محاولة للإمساك بصوت الموت

محاولة للإمساك بصوت الموت

مدونة

الأربعاء 18 يونيو 202510:47 ص

ماذا يفعل الموت بنا؟

لا أقصد موتنا، بل موت الآخرين. 

من لا يؤمن بحياة أخرى بعد هذه الحياة، مثلي، يجد صعوبةً في تقبّل معنى الحياة كلّما جاء موت. مات اليوم أحد أقربائي. طفل صغير يقارب عمره عمر أخي الصغير حين مات. كان أخي في الحادية عشرة من عمرٍ سريع لم يعطه وقتاً ليكتشف العالم.

ما معنى أن يولَد طفلٌ مشوّه؟ ما معنى أن يموت طفل بسبب قذيفة نزلت على بيته، فمات مع أفراد عائلته كلهم؟ ما معنى أن تحبّ شخصاً لسنوات طويلة، ومن ثمّ يموت فتشعر بهوّة تسع الكون تتمدّد داخلك؟ 

لا أحكي عن المجازر وموتى الحروب والموت الجماعي، فذلك أصعب من قدرتي على التخيل والتفكير.

كنتُ قريباً من الموت في مرّات كثيرة، وكنتُ في كلّ مرة مستعداً للرحيل دون ندم. كتبتُ مرّةً عن الموت الذي أخذني لثوانٍ ثمّ أعادني. كتبتُ: "تلك كانت لحظة الحريّة الأكبر التي لم أختبرها من قبل قطّ. لم أفكر في أيّ شيء. لا خوف. كنتُ على استعدادٍ للرحيل وترك كلّ شيء. لا شيء مهمّاً، كلّ الأشياء إلى زوال".

من لا يؤمن بحياة أخرى بعد هذه الحياة، مثلي، يجد صعوبةً في تقبّل معنى الحياة كلّما جاء موت. مات اليوم أحد أقربائي. طفل صغير يقارب عمره عمر أخي الصغير حين مات. كان أخي في الحادية عشرة من عمرٍ سريع لم يعطه وقتاً ليكتشف العالم.


موتٌ شاعري

أكتب وأنا استمع إلى مقطوعة "كونشيرتو الكلارينيت"، للموسيقي كنان العظمة. أفكر في عَظَمة ما تصنعه حنجرة كنان؛ هذه الموسيقى، وهذا السحر الذي يأخذ المرء إلى عوالم أبعد من خياله. أقاطع كتابتي بقراءة شعرٍ عن الموت. لا أريد أن أقرأ ما كتبه مفكرون وفلاسفة عن الموت. أريد أن أقرب الشعر، والشعر رفيق الموسيقى. شيئان يحملان روح البشر فوق الحياة وفوق الموت. 

تستوقفني قصيدة "شجن جنائزي"، للشاعر ويستن هيو أودن، بترجمة أحمد جمال. أقول لنفسي: يا آلهة الجمال ما هذا؟

"أوقِفوا كُلَّ السَّاعات واقطعوا أسلاك الهواتف

امنعوا الكلب اللاهِي بعظمته من النُّباح

كُفُّوا البيانو عن العزف واقرعوا الطُّبول الخوافِت

أخرِجوا الجُثمان وأدخِلوا مَن يُريد النّواح"...

أبحث في مكتبتي في قصائد الشعراء والشاعرات، فأتعثّر بديوان الشاعرة فروغ فرخزاد. أقرأ قليلاً من شعرها العظيم المتحرّر من كلّ قيد. أتذكر قصيدةً (من ترجمة: محمد اللوزي) قرأتها قبل سنوات، وأبحث عنها. تقول فرخزاد: 

"سأموتُ…

يومَ يكون الربيعُ

مضيئاً بأمواج النور

سأموتُ، في أحد الأيام الحزينة...

السعيدة.

سأموتُ

ويخيّمُ الصمتُ على دفاتري...

وتكون يدي عاجزةً عن فعل الكتابة

وأعيد ذكرