حرّاس الذاكرة… غزّيون ينقذون ما تبقّى من أرشيف المدينة

حرّاس الذاكرة… غزّيون ينقذون ما تبقّى من أرشيف المدينة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تنشغل المهندسة حنين العمصي، برفقة مجموعة من زملائها، في العمل على إنقاذ ما تبقّى من مخطوطات ومقتنيات تاريخية تابعة لمكتبة الجامع "العمري" الكبير وسط مدينة غزّة، والتي دمّرها الجيش الإسرائيلي ضمن عملياته العسكرية خلال حرب الإبادة التي تستهدف القطاع منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

بدأت حنين وفريقها الذي يشرف على عمليات الترميم، العمل على هذه المبادرة بهدف إنقاذ ما احتوته المكتبة من كنز حضاري ضمّته مخطوطات عمرها ما بين 500 و700 عام، منها، على سبيل المثال لا الحصر، "شرح الغوامض في علم الفرائض"، لبدر الدين المرديني (وعمرها 500 عام)، فضلاً عن مقتنيات تدلّل على تاريخ المدينة وأصول عائلاتها وعشائرها العربية والإسلامية. 

ولا عجب في أن تشهد هذه المكتبة مبادرةً من هذا النوع، فهي تُعدّ ثالث أكبر مكتبة في فلسطين، وتبلغ مساحتها 4،100 متر مربّع، وقد تأسست قبل نحو 700 عام. في حين احتوت على أكثر من 20 ألف كتاب، بجانب المخطوطات والوثائق التاريخية، التي وصل عددها إلى 228 مخطوطةً ووثيقةً قبل حرب الإبادة على القطاع. 


الجامع العمري في غزّة بعد الاستهداف
الجامع العمري في غزّة بعد الاستهداف


وتجيء مبادرة إنقاذ المخطوطات التي علقت تحت ركام المكتبة، وسط محو وإبادة لا يرحمان للمواقع التاريخية والأثرية. فقد دمّرت آلة الحرب الإسرائيلية أكثر من 206 مواقع تاريخية في القطاع. كما قصفت وأحرقت عشرات المكتبات، كمكتبات بلدية غزّة، ومكتبة بلدية خان يونس، ومكتبة بلدية رفح، ومكتبات الجامعات التي تضم مئات آلاف الكتب والمراجع والرسائل العلمية. 

كما دمّرت إسرائيل مبنى الأرشيف التابع لبلدية غزّة، والذي يضمّ عشرات آلاف الوثائق والكتب والمخطوطات والمقتنيات التي تحكي تاريخ المدينة وتؤرشف أيامها وأحداثها خلال العقود الماضية.

لقد كانت مكتبة الجامع "العمري" الكبير مزاراً مهماً لجميع الباحثين والمهتمين بالتاريخ لإنجاز أبحاثهم ودراستهم وإثرائها. فماذا خسرت غزّة بخسارة هذه المكتبة؟

أمام هذا المحو، استطاعت المهندسة حنين وفريقها، إنقاذ نصف المخطوطات التاريخية التي احتوت عليها مكتبة الجامع "العمري". فهل ستشكّل هذه المبادرة محطّ إلهام لمبادرات أخرى في القطاع؟ وهل بإمكانها أن تقاوم آلة المحو الإبادية الإسرائيلية التي لا تتوقف؟ 

"أبادت إسرائيل كل شيء في غزّة؛ الحجر والشجر والإنسان والتاريخ، لتحاول محو الهوية الوطنية للأرض وطرد أهلها منها"، تقول حنين، لرصيف22، مضيفةً أنّ "مثل هذه المشاريع تحارب، بالدرجة الأولى، إسرائيل وممارساتها التدميرية، وتعيد الأمل في إعادة بناء غزة".

مكتبة الجامع العمري قبل حرب الإبادة
مكتبة الجامع العمري قبل حرب الإبادة

استعادة بأدوات بدائية 

"لقد أنقذنا مخطوطات من تحت الركام والحجارة. كانت بحالة صعبة جداً، بعد أن تعرضت للأضرار والقصف المباشر. ظلّت تحت الأنقاض لأكثر من 500 يوم، فتسربت إليها المياه وعوامل التلف الأخرى من عفن ورطوبة وغيرهما"، تقول حنين. 

وتؤكد على أنّ الفريق، تمكّن، إلى جانب إنقاذ المخطوطات، من إنقاذ نحو 36 ورقةً ووثيقةً تاريخيةً من أصل 78".

"أما المخطوطات التي قمنا بإنقاذها، فتتعلق بشكل أساسي بتاريخ غزّة والإسلام، وتعاقب الحضارات والخلافات عليها، كما تتناول مخطوطات أخرى شؤوناً عربيةً وعالميةً تاريخيةً".

