هذا الرجل الأمي، العبقري الجبار محمد علي، تجسيد للذكاء الفطري. تاجر دخان قاد حملة تركية لملء الفراغ بعد إخراج الفرنسيين، فلم يغادر مصر، وأسس دولة. لم يعرف كتاب "الأمير" لماكيافيللي، ونصحوه بالاستماع إلى من يقرؤه عليه، فأحسّ بالضجر بعد عدة صفحات. قال إنه يعي هذا، وينفذه على نحو أفضل من المؤلف. ولا أظن محمد علي سمع اسم المفكر الخطيب الروماني ماركوس توليوس شيشرون، مؤلف كتاب "في مديح الشيخوخة". لم يذكر ذلك نوبار باشا في مذكراته التي تضمنت ملاحظات مهمة، عن الصراع الخفي والمعلن بين أب مهيب تصيبه نوبات جنون الشيخوخة، وابنه المريض إبراهيم، القائد الكبير الذي يشعر بالرعب من أبيه.
شفي إبراهيم، عام 1845، من مرض في الرئة. وفي العام التالي زار باريس، واستقبله رسمياً ملك فرنسا لويس فيليب، "باعتباره القائد المنتصر في موقعة نزيب"، نصيبين، التي دمر فيها الجيش التركي بالكامل عام 1939. واحتشدت الجموع لتحية إبراهيم باشا، والهتاف باسمه، وأسرعوا "نحو موكبه في كل مرة يخرج فيها من قصر الإليزيه أو يدخل إليه". قدّر نوبار أن التكريم الذي ناله إبراهيم في فرنسا وبريطانيا أثار حفيظة أبيه وغيرته. نوبار سمع محمد علي يقول: "أنا رجل مسنّ وإبراهيم أكبر مني سناً بسبب مرضه وهو مكسور الجناح". أدرك الباشا أن الشيخوخة لا ترتبط بالسن، فالمرض أشدّ وطأة، يكسر الروح، ويعجل بالموت.
لا أظن محمد علي سمع اسم المفكر الخطيب الروماني ماركوس توليوس شيشرون، مؤلف كتاب "في مديح الشيخوخة". لم يذكر ذلك نوبار باشا في مذكراته التي تضمنت ملاحظات مهمة، عن الصراع الخفي والمعلن بين أب مهيب تصيبه نوبات جنون الشيخوخة، وابنه المريض إبراهيم، القائد الكبير الذي يشعر بالرعب من أبيه
يذكر نوبار أن محمد علي (1769 ـ 1849) لم يفقد عقله تماماً في ربيع 1848، "لأنه في لحظات ما كان يدرك تماماً الحالة التي هو عليها ويراقب نفسه فما إن يشعر بأنه سوف يدخل في نوبة هذيان أو فقدان العقل إلا وقد كان يختلي بنفسه، في عزلة تامة محاولاً بكل قوة أن يستعيد تسلسل أفكاره. سواء كان يستطيع هذا أم لا إلا أن هيئته ومظهره لم يتغيرا... محتفظاً بهيبته الكبيرة وبهذه القدرة الفائقة على أن يظل أنيقاً ونظيفاً إلى حد التبلور داخل هذه الأناقة والنظافة". أما إبراهيم باشا (1789 ـ 1848)، قاهر جيش الدولة العثمانية، فذهب إلى القسطنطينية يطلب الولاية.
في 13 حزيران/يونيو 1848 نال إبراهيم فرمان ولاية مصر. وعاد وهو يشعر "بالخوف والكراهية تجاه والده فقد كان يعرف تماماً أن شفاء محمد علي فيه ضياعه الأكيد، فلا وزن عنده لأي ولاية أو فرمان". رجع مريضاً، يخشى أباه، فطمأنه نوبار "بأن الشفاء من أمراض المخ أمر مستحيل ولا سيما في سن والده". وهزم المرض إبراهيم، فمات في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1848. وكان أبوه "كلما أفاق للحظات من غفلته الذهنية المستمرة يطوف شوارع القاهرة في حراسة مماليكه وسط جموع الناس التي كانت تنظر إليه باحترام ويرون فيه أحد المجاذيب". ظل الأب يكره ابنه الميت؛ لأنه حبسه، وطاردته "فكرة أنه ما زال محبوساً".
