حملة إغلاق

حملة إغلاق "بـ لبن" وما تكشفه عن هشاشة القطاع الخاص في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 30 مايو 202510:34 ص
Read in English:

How the B.Laban crackdown exposed the fragility of private businesses in Egypt

في مشهد لا يختلف كثيراً عن مشاهد التخفيضات الجنونية في "الجمعة السوداء"، شهدت مدينة الدار البيضاء في المغرب، في كانون الثاني/ يناير 2025، طوابير طويلةً تلتف حول فرع جديد لمحل الحلويات المصري "بـ لبن". بلغ الهوس حدّاً جعل بعض الزبائن يقومون بإعادة بيع الأرز بالحليب والزبادي، وهما لا يزالان دافئين، لأشخاص آخرين في الطابور بسعر مضاعف. وبينما كانت شعبية سلسلة الحلويات تزداد خارج مصر، كانت تتفكك في الداخل وتحت أنظار المنطقة، بسبب انتهاكات صحية مزعومة، وحملات رقابية صارمة، وتدقيق سياسي متزايد.

ما بدأ كمشروع محليّ ناشئ، تحوّل بسرعة إلى واحدة من أسرع سلاسل الطعام نمواً في مصر. تأسّست شركة "بـ لبن" على فكرة تقديم الحلويات المصرية التقليدية المصنوعة من منتجات الألبان، والتي تحمل طابعاً نوستالجياً، وسرعان ما توسّعت لتدير 110 فروع في تسع دول عربية، وتوظف أكثر من 25 ألف موظف. 

كانت وصفة النجاح بسيطةً: نكهات غنيّة، وأسعار منخفضة، وحضور ذكي على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن هذا "الإمبراطور الحلوياتي"، بدأ ينهار قبل بضعة أسابيع، بعدما أعلنت الهيئة القومية لسلامة الغذاء في مصر (NFSA)، في نيسان/ أبريل 2025، عن وجود تلوث بكتيري في منتجاته، واستخدامه ملوّنات صناعية محظورة، وسوء في ظروف التخزين. ونتيجةً لذلك، تم إغلاق جميع فروع "بـ لبن" في مصر. أما في السعودية، فأدّت تقارير مشابهة إلى إغلاقات موازية خلال شهر رمضان.

في مكالمة هاتفية مع الإعلامي عمرو أديب، ألمح المدير التنفيذي للشركة، مؤمن عادل، إلى أنّ الحملة كانت مُنسّقةً، وتساءل: "كيف يُمكن لمخالفة واحدة، إن وُجدت، أن تُبرّر إغلاق سلسلة وطنية كاملة؟".

وسط ردود فعل غاضبة وتصاعد الأزمة، ناشدت الشركة الرئيس عبد الفتاح السيسي، محذرةً من أنّ الإغلاق يهدّد أرزاق آلاف العاملين، ويُعطّل عمليات التصدير. وبعد أيام، تدخّل الرئيس ودعا إلى حوار بين الجهات الرقابية وممثّلي الشركة.

وفي نهاية الشهر نفسه، شكرت الشركة الرئيس المصري على "رعايته الأبوية"، وفي غضون أسبوع، أعيد فتح 25 فرعاً بعد "معالجة المخالفات وتنفيذ إجراءات تصحيحية".

ما بدأ كمشروع محلّي ناشئ، تحوّل إلى قصة نجاح إقليمية، لكنه أيضاً كشف عن هشاشة بيئة الأعمال الخاصة في مصر، التي يمكن أن تنهار بين ليلة وضحاها بفعل حملة رقابية أو خلاف سياسي

وبدوره، أكد وزير الصناعة والنقل، كامل الوزير، أنّ مصانع "بـ لبن" قد استأنفت عملها، بينما تعمل في الوقت نفسه على تصحيح أوضاعها.

ويرى مراقبون أنّ الحادثة كشفت عن الطبيعة غير الرسمية والغامضة لآلية تنظيم الأعمال في مصر.

يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في القاهرة، عمرو عدلي، لرصيف22: "منذ متى يُطبَّق القانون بهذه السرعة وهذه الدقّة؟ هذه لم تكن مجرد قضية تتعلق بالصحة العامة، بل تشير الحادثة بأكملها إلى كيفية تأثير الديناميكيات غير الرسمية على استخدام السلطة الرسمية".

إعادة الافتتاح ورسالة أعمق

كان الجدل جزءاً من هوية "بـ لبن" التجارية، فقد أطلقت السلسلة أسماء غير تقليدية على منتجاتها، ونشرت إعلانات استفزازية، وسخرت من منافسيها. وقد ردّ مالكو محل "المالكي"، أحد أقدم محال الحلويات في مصر، بحملة إعلانية انتشرت على نطاق واسع، ألمحت إلى أنّ نمو "بـ لبن" السريع مدفوع بأموال مشبوهة.