المهندسة حنين العمصي، تعمل في ترميم المخطوطات في مكتبة الجامع العمري
المهندسة حنين العمصي، تعمل في ترميم المخطوطات في مكتبة الجامع العمري


ويستخدم الفريق القائم على المبادرة، معدّات بسيطةً وبدائيةً في أعمال ترميم المخطوطات، حتى لا تتعرض للتلف خلال عمليات الإصلاح. وكذلك، بسبب عدم وجود أدوات خاصة ومهنية لصيانة المخطوطات، جرّاء الحصار المفروض على القطاع. 

"لقد كانت مكتبة الجامع "العمري" الكبير مزاراً مهماً لجميع الباحثين والمهتمين بالتاريخ لإنجاز أبحاثهم ودراستهم وإثرائها. وعليه، نحن نعمل على استعادتها من جديد لكي تعود كما كانت؛ منارة علمية وتاريخية"، تؤكد حنين.

ويقع الجامع في حيّ الدرج، الذي تعرّض لتدمير كامل. وقد شُيّد في الفترة الأيوبية. إلا أنّ أقدم جزء فيه شُيِّد على الطراز البازلكي لكاتدرائية القديس يوحنا المعمدان، في القرن الثاني عشر الميلادي. ويُعتقد أنّ الجامع أقيم على البقعة التي كان فيها معبد الإله "مارنا" في العهد الروماني وكنيسة أودوكسيا البيزنطية، ويتميز بنقوشه الكتابية التي تعود إلى العصرين المملوكي والعثماني.

مخطوطات أنقذت من تحت الحطام
مخطوطات أنقذت من تحت الحطام

لملمة ما تبعثره حرب الإبادة

وفي مبادرة فردية أخرى، يحاول الفلسطيني إيهاب الجرو، من مدينة غزة، الحفاظ على ما تبقّى من القطع الأثرية والكتب التاريخية المهمة التي فُقدت بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة.

بدأت قصته عندما كان يتجول في أحد أسواق مدينة غزّة خلال الحرب، وإذ به يجد بائعاً يعرض بعض المقتنيات الأثرية والكتب على بسطة في الشارع.

"بدا واضحاً على تلك القطع قيمتها التاريخية والتراثية، لذا اشتريتها كلها من البائع، واحتفظت بها في منزلي. ثم صرت أبحث عن أصلها ومكانتها، فوجدت أن معظمها كان موجوداً في قصر الباشا والبيوت الأثرية في منطقة غزة القديمة"، يقول إيهاب، لرصيف22.

إسرائيل تعمّدت حرق مبنى الأرشيف خلال اجتياحها وسط المدينة في الأشهر الأولى للحرب، ولم تترك وراءها أي شيء يمكن انتشاله وإصلاحه من الوثائق والكتب

ويتابع: "منذ ذلك الوقت، قررت جمع كل ما أجده من قطع أثرية وكتب، حتى تتم إعادتها إلى مكانها الصحيح حال انتهاء الحرب على غزة. الاحتفاظ بها يعني الاحتفاظ بدلالات وثيقة على عمقنا العربي والحضاري في هذه البلاد". 

ويلفت إيهاب، إلى أنّ "القطع تصل إلى أيدي أشخاص لا يقدرون قيمتها وسط الحرب الطاحنة التي يعيشها القطاع. لذلك، يلجأون إلى بيعها بغية الحصول على القليل من الأموال، تساعدهم في شراء الطعام ومستلزمات الحياة لعائلاتهم، التي أُنهكت بفعل الحرب المستمرة".

"الحفاظ على تاريخ غزة، مهمة تقع على عاتق جميع أبنائها، ولا سيّما في ظل ما تعرضت وتتعرض له المدينة من إبادة، أبرز عناوينها استهداف كل شيء يدلل على عمق وأهمية المكان وهويته الوطنية"، يضيف.

محو متعمّد لقصة المدينة

"لم تكتفِ إسرائيل بتدمير الجامع "العمري" ومكتبته، ضمن محاولاتها لطمس التاريخ الفلسطيني وردمه تحت الأرض. بل استهدفت بكل قوّتها وعلى نحو ممنهج، المواقع التاريخية والمكتبات في قطاع غزة"، يقول عاصم النبيه، المتحدث باسم بلدية غزّة.

ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "ولعل أبرز الاستهدافات، كان لمبنى الأرشيف المركزي التابع لبلدية غزّة، والذي يحتوي على آلاف الوثائق والمستندات التي تخص تاريخ المدينة والمعاملات كافة التي جرت فيها خلال العقود الماضية".

الأرشيف المركزي لبلديّة غزة بعد الاستهداف الإسرائيلي (المصدر-أرشيف المؤرخ حسام أبو النصر)
الأرشيف المركزي لبلديّة غزة بعد الاستهداف الإسرائيلي (المصدر-أرشيف المؤرخ حسام أبو النصر)


كذلك، يضمّ مبنى الأرشيف مخطوطات قديمةً وكتباً وخرائط قيّمةً، تحفظ مكانة المدينة وتشرح تاريخها وتوثق مراحل الحياة وطبيعتها فيها. 

ويوضح النبيه، أنّ إسرائيل تعمّدت حرق مبنى الأرشيف خلال اجتياحها وسط المدينة في الأشهر الأولى للحرب، ولم تترك وراءها أي شيء يمكن انتشاله وإصلاحه من الوثائق والكتب.

وبجانب مبنى الأرشيف، دمّرت إسرائيل "حمام السمرة" التاريخي، وهو من المباني الأثرية المهمة في غزة، كان يرتاده الناس، قبل حرب الإبادة، للاستحمام وللحصول على جلسات العلاج الطبيعي على الطريقة التقليدية، وفق كلام النبيه.

ومن المباني التي تم تدميرها أيضاً، "قصر الباشا" شرقي مدينة غزة، الذي احتوى على عشرات الرسومات واللوحات الفنية والقطع المعدنية والمقتنيات الأثرية والحجارة التي تدلل على تاريخ الوجود الفلسطيني والعربي على هذه الأرض.

لكل كتاب وكل زاوية، في كل مكان تاريخي أو مكتبة في غزّة، قصة كبيرة يعرفها رواد الأماكن وزوارها. أنا أؤمن بأنّ أهل غزة وقرّاءها والمهتمين بتاريخها، قادرون على إعادة النبض للحياة التاريخية والحضارية والثقافية فيها

ويتابع النبيه: "خسرت غزة أيضاً نحو 50 ألف مؤلف، بعد تدمير الاحتلال للمكتبة العامة في المدينة، والتي تتنوع بين الكتب والجرائد والمجلات والرسائل العلمية والبحوث".

كما دمرت حرب الإبادة، مكتبة "ديانا تماري صباغ"، الواقعة في حرم مركز رشاد الشوا الثقافي، الذي تعرّض للتدمير أيضاً، بحسب النبيه.

"يجب على الجهات الثقافية والفكرية العالمية والعربية، أن تتدخل بشكل عاجل لدعم عمليات إنقاذ وترميم تاريخ غزة. من جانبنا، أطلقنا عدداً من المناشدات قبل ذلك، لأنّ غزة لا تحتوي على تاريخها فحسب، بل ثمة وثائق وأدلة تخص تاريخ حضارات وشعوب ودول تعاقبت على المنطقة"، يضيف مؤكداً.

إحدى المخطوطات التاريخية في مكتبة الجامع العمري قبل حرب الإبادة
إحدى المخطوطات التاريخية في مكتبة الجامع العمري قبل حرب الإبادة

تدمير يتعدّى المكان والمادة

لا تقف انعكاسات تدمير التراث والتاريخ في غزة، عند البُعد المادي، بل ثمة أبعاد أخرى معنوية له، تمسّ نفوس رواد المكتبات وزوار الأماكن التاريخية في القطاع. 

يقول الشاب محمد المدهون، من سكان حي التفاح شرقي مدينة غزة: "بمجرد انسحاب الجيش الإسرائيلي في أشهر الحرب الأولى من منطقة الجامع العمري، وسط مدينة غزة، سارعت لتفقد المكان، فكان تدمير الجامع ومكتبته وقصر الباشا وحمّام السمرة والبيوت الأثرية في البلدة القديمة، أكثر ما صُدمت به". 

ويوضح، في حديث إلى رصيف22: "كان أمراً صعباً عليّ. فقد اعتدت على زيارة هذه الأماكن بشكل دائم، منذ دراستي الجامعية في كلية الآداب. ولطالما استفدت من خدماتها، علمياً وفكرياً. وتالياً، فإنّ إسرائيل لم تستهدف التاريخ فحسب، عبر تدمير هذه المعالم، بل استهدفت كل فلسطيني باحث عن العلم والمعرفة، لأنها تعرف مدى ارتباط أصحاب العلم بتلك الأماكن بشكل خاص".

ويختم محمد قائلاً: "لكل كتاب وكل زاوية، في كل مكان تاريخي أو مكتبة في غزّة، قصة كبيرة يعرفها رواد الأماكن وزوارها. أنا أؤمن بأنّ أهل غزة وقرّاءها والمهتمين بتاريخها، قادرون على إعادة النبض للحياة التاريخية والحضارية والثقافية فيها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image