشيخ؟ وماذا نفعل عندما يبدأ الجسد بالتراجع، والمرض بالتسلل، والموت بالاقتراب؟ هل سنشيخ مثل والدينا؟ كثيراً ما نسمع في جلسات العلاج عبارات من قبيل: "أصبحت أقلق مثل أمي" أو "أشعر أنني أكرر هواجس أبي"، كأنّ الشيخوخة مرآة نخشى أن نحدّق فيها طويلاً.
ربما لهذا، تصبح مرافقة كبار السنّ تحدّياً معقداً؛ ليس فقط لأنهم يتقدّمون في العمر، بل لأننا نحن أيضاً نواجه في وجوههم أعمارنا القادمة.
حياة خلف الكواليس
لا يزال موضوع العلاج النفسي لكبار السنّ مهمّشاً، برغم ازدياد الاهتمام به في السنوات الأخيرة. فالكثير من الأخصائيين النفسيين يترددون في خوض هذا المجال؛ حتى أنّ التحليل النفسي، في بداياته، لم يشجّع على العمل مع المسنّين. ففرويد نفسه استبعدهم فترةً طويلة، معتبراً أنّ تعقيدهم النفسي يجعل العلاج غير مجدٍ، قبل أن يتراجع لاحقاً عن رأيه ويقرّ بأن هذا التمييز ليس منطقياً، فكل إنسان يحمل بداخله عالماً يستحق الإصغاء.
وما زالت أحكام مسبقة شائعة حتى اليوم، منها أنّ كبار السنّ لا يتغيرون أو أن طاقاتهم العاطفية "راكدة". في حين أن مشكلتهم الحقيقية تكمن في البيئة المحيطة، التي تكون غالباً غير مستقرة، مليئة بالخسائر، ما يدفعهم إلى التمسك بما تبقّى حفاظاً على هوية متماسكة.
ربما لا نصغي حقاً لهواجس كبار السن، لأننا نخشى الشيخوخة في أعماقنا، فنُبقيهم على مسافة، ونتحدث عنهم من منظور هشاشتهم لا مشاعرهم
كثيراً ما تُختصر علاقة العلاج بكبار السنّ في "جلسات دعم"، وكأنهم لا يحتاجون إلى علاج نفسي فعلي، بل فقط إلى مرافقة في طريقهم إلى النهاية. لكن هذا تصوّر قاصر. فالمسنّ - برغم فقدان بعض وظائفه الجسدية - يظلّ يحمل عالماً داخلياً نابضاً بالحياة والتجارب والمعنى. المطلوب هو أن نراهم من زاوية الحياة، لا الموت. أن نصغي، لا كمن يقرأ في كتابٍ قديم، بل كمن يفتح أبواباً جديدةً لما يمكن أن يحدث، حتى في مراحل متقدمة من العمر.
لقد وجدت في هذا العمل العلاجي ثراءً حقيقياً. الاعتراف بأنّ لدى المسنّين حياةً نفسيةً داخليةً لا تقلّ أهميةً عن غيرهم، هو الخطوة الأولى لمرافقتهم بكرامة وصدق.
أهدتني ميشا باقة زهور وردية من حديقة منزل شقيقها في ضواحي المدينة. قالت بابتسامة: "تذكرتك عندما رأيت هذه الزهور." وضعتُها في المزهرية وجلست أكتب... كأنّ الكلمات لا تشيخ كما ميشا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mohamed hatem hussein -
منذ 6 ساعاتجميل، فكرنى بعرض مسرحي للمخرج الفرنسي / المغربى محمد الخطيب اسمه la vie secrète des vieux
Nezar Kheder -
منذ 9 ساعاتالفقر ، الجوع لا فضيلة لهم ، انهم الطريق الى العدم و الانحلال من كل شيء حتى الحلم
Nezar Kheder -
منذ 9 ساعاتالفقر ، في هذا المسار
Africano Maro -
منذ يومالله يكون فى العون
Mohammed Alamir -
منذ يومينالوقت في الحرب م طبيعي اليوم يساوي سنة بنكبر بقدر الأحداث البنعيشها قصف و انسحاب و مجاعة و حصار...
Mohammed Alamir -
منذ يومينالوقت في الحرب م طبيعي اليوم يساوي سنة