بحساب السنين، تتاح للأسوياء فرص التمتع بحياة طبيعية، ويقظة عقلية في السن التي انهارت فيه القوى العقلية لمحمد علي؛ ربما لأن هذا البنّاء المستبد عاش عدة أعمار أتلفت أعصابه، وكان لا بدّ للهذيان أن ينهشه، بعد حياة على حافة المهالك، حافلة بمواجهات مع قوى دولية كبرى، وحروب الأعداء، وصراعات مع منافسين، وفطرته أسبق من وصايا ماكيافيللي، فكان محمد علي ذروة تمثيلات الحكمة والعبقرية الإدارية والدهاء والخيانة والجرأة على مضغ أحشاء أعدائه، وشرب دمائهم. أما الأسوياء، مطْمَـنئو النفوس، فيعيشون حياة أطول، يتخطون التسعين محتفظين بلياقتهم الذهنية: نجيب محفوظ، أدونيس، مراد وهبة، الباجي قائد السبسي، ثروت عكاشة، محمد حسنين هيكل، نوال السعداوي.
ممن قابلتهم، وقد حملوا وعياً مدهشاً فوق سن التسعين: الطاهر أحمد مكي، شريف حتاتة، شوقي جلال، محمد عبد الفتاح القصّاص الرئيس السابق للاتحاد الدولي لصون موارد الطبيعة. وفي العالم الآن أحياء مؤثرون تجاوزوا التسعين: الفيلسوف الألماني اللعين يورغن هابرماس، والفيلسوف الفرنسي إدغار موران.
وممن قابلتهم، وقد حملوا وعياً مدهشاً فوق سن التسعين: الطاهر أحمد مكي، شريف حتاتة، شوقي جلال، محمد عبد الفتاح القصّاص الرئيس السابق للاتحاد الدولي لصون موارد الطبيعة. وفي العالم الآن أحياء مؤثرون تجاوزوا التسعين: الفيلسوف الألماني اللعين يورغن هابرماس، والفيلسوف الفرنسي إدغار موران (103 أعوام)، وقد نشر العام الماضي كتابه الجديد "دروس قرنٍ من الحياة"، ومن وصاياه: "امنح الحياة لأيامك، بدلاً من منح أيامٍ لحياتك".
وفي عام 2012 شاهدتُ فيلم "جيبو والظل" للمخرج البرتغالي مانويل دي أوليفيرا (104 أعوام آنذاك)، وتوفي عام 2015. ولا يخفي الممثل المخرج الأمريكي كلينت إيستوود سنه، يعترف ببلوغه الثالثة والتسعين، وأنه سيبدأ فيلماً جديداً كعادته.
ولولا الحكيم شيشرون، وكتابه "في مديح الشيخوخة"، ما انتبهت إلى هؤلاء وغيرهم ممن يمنحون الشيخوخة معنى ينفي عنها صفتها التقليدية. وقصتي مع هذا الكتاب قصيرة. أرسل إليّ الناقد فتحي أبو رفيعة، من الولايات المتحدة، فصلاً من أحدث ترجمة للكتاب إلى الإنجليزية، بعنوان "HOW TO GROW OLD"، وتعني "كيف تغدو عجوزاً" أو "الطريق إلى الشيخوخة". طبعته جامعة برنستون الأمريكية، عام 2016، باللغتين اللاتينية والإنجليزية، ترجمة فيليب فريمان أستاذ اللغات القديمة. ورأى المترجم المصري أن يكون عنوان الطبعة العربية "في مديح الشيخوخة". ونشرتُ الفصل مع مقدمة قصيرة في مجلة الهلال، حزيران/يونيو 2017. وتقرر نشر الكتاب في سلسلة "كتاب الهلال"، في الشهر التالي.
جرى العرف أن يُعلن عن "كتاب الهلال" القادم في الصفحة الأخيرة من الكتاب الأحدث. وفي حزيران/يونيو 2017 نشر كتاب سلامة كيلة "المسألة الفلسطينية... من سراب حل الدولتين إلى الدولة العلمانية الواحدة"، وفي نهايته صفحة إعلانية عن "كتاب الهلال" القادم طفي مديح الشيخوخة"، في تموز/يوليو. وانتهى ندبي إلى رئاسة تحرير الهلال، ولم ينشر الكتاب الذي أصدرته في العام نفسه "منشورات بتانة" في القاهرة. وأعدت قراءة الكتاب الذي ألفه شيشرون (106 ـ 43 قبل الميلاد) قبل وفاته بعام، بعنوان "De Senectute"، بمعنى "عن الشيخوخة". وقد رأت الكنيسة الكاثوليكية المبكرة عدداً من أعماله تراثاً إنسانياً يستحق الحفاظ عليه، وأنعمت عليه بلقب "الوثني الصالح".
يذكر أبو رفيعة في المقدمة أن شيشرون "خلق اللغة اللاتينية خلقاً جديداً، فوسع نطاق مفرداتها، وصاغ منها أداة مرنة للتعبير عن الفلسفة، وجعلها صالحة لاستيعاب الآداب والعلوم في أوروبا الغربية سبعة عشر قرناً"، لكنه ثمرة عصره، شأن كل المفكرين، ولهذا تجاهل "الكثير من الموبقات التي ابتلي بها عصره؛ من قبيل الرق والاستعمار ومختلف أنواع الاستغلال". وكتب فيليب فريمان في مقدمة الكتاب أنه ألهم القراء عبر العصور، حتى إن رائد المقال الفرنسي مونتين قال "إنه أثار شهيته لبلوغ سن الشيخوخة". كما بهر الكتاب بنيامين فرانكلين، وأمر بنشر ترجمته عام 1744. وقال الرئيس الثاني للولايات المتحدة جون آدامز إنه استمتع بإعادة قراءته.
شيشرون، الذي تولى مناصب سياسية وقضائية، قال إنه استمتع بكتابة هذا العمل "إلى الحد الذي جعلني أستبعد كل الأفكار المتعلقة بمساوئ التقدم في العمر"، وجعل منها أسباباً للمباهج، وتساءل: هل تسلب الشيخوخة من العمر "أكثر مما يسلب الشباب من الطفولة؟"، فمن المهم التصالح مع مرحلة ينكرها الأحمق؛ فلا تسهّل عليه "أموال العالم" آلام الشيخوخة التي يحمّلها الحمقى أخطاءهم، وما يعانونه من قصور. أما الحكيم، ولو فقيراً، فلا تشكل الشيخوخة عبئاً عليه، لأنه يريد ختاما لحياته في طمأنينة "وعزة دون لومة لائم". هكذا ظل أفلاطون يكتب حتى مات في الحادية والثمانين. كما ألف المعلم إيسقراط كتابه "باناثينايكوس" في سن الرابعة والتسعين.
فكر شيشرون في الشيخوخة، وحدد أربعة أسباب تجعلها بالغة التعاسة. إنها، في رأي الكثيرين، تقلل النشاط. وتضعف الأجسام. وتحرمنا من الملذات الحسية. وتقرّبنا من الموت.
عن السبب الأول تساءل: أي نوع من الأنشطة؟ هناك أنشطة تناسب المسنِّين، ولو وهنت أجسادهم. سقراط تعلم العزف على القيثارة في شيخوخته. ودور قبطان السفينة، الذي لا يغادر مكانه، أعظم من متسلقي القلاع ومشغّلي المضخات. والأفعال العظيمة تتطلب الحكمة وقوة الشخصية. ووهن الذاكرة يحتاج إلى تدريب، والمسنون لا ينسون أين خبأوا نقودهم، ودائماً "يتذكرون ما يهمهم". أما عن السبب الثاني الخاص بوهن الجسد والعقل فيدعو شيشرون إلى "مراجعات العقل"، لتنشيط الذاكرة، والنشاط الفكري يجعل العقل أكثر حدة. وليست الشيخوخة مرضاً، والروح لا تشيخ. والطيش في الشباب وعدم التنظيم والإفراط يعطي الشيخوخة جسداً واهناً. ونعيُ الشباب مثل نعي الشاب مرحلة طفولته.
أما خفوت حدة الملذات الحسية فيراه شيشرون "جائزة مجيدة أن تحررنا الشيخوخة من أشد عيوب الشباب تدميراً... إذا لم يكفِ العقل والحكمة لجعْلِنا نتعفف عن شهواتنا؛ فلنكن إذن ممتنِّين للشيخوخة". وينفي أنه يعلن الحرب على الملذات، وإنما يقتصد، فالشيخوخة الهادئة لا تكترث بالمآدب المسرفة، والموائد المكدسة، وتعلي متعة العقل، ولا تقضي تماماً على الملذات، ولو انعدمت فتصير المعادلة: "إن لم تشتهِ شيئاً، لن تفتقده". وبالرجوع إلى أول العمر، فإذا لم يحسن الإنسان سنواته الأولى، فلن يستطيع جني ثمار الإعجاب في شيخوخته، والشيخوخة التي تحمي نفسها بالكلمات فقط "غير مرغوب فيها، ولا يمكن للتجاعيد والشعر الأشيب أن يبعثا فجأة على الاحترام".
شيشرون، الذي تولى مناصب سياسية وقضائية، قال إنه استمتع بكتابة هذا العمل "إلى الحد الذي جعلني أستبعد كل الأفكار المتعلقة بمساوئ التقدم في العمر"، وجعل منها أسباباً للمباهج، وتساءل: هل تسلب الشيخوخة من العمر "أكثر مما يسلب الشباب من الطفولة؟"
رابع أسباب التعاسة هو الخوف من الموت. لا مفر من التسليم بأنه ليس له موعد، وإذا كان "يهددنا كل لحظة كيف يمكن لأي شخص يخشاه أن ينعم بروح مستقرة؟... هل لأي مسنٍّ أن يخشى الموت الذي لا يعبأ به حتى الجنود الريفيون غير المتعلمين؟". الحكماء المتصالحون مع أنفسهم يموتون في هدوء، "والحمقى يواجهون الموت بالحزن الشديد؟". يرفض شيشرون بشدة بدء حياة أخرى، بداية من بكاء المهد. لقد انتهى من السباق؛ فلماذا يًستدعى لخوضه مرة أخرى من خط البداية؟ "وإذا لم نكن مخلَّدين، فمن الأفضل ـ على الأقل ـ أن نموت في الوقت المناسب... والشيخوخة هي الفصل الأخير في مسرحية الحياة".
لا يرى شيشرون في الشيخوخة سبباً للتجهم والكآبة وسوء المزاج، هذه "عيوب في الشخصية" لا في الشيخوخة التي لها مزايا يحسن الاستفادة منها. وفي دراما الحياة، يوجد ممثلون يحسنون القيام بأدوارهم حتى النهاية، وممثلون يفتقدون الكفاءة والقدرة على الصمود حتى الفصل الأخير. وخشية الموت تسبب التعاسة، ومن الحماقة وثوق الشباب تماماً ببقائهم على قيد الحياة في المساء. وإذا كان الشباب يتمنون طول العمر، فهذا ما يتمتع به المسنّون بالفعل، بل إن الموت "يباغت الشباب بقوة، لكنه يواجه المسنِّين في الوقت الصحيح". أخيراً أقول لشيشرون: سامحك الله. توقعتُ قراءة مرثية، فإذا كتابك يدعو القارئ إلى الاستمتاع بمباهج الحياة، كأنه يعيش أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...