وفي نيسان/ أبريل أيضاً، قدّمت شركة "العبد"، وهي منافس آخر عريق في مجال صناعة الحلوى في مصر، شكوى إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بسبب إعلان لـ"بـ لبن" في عيد الفطر وصفته بأنّه تشهيري. وعلى الرغم من أنّ "بـ لبن" اعتذرت، إلا أنّ الانتقادات العامة تصاعدت، وبدأ وسم #بلبن بالانتشار على مواقع التواصل، حيث شكّك المستخدمون في شفافية الشركة المالية وسلامة منتجاتها.

وأعلن النائب أحمد السجيني، أنّ "بـ لبن" تخضع لتحقيق في قضايا التهرّب الضريبي، وأشارت النتائج الأولية إلى وجود مخالفات تقدَّر بـ135 مليون جنيه مصري (2.7 ملايين دولار أمريكي). وقد ردّت الشركة بالقول إنها دفعت 140 مليون جنيه (2.8 ملايين دولار)، كضرائب، وأنها تعمل مع الجهات المختصة لتسوية الفروق والتناقضات.

وفي الوقت ذاته، كشفت تقارير استقصائية عن صلات تربط الرئيس التنفيذي للشركة، بشركات وهمية في كل من المملكة المتحدة، والإمارات، وسلطنة عمان. وأظهرت وثائق حصل عليها الصحافي عبد الله أبو ضيف، أنّ مؤمن عادل يحمل جنسية سانت كيتس ونيفيس، وهي معروفة كملاذ ضريبي خارجي، وأنه سجّل شركةً في بريطانيا قبل 45 يوماً فقط من اندلاع الفضيحة.

وقدّم المحامي المصري المثير للجدل سمير صبري، بلاغاً رسمياً إلى وحدة مكافحة غسيل الأموال في مصر، أشار فيه إلى التوسّع المفاجئ للعلامة التجارية، وحملات المؤثرين، وعلاقاتها المزعومة مع جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في البلاد.

ويقول صبري، لرصيف22: "هذا غسيل أموال بالمعنى الحرفي. لا يمكن أن تنتقل من لا شيء إلى هذا الحجم من النشاط دون تمويل ضخم، ما زلنا لا نعرف مصدره". يتفق معه الأستاذ المساعد في الاقتصاد وخبير التسويق في الجامعة الأمريكية في القاهرة، حكيم مشرقي، إذ يقول لرصيف22: "لم تقتصر هذه العلامة التجارية على بيع الحلويات فحسب، بل روّجت أيضاً للحداثة والاستفزاز والنجاح الوهمي. لكن لا توجد سلسلة مطاعم تنمو بهذه السرعة من خلال المبيعات وحدها. لا بدّ من وجود استثمارات خارجية، على الأرجح من ملاذات ضريبية".

أما عمرو عدلي، فيُفسر تصوّر الجمهور لـ"بـ لبن" كحالة غسيل أموال من خلال ما يصفه بـ"صراع مصر المُستمرّ لمأسسة الملكية الخاصة".

يرى عدلي، أنّ قضية "بـ لبن" تعكس "انهياراً في سيادة القانون"، محذّراً من أنّ الرسالة الموجّهة إلى روّاد الأعمال واضحة: "إذا لم تكن محمياً سياسياً، يمكن أن تختفي شركتك بين ليلة وضحاها"، مشدداً على أنّ "سلطات الرئيس في مصر من المفترض أن تخدم سيادة القانون، لا أن تحلّ محلها"

ويوضح: "في المجتمعات التي انتقلت إلى اقتصاد السوق في وقت متأخر، غالباً ما تفتقر الثروات الشخصية الضخمة إلى الشرعية القانونية أو الاجتماعية"، مضيفاً أنّ "المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، تصوّر الاقتصاد المصري على أنه اقتصاد مُفرط في التنظيم، حيث يتطلّب تأسيس الأعمال تفاعلاً مستمراً مع بيروقراطية ضخمة وغير فعّالة وغالباً فاسدة، ما يرفع تكلفة الاستثمار في جميع المجالات".

وللتعامل مع هذه البيئة، تعتمد العديد من الشركات في مصر على ممارسات غير رسمية لتجاوز نظام تنظيمي صارم وغير متوقع، بحسب عمرو عدلي الذي يردف: "هذه القواعد غير الرسمية تساعد بعض المستثمرين على خفض التكاليف، خاصةً عندما تكون القوانين الرسمية مبهمةً أو تُطبَّق بشكل غير متّسق من قبل جهات حكومية مختلّة". لكنه حذّر من أن "هذه الميزة ليست متاحةً للجميع بالتساوي، ما يزيد من المخاطر على المستثمرين في القطاع الخاص".

