في ظهيرة دافئة من شهر آذار/مارس 1921، امتطى ونستون تشرشل ظهر جمل في منطقة الأهرامات بالجيزة، محاطاً بزوجته كلمنتاين ومجموعة من مسؤولي الإمبراطورية. كان المشهد أشبه برحلة سياحية وسط عظمة الآثار القديمة، لكنّه لم يخلُ من لمسة ساخرة للتاريخ. بعد لحظات اختلّ توازن تشرشل وسقط أرضاً من على ظهر الجمل، فما كان من زوجته إلا أن علّقت بتهكّم: "كيف سقط الجبابرة!". تشرشل، الذي لملم كبرياءه ونهض مصرّاً على إتمام جولته راكباً نفس الجمل، لم يكن يدري أن تلك الدعابة ستكتسب معنى أعمق مع مرور الزمن. فبعد أقل من قرن، ستسقط إمبراطورية بريطانيا العظمى نفسها، لكن قرارات الأيام العشرة التي قضاها تشرشل في القاهرة ستظل ماثلة في خرائط وسياسات الشرق الأوسط، حسب ما يورده سي. براد فولت في كتابه "القاهرة 1921: قصة الأيام العشرة التي شكّلت الشرق الأوسط"، (ترجمة أحمد العبدة، دار مدارات، 2024).

على مدار عشرة أيام في القاهرة، اجتمع تشرشل مع لفيف من الخبراء والمسؤولين البريطانيين -أُطلق عليهم مازحاً اسم "الأربعين حرامي"- في مؤتمر سري يهدف إلى إعادة تشكيل مشهد الشرق الأوسط. كان المكان هو فندق "سميراميس" على ضفاف النيل، والزمان ما بعد الحرب العالمية الأولى حين وجدت بريطانيا نفسها مثقلة بتركَة إمبراطورية مترامية، ووعود متناقضة قطعَتها أثناء الحرب، وواقع ملتهب في مستعمراتها الجديدة. في ذلك الحين كانت لندن تُنفق قرابة 30 مليون جنيه إسترليني سنوياً على قواتها في بلاد الرافدين (العراق)، رغم ضائقة اقتصادية خانقة عقب الحرب.
واجهت الإدارة البريطانية هناك ثورة عارمة عام 1920 كادت تقوّض حكمها العسكري، وصحافة محلية ودولية تنتقد نزيف الخزينة على أرض بعيدة وملتهبة. أدرك تشرشل، الذي تسلّم حديثاً منصب وزير المستعمرات في مطلع 1921، أن الإمبراطورية تعاني مأزقاً حقيقياً: كيف تفي بوعودها المتضاربة لعرب المنطقة ويهودها وفرنسييها، وتحافظ في الوقت نفسه على نفوذها ومصالحها بتكلفة مقبولة؟

إمبراطورية في مأزق… وعود الحرب وترِكة الثورة
خلال الحرب العالمية الأولى، أغدقت بريطانيا الوعود على أطراف مختلفة في الشرق الأوسط. ففي مراسلات حسين–مكماهون عام 1915، وعدت البريطانيون الشريف حسين بن علي حاكم مكة بدعم استقلال دولة عربية كبرى مقابل إطلاقه الثورة ضد العثمانيين. ثم عادت في العام التالي لتبرم اتفاقية سايكس–بيكو السرّية مع فرنسا، لتقتسم معها تركة الدولة العثمانية في المشرق العربي. حصلت فرنسا على سوريا ولبنان، ونالت بريطانيا العراق والأردن وفلسطين، أو هكذا تقاسمتا النفوذ نظرياً. ولم تكتفِ بريطانيا بذلك، ففي تشرين الثاني/نوفمبر 1917 أعلنت وعد بلفور الذي تعهّدت فيه بدعم إنشاء "وطن قومي" لليهود في فلسطين. وهكذا وجدت لندن نفسها بعد الحرب أمام تناقض صارخ: كيف توفّق بين تأييدها لاستقلال العرب ووحدتهم من جهة، وتقاسمها الشرق الأوسط مع فرنسا من جهة ثانية، والتزامها بدعم المشروع الصهيوني في فلسطين من جهة ثالثة؟
انطلق مؤتمر القاهرة في 12 آذار/مارس 1921 وسط أجواء حافلة بالتحديات. كان المطلوب من تشرشل وفريقه تحقيق المعادلة المستحيلة: إرضاء تطلعات العرب في الاستقلال، والوفاء بالتزامات بريطانيا لحلفائها الفرنسيين، وعدم التراجع عن وعدها للصهاينة
بحلول عام 1920، بدأت آثار هذه التناقضات تطفو إلى السطح. فبعد هزيمة الدولة العثمانية، دخلت الجيوش البريطانية دمشق وبغداد منتصرة. لكن نشوة النصر سرعان ما تبخّرت في العراق حين اندلعت ثورة وطنية عارمة ضد الحكم البريطاني هناك في صيف 1920. تكبّدت بريطانيا خسائر فادحة في إخماد التمرد، ووصف تشرشل لاحقاً العراقَ بأنه "بركان جاحد" يبتلع الجنود والأموال دون توقف. تزامن ذلك مع ضغوط سياسية في لندن لخفض الإنفاق العسكري؛ فخزينة الإمبراطورية أُنهكت بأعباء ما بعد الحرب، والرأي العام ملّ مغامرات التوسع المكلفة.
من جهة أخرى، كانت فرنسا قد أزاحت فيصل بن الحسين (الذي نصّب نفسه ملكاً على سوريا بدعم من الوطنيين هناك) إثر معركة ميسلون عام 1920، مما ولّد فراغاً وطموحات جديدة لدى شقيقه الأمير عبد الله الذي حشد قوّاتٍ شمالاً باتجاه دمشق للأخذ بثأر أخيه. في فلسطين، أخذ التوتر بين العرب والمستوطنين الصهاينة يتفاقم مع زيادة الهجرة اليهودية، وبدأت بوادر اضطرابات طائفية تلوح في الأفق. أمام كل ذلك، رأى تشرشل أن لا بد من حل عبقري ينقذ هيبة بريطانيا ويفي، ولو شكلياً، بكل وعودها المتضاربة.
في أواخر عام 1920، أقنع تشرشل رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج بضرورة إعادة تنظيم إدارة الشرق الأوسط. أُنشئت "دائرة الشرق الأوسط" ضمن وزارة المستعمرات الجديدة بقيادة تشرشل، لتوحيد الصلاحيات التي كانت مشتتة بين وزارة الهند ومسؤولي الجيش والخارجية.
اقترح تشرشل عقد مؤتمر إقليمي غير مسبوق في القاهرة يجمع كبار العقول البريطانية ذات الخبرة الميدانية في الشرق الأوسط، بهدف صياغة سياسة موحّدة وفعّالة بأقل تكلفة. وهكذا استُدعي إلى القاهرة ما يقارب الأربعين مسؤولاً وخبيراً من الإداريين والعسكريين ممن خاضوا غمار المنطقة أثناء الحرب وبعدها. كان بينهم أسماء لامعة: المقدم تي. إي. لورنس، الشهير بـ"لورنس العرب"، الذي قاتل إلى جانب الثورة العربية الكبرى، والمس بيل جيرترود، المستشارة السياسية في الإدارة العراقية والتي عُرفت بدرايتها العميقة بقبائل بلاد الشام والعراق، والمندوب السامي البريطاني في فلسطين السير هربرت صموئيل، والحاكم المدني للعراق السير برسي كوكس، وغيرهم من المخططين والضباط. اكتملت مجموعة "حرامية تشرشل الأربعين" في فندق "سميراميس" مطلع آذار/مارس 1921، لتبدأ فصلًا دبلوماسياً فريداً قوامه عشرة أيام، هدفه رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط.
ولادة دول جديدة تحت الانتداب
انطلق مؤتمر القاهرة في 12 آذار/مارس 1921 وسط أجواء حافلة بالتحديات. كان المطلوب من تشرشل وفريقه تحقيق المعادلة المستحيلة: إرضاء تطلعات العرب في الاستقلال، والوفاء بالتزامات بريطانيا لحلفائها الفرنسيين، وعدم التراجع عن وعدها للصهاينة، وكل ذلك مع تقليص النفقات العسكرية وحماية المصالح الإمبراطورية في النفط والملاحة. في قاعة الاجتماعات جلس تشرشل إلى رأس الطاولة محاطاً بمستشاريه، بينما التف حولهم قادة الإدارة البريطانية في كلّ من العراق وفلسطين ومصر. سعى الجميع إلى صياغة "حل شريفي"، كما أسماه تشرشل (نسبة إلى الشريف حسين وأبنائه)، يقوم على تنصيب حكّام هاشميين على أراضٍ تنتدبها بريطانيا شكلاً وتحكمها فعلياً من خلف الستار.
بعد مداولات مكثفة، توافق المجتمعون على إنشاء مملكتين عربيتين جديدتين تحت الانتداب البريطاني: المملكة العراقية بقيادة فيصل بن الحسين، وإمارة شرق الأردن بقيادة شقيقه الأمير عبد الله. رأت بريطانيا في هذا الترتيب حلاً سحرياً يقتل عدة عصافير بحجر واحد. فمن جهة، هو تكريم للشريف حسين الذي قاد الثورة ضد الأتراك؛ إذ يصبح ولداه ملكَين على دولتين عربيتين ناشئتين، ما يعطي انطباعاً بأن وعود الاستقلال تحققت ولو جزئياً. ومن جهة ثانية، سيكون على عرش كلّ من العراق وشرق الأردن حليفٌ مدين لبريطانيا بعرشه، مما يضمن استمرار النفوذ البريطاني عبر مستشارين مقيمين وهيمنة غير مباشرة على السياسات الداخلية والخارجية.
وهكذا أقرّ المؤتمر (الحلّ الشريفي): فيصل ملكاً على العراق، وعبد الله أميراً على شرق الأردن. وقد تكفّل المندوب السامي البريطاني في بغداد، السِير برسي كوكس، بتهيئة الظروف لتنصيب فيصل دون معارضة تُذكر، بما في ذلك إقصاء المنافسين المحليين وترتيب استفتاء شعبي صوري جاءت نتيجته لصالح فيصل بنسبة 96%. وفي 23 آب/أغسطس 1921 تُوِّج فيصل ملكاً في بغداد وسط احتفاء بريطاني، بينما باشر الأمير عبد الله حكم إمارة شرق الأردن منذ نيسان/أبريل 1921 تحت إشراف المستشارين البريطانيين في القدس وعمّان.
شكّل مؤتمر القاهرة 1921 الشرقَ الأوسط الحديث بحدوده ومعضلاته، تاركاً للأجيال اللاحقة إرثاً مركباً من الدول الناجحة والفاشلة، ومن الاستقرار النسبي في جهة والصراعات المزمنة في أخرى.
على الضفة الأخرى، حرصت بريطانيا على ألا تُفسد ترتيباتها مع فرنسا. أقرّ المؤتمر ضمناً بما تم الاتفاق عليه سابقاً في سايكس–بيكو: تبقى سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي دون منازعة. ولضمان ذلك، أوفد تشرشلُ العقيدَ لورنس في مهمة لإقناع الأمير فيصل بالتخلي عن أي مطالبة بالعرش السوري مقابل دعمه ملكاً على العراق.
بالمقابل، وافقت باريس على دعم النفوذ البريطاني في العراق وشرق الأردن والتغاضي عن ترتيباته الجديدة. أما في شبه الجزيرة العربية، فقد اعترف البريطانيون بالأمر الواقع: يُترك الحجاز للشريف حسين ملكاً عليه، وتُترَك نجد لعبد العزيز بن سعود زعيم آل سعود الصاعد، على أن تستمر لندن في مدّ جسور التحالفات والترضيات المالية مع الطرفين لضمان توازن القوى بينهما.
كان هذا بمثابة توزيع هادئ للنفوذ؛ فبريطانيا التي دعمت الشريف حسين خلال الحرب، رأت أيضاً ضرورة احتواء منافسه ابن سعود. وبالفعل، موَّلت كلاً منهما لفترة لضمان استقرار نسبي في الجزيرة، وهو استقرار لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما تخلّت لاحقاً عن حسين عندما اجتاحه ابن سعود وأعلن سلطنة نجد وملحقاتها ثم مملكة السعودية في نهاية المطاف عام 1932.
بقيت فلسطين أعقد الملفات وأخطرها؛ فبموجب "الحل الشريفي"، قررت بريطانيا فصل المنطقة شرق نهر الأردن لتُعطى لعبد الله، في حين تُبقي لنفسها الشطر الغربي من فلسطين الساحلية والقدس وما حولها. وبذلك تُنشئ عملياً وطناً قوميّاً لليهود ضمن حدود فلسطين الغربية، وتفي في الوقت نفسه بوعدها للعرب بمنحهم حكماً في شرق الأردن، حيث نصّت على أن إدارة شرق الأردن ستكون عربية تحت إشراف المندوب السامي البريطاني. في ذهن تشرشل ومستشاريه، بدت هذه القسمة حلّاً مناسباً يحقّق ما اعتبروه عدالة: اليهود في الغرب والعرب في الشرق؛ فلا يخسر أحد تماماً.
تعهّد تشرشل لعبد الله، خلال لقاء بينهما في القدس نهاية آذار/مارس 1921، بأنه لن يُسمح للمستوطنين اليهود بالانتشار شرقاً نحو إمارة شرق الأردن، وبالمقابل عليه هو أن يقبل باستمرار مشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين الغربية ويكبح أي احتجاجات أو تحريض ضد السلطات البريطانية هناك.
وافق الأمير عبد الله بتحفّظ، ربما على أمل أن تكون تلك التسوية مؤقتة. أما تشرشل، فذهب في تفاؤله إلى حد التصريح علناً بأن العرب واليهود سيتمكنون من التعايش معاً بسلام في ظل ترتيبات الانتداب الجديد. لقد رأى في إنشاء إمارة شرق الأردن تعويضاً سياسياً للعرب يخفف اعتراضهم على مشروع الوطن اليهودي في فلسطين، وظنّ أن هذا كفيل باحتواء الغضب العربي المتنامي. وهكذا خرج المؤتمر بصيغة نهائية لفلسطين تقضي بأن تبقى تحت الانتداب البريطاني غرب نهر الأردن مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور، في حين يُفصل شرق الأردن ككيان شبه مستقل يحكمه أمير عربي موالٍ لبريطانيا.
شكلت هذه القرارات مجتمعةً ما اعتبرته لندن انتصاراً دبلوماسياً. فقد استطاع تشرشل أن يقدم لرئيس حكومته صيغة "سحرية" توحي بأن بريطانيا أوفت بوعدها للشريف حسين (من خلال تتويج ابنيه)، ولم تنكث اتفاقها مع فرنسا (إذ تركت لها سوريا ولبنان)، وطبّقت حرفياً انتداب عصبة الأمم في فلسطين بما يتماشى مع وعد بلفور (مع إبقاء الباب مفتوحاً لتأسيس إسرائيل مستقبلاً).
والأهم من ذلك كله، استطاع تشرشل إقناع مجلس الوزراء البريطاني بأن هذه الترتيبات ستوفر أموالاً طائلة وتقلل الحاجة لوجود عسكري كثيف. فبدلاً من أن تحكم بريطانيا هذه الأقاليم مباشرة وتتكبد تكاليف باهظة، ستديرها بشكل غير مباشر عبر ملوك وأمراء محليين تدعمهم مالياً وسياسياً. وكانت أحدث الأفكار المطروحة آنذاك هي استخدام سلاح الجو الملكي لفرض الأمن بدلاً من فرق المشاة، بحيث تقوم طائرات بريطانية متمركزة في قواعد محدودة بشنّ ضربات سريعة ضد أي تمرد، مما يقلص الحاجة لإبقاء جيوش جرارة على الأرض.
وبالفعل، خلال عامين من مؤتمر القاهرة، انخفض الإنفاق العسكري البريطاني في العراق من أكثر من 30 مليون جنيه إلى أقل من 5 ملايين فقط، بفضل إستراتيجية "الانتداب غير المباشر" هذه وتخفيض عدد الجنود لصالح الاعتماد على سلاح الجو. لقد كانت تلك الأيام العشرة في القاهرة تجسيداً لمقولة تشرشل الشهيرة: "اصنع السلام بتكلفة أقل من تكلفة خوض حرب"؛ سلام على الطريقة الإمبريالية بالطبع.

المسألة الكردية وقضية فلسطين… قرارات مؤجلة
برغم ثقل الملفات التي نجح مؤتمر القاهرة في حسمها على الورق، بقيت قضيتان دون حلّ جذري واتُّخذ بشأنهما نهج التأجيل والمساومة: مصير الأكراد ومستقبل فلسطين. في قاعة المؤتمر، طرح بعض المشاركين تساؤلاتٍ جديةً حول حقوق الأكراد الذين كانوا يطمحون لدولة مستقلة في المناطق الكردية من ولاية الموصل وشمال العراق. كان الوضع معقداً؛ فمعاهدة سيفر الموقعة عام 1920 لم تكن قد طُبّقت، وبرزت تطلعات كردية مدعومة ضمنياً من تركيا الكمالية التي أرادت عرقلة سيطرة بريطانيا على ولاية الموصل الغنية بالنفط. أبدى تشرشل تعاطفاً مفاجئاً مع فكرة قيام كيان كردي يتمتع بالحكم الذاتي تحت الانتداب البريطاني، وربما دولة مستقلة مستقبلاً تشكّل منطقة عازلة "صديقة" بين العراق وتركيا. ورأى أن تجاهل تطلعات الأكراد قد يدفعهم للتمرد ضد حكم بغداد العربي أو التحالف مع خصوم بريطانيا الإقليميين. حتى أنه حذّر زملاءه بالقول إن عدم حماية الأكراد قد يجعلهم فريسة "لطاغية مستقبلي في العراق".
لكن هذا الرأي قوبل باعتراض شديد من كلٍ من المندوب كوكس والمس بيل، اللذين كانت رؤيتهما أن كردستان جزء لا يتجزأ من العراق جغرافياً واقتصادياً. حاجج كوكس بأن موارد نفط كركوك والسليمانية ضرورية لاستدامة المملكة العراقية، وأن سلخ كردستان سيضعف الدولة الجديدة ويثير متاعب حدودية مع تركيا. أما غيرترود بيل، فاقترحت حلاً وسطاً تمثل في إرجاء البتّ في مصير المناطق الكردية ستة أشهر أخرى، ريثما "ينهك الأكراد من فكرة الاستقلال ويميلوا للاندماج في المملكة العراقية"، بحسب زعمها.
في النهاية، نجح التيار المعارض لتقسيم العراق في كسب الموقف. خرج المؤتمر بتوصية تقضي بوضع المناطق الكردية مؤقتاً تحت إشراف المندوب السامي البريطاني في بغداد، مع تشكيل قوة حدودية من أبناء العشائر الكردية تتولى بريطانيا تدريبها، على أن تبقى كردستان مرتبطة بالعراق اسمياً ريثما تتضح نوايا الأكراد خلال أشهر.
عملياً، كان ذلك بمثابة تأجيل للوعد الكردي إلى أجل غير مسمّى. وبالفعل، ما إن استتب الحكم لفيصل في بغداد حتى أُلحق إقليم الموصل رسمياً بالمملكة العراقية عام 1925 بتوافق دولي، مقابل تعهدات بحماية حقوق الأقليات. وهكذا ضاعت فرصة قيام دولة كردية مستقلة، ليجد الأكراد أنفسهم بعد ذلك في مواجهة واقع جديد داخل عراق تهيمن عليه حكومة عربية مركزية. لم يكن مستغرباً إذاً أن تندلع خلال العقود اللاحقة عدة ثورات وحركات تمرد كردية مطالبة بالاستقلال أو الحكم الذاتي، تماماً كما استشرف تشرشل بخوف في حينه.
أما فلسطين، فكانت قنبلة موقوتة تركتها بريطانيا تؤجل انفجارها دون معالجة جذورها. صحيح أن مؤتمر القاهرة رسم حدوداً جديدة لفلسطين وشرق الأردن كما أسلفنا، لكنه لم يقدم حلاً لتصاعد التوتر بين المجتمعَين العربي واليهودي في فلسطين نفسها.
خلال زيارة تشرشل القصيرة إلى القدس بعد المؤتمر لشرح ترتيباته الجديدة، لمس عن قرب عمق الهوة المتشكلة. فرغم الاستقبال الرسمي الحافل له، اندلعت احتجاجات في حيفا ضد سياسته الداعمة للهجرة اليهودية، واحتشدت جموع من العرب ترفع شعارات غاضبة مثل "الموت لليهود" أثناء مروره في غزة، دون أن يدرك هو مغزى هتافاتهم بالعربية. وفي القدس، اصطدمت مظاهرات فلسطينية مناهضة للصهيونية بالشرطة، فسقط قتلى وجرحى.
حاول عبد الله خلال لقائه تشرشل في 28 آذار/مارس تهدئة خواطر أبناء عمومته الفلسطينيين، فقال في تصريحات علنية إن بريطانيا "لن تخلف وعودها للعرب واليهود معاً". لكن تلك الكلمات لم تكن كافية لتبديد شعور العرب الفلسطينيين بأن وطنهم يُسلم بالتدريج لمشروع استيطاني أجنبي برعاية استعمارية.
اعتقد تشرشل أنه بضمانه فَصل شرق الأردن وتطمين العرب هناك، فإن نار الغضب ستهدأ في غرب الأردن، غير مدرك أن القضية بالنسبة للفلسطينيين وجودية ولا تقبل أنصاف الحلول. ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى اندلعت في يافا والثورة وحوادث عنف دامية عام 1921 بين العرب واليهود، كانت نذيراً لعقود تالية من الصراع المستمر. هكذا أثبتت الأحداث سريعاً خطأ فرضية تشرشل المتفائلة بأن "العرب واليهود سيتمكنون من التعايش بسلام" داخل كيان واحد.
بينما نرى اليوم دول المنطقة تعيد تقييم هوياتها الوطنية وتواجه مطالب الأقليات وإرث الاستعمار، يبرز سؤال يتردد صداه منذ مئة عام: كيف كان سيكون شكل الشرق الأوسط لو منح صانعو 1921 أولوية أكبر لرغبات الشعوب على حساب ترتيبات الإمبراطورية؟
ففي حين نجحت ترتيبات مؤتمر القاهرة في استيعاب جزء من المطامح العربية عبر إنشاء شرق الأردن، فإنها في المقابل كرّست في فلسطين واقعاً أشعل صراعاً لم ينتهِ حتى اليوم. لقد كان القرار البريطاني بدعم مشروع دولة يهودية في جزء من فلسطين بمثابة زرع لعلاقة ملتهبة في قلب الشرق الأوسط، ظهر حصادها المرّ بعد عقود عندما ولدت دولة إسرائيل عام 1948 من رحم ذاك الانتداب.
ولم تكد تمضي سنوات على إنشائها حتى انخرطت في سلسلة حروب مع جيرانها العرب، لتصير فلسطين/إسرائيل ساحة صراع مزمن، تماماً بعكس ما توهّمه مهندسو مؤتمر القاهرة من إمكانية تعايش وئام تاريخي في الأراضي المقدسة.
إرث الأيام العشرة
في نهاية آذار/مارس 1921، التقط تشرشل صورة تذكارية مع معاونيه في القاهرة وإلى جانبهم الأمير عبد الله، وفي مقدمة الصف وقفت شبلا أسد صغيران أُهديا للمسؤولين البريطانيين في طريقهما إلى حديقة حيوان لندن. ربما بدت الصورة آنذاك كأنها احتفاء بانتصار دبلوماسي إمبراطوري: رجلٌ أوروبي على ظهر جمل يرسم ممالك وحدوداً جديدة كما يشاء، وأميرٌ عربي يافع يقف مطمئناً وقد نال للتو مُلكاً تحت الرعاية، وضباط ومسؤولون يبتسمون للكاميرا بينما "غنائم" الشرق، حتى حيواناته البرية، تحت أقدامهم.
بعد قرن من تلك اللحظة، لا يزال إرث "الأيام العشرة" حاضراً بقوة في جغرافيا الشرق الأوسط وسياساته. لقد نجح مؤتمر القاهرة 1921 في خلق كيانات ودول ما زالت باقية حتى اليوم: المملكة الأردنية الهاشمية انبثقت مباشرة منه واستمرت كواحدة من أكثر دول المنطقة استقراراً تحت حكم سلالة عبد الله بن الحسين. والعراق الحديث تأسس بحدوده الحالية نتيجة لتلك القرارات، وحكمه الهاشمي الأصل استمر إلى 1958 قبل أن تطيح به ثورة عسكرية فتحت الباب أمام عقود من الاضطرابات والانقلابات. أما دولة إسرائيل فنشأت في نهاية المطاف على الجزء الذي أبقاه البريطانيون تحت انتدابهم في فلسطين، لترسم مساراً جديداً تماماً للمنطقة. في المقابل، كان الأكراد أكبر الخاسرين؛ فحقوقهم تأجلت ثم أهدرت، ليظلوا حتى اليوم موزعين بين دول أربع يكافحون لنيل دولة حُرموا منها عام 1921.
لقد كانت نظرة تشرشل ومهندسي تلك التسوية خليطًا من البراغماتية الاستعمارية وقصر النظر التاريخي. صحيح أنهم تمكنوا من احتواء أزمة آنية بتقليل تكاليف الاحتلال المباشر وتجنب مواجهة مفتوحة مع حلفائهم ومعظم سكان المنطقة. لكنهم في الوقت نفسه رسموا حدودًا اعتباطية أحياناً، وجمعوا جماعات متنافرة أحياناً أخرى في دول جديدة تحت حكم نخب موالية لهم. اعتمد البريطانيون على ملوك مستوردين وإداريين أجانب لفرض نظام سياسي من أعلى، ولم يعيروا اهتماماً كبيراً لصوت الشعوب المحلية وتطلعاتها الحقيقية. فالشعور السائد لدى كثير من العراقيين مثلاً كان أن فيصل، رغم نسبه الهاشمي العربي، غريبٌ أجنبي مفروض عليهم بإرادة المستعمر، وقد وُصف حكمه بأنه "واجهة" لاستمرار الهيمنة البريطانية من خلف الستار.
هذا الشعور سرعان ما أجّج أول انقلاب عسكري في العالم العربي عام 1936 في بغداد، ثم سلسلة من الاضطرابات أوصلت في النهاية إلى إسقاط الملكية الهاشمية عام 1958. في فلسطين أيضاً، اعتبر العرب أن الانتداب البريطاني خان وعوده لهم وحابى مشروعاً استعمارياً أوروبياً على حسابهم، فقاوموه بثورات متعاقبة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وصولاً إلى حرب 1948 وما بعدها.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن نظام الدولة الذي نراه اليوم في بلدان المشرق تأسس إلى حد بعيد في تلك الأيام العشرة. العديد من الحدود الدولية الحالية، من الحدود العراقية–الأردنية إلى الحدود السورية–العراقية، رُسمت أو تأكدت في ذلك المؤتمر. كما أن فكرة الحكم غير المباشر عبر حلفاء محليين -والتي قد تبدو اليوم بديهية- كانت آنذاك نهجاً جديداً ابتكره البريطانيون للخروج من ورطتهم، وأثبت فعاليته القصيرة المدى في ترسيخ نفوذهم لعقود تالية بأقل تكلفة. غير أن تكلفة تجنّب المشاكل عام 1921 كانت ترحيلها إلى الأجيال اللاحقة. فعندما سقط الجمل عن ظهره في صحراء الجيزة وضحكت كلمنتاين "كيف سقط الجبابرة"، ربما لم يخطر ببالها أن جبروت الإمبراطورية الذي مثّله زوجها في تلك الرحلة سيهوي بدوره بعد عقود قليلة. لكن ما لم يهوي فعلاً هو تداعيات قرارات ذلك الرجل ورفاقه في تلك الأيام العشرة.
لقد شكّل مؤتمر القاهرة 1921 الشرق الأوسط الحديث بحدوده ومعضلاته، تاركاً للأجيال اللاحقة إرثاً مركباً من الدول الناجحة والفاشلة، ومن الاستقرار النسبي في جهة والصراعات المزمنة في جهة أخرى. وبينما نرى اليوم دول المنطقة تعيد تقييم هوياتها الوطنية وتواجه مطالب الأقليات وإرث الاستعمار، يبرز سؤال يتردد صداه منذ مئة عام: كيف كان سيكون شكل الشرق الأوسط لو منح صانعو 1921 أولوية أكبر لرغبات الشعوب على حساب ترتيبات الإمبراطورية؟ وهل كان بالإمكان تفادي بعض النزاعات لو سمح ذلك المؤتمر بولادة كردستان مستقلة أو بوضع أسس أكثر عدلاً لتقاسم فلسطين؟ تلك أسئلة تبقى بلا إجابة قاطعة. ما هو مؤكد أن "الأيام العشرة التي شكّلت الشرق الأوسط" نسجت خيوط واقع ما زلنا نعيش في ظله حتى يومنا هذا، واقع حافل بالتعقيدات التي ابتدعتها يد ذلك المستعمر الذي رحل بجسده وبقيت ظلاله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Alamir -
منذ 23 ساعة❤️?
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bahta Bahta -
منذ 6 أياملم يفهم مذا تقصد
Tayma shreet -
منذ 6 أيامWow !