يؤكد مشرقي، هذه الفكرة، موضحاً أنّ ثقافة التنظيم المتساهلة في مصر تُمكِّن الشركات من تحقيق نمو سريع، لكن ليس من دون مخاطر. ويشرح أنه "بمجرد أن تجذب الشركة الكثير من الانتباه، قد يكون النظام ذاته الذي سهّل صعودها هو نفسه الذي يتسبب في سقوطها".

الفراغ القانوني وخطر "الحلول الرئاسية"

من جهته، ينبّه المحامي الحقوقي مالك عدلي، مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في حديثه إلى رصيف22: "حين يتساءل الناس عمّا إذا كانت مخالفات سلامة الغذاء حقيقيةً أم مجرد ذريعة، فإنّ هذا يعكس مشكلةً مؤسسيةً خطيرةً في البلاد".

ويضيف مالك، أنّ هذه القضية بمجملها تعكس "انهياراً في سيادة القانون"، منتقداً تدخّل الرئيس الشخصي، ومشيراً إلى أنّ الإغلاقات الإدارية يجب أن تؤدي إلى إجراءات قانونية، لا إلى مفاوضات خاصة مع الوزراء.

ويتابع: "لو كانت المخاوف تتعلّق بالعمال، لكان بإمكان الدولة أن تصادر الأصول وتدفع الأجور مؤقتاً. هذا لا يبرر تجاوز القانون… لا ينبغي أن يعتمد نجاح الأعمال على مقابلة وزير".

كما يحذّر المحامي، من أنّ الرسالة الموجّهة إلى روّاد الأعمال واضحة: "إذا لم تكن محمياً سياسياً، يمكن أن تختفي شركتك بين ليلة وضحاها"، و"الرئيس في مصر يتمتّع بصلاحيات واسعة، لكن من المفترض أن تخدم هذه الصلاحيات سيادة القانون، لا أن تحلّ محلها".

"جهينة" أخرى؟

اللافت أنّ قضية "بـ لبن"، أثارت مقارنات حتميةً مع الحملة على شركة "جهينة"، عملاق الأغذية والمشروبات المصري، التي بدأت عام 2020، حيث سُجن مؤسسها صفوان ثابت وابنه دون توجيه تهم رسمية إليهما، وسط تكهنات واسعة بأنّ صلات مفترضةً لمالكيها بجماعة الإخوان المسلمين وراء ذلك. لكن عدلي يرى أنّ هناك فرقاً جوهرياً بين الحالتين.

يشرح لرصيف22: "ما حدث مع جهينة كان جزءاً من حملة قمع سياسية واضحة، استهدفت شخصيات بارزةً ذات انتماءات سياسية مفترضة في أعقاب انتقال السلطة عام 2013. ولم يكن ذلك حدثاً معزولاً حيث واجهت شركات أخرى أصغر مرتبطة بجماعة الإخوان معاملةً مماثلةً".

أما في حالة "بـ لبن"، فيرى عدلي أنّ الصورة أكثر غموضاً بكثير، مردفاً: "لا يوجد دافع سياسي واضح، ولا انتماء مُعلن، ولا مسار قانوني شفّاف. ومع ذلك، فإنّ سرعة استجابة الدولة وحجمها كانا استثنائيين، خاصةً في غياب حملة قمع أوسع نطاقاً".

اللافت أنّ قضية "بـ لبن"، أثارت مقارنات حتميةً مع الحملة على شركة "جهينة".

ويحذّر عدلي، من أنّ الإغلاق المفاجئ لـ"بـ لبن"، يعكس مدى هشاشة البيئة الاستثمارية في مصر وعدم القدرة على التنبؤ بها بشكل أعمق، متابعاً: "الاستثمار يعتمد على قواعد واضحة وعلى تطبيقها بشكل متّسق. وعندما يبدو أنّ تطبيق القانون انتقائي أو خاضع للتأثير السياسي، فإن ذلك يزرع الشك ويخلق مناخاً من عدم اليقين".

ويتابع: "إذا أصبحت مثل هذه الحوادث متكررةً، فيمكن وصف المناخ الاستثماري بأنه معادٍ صراحةً للقطاع الخاص. لكن ما يجعل حالة 'بـ لبن' مقلقةً هو أنها استثناء، وهذا بالتحديد ما يجعلها أكثر إثارةً للقلق".

*نُشر هذا التقرير بالتعاون مع "إيجاب" Egab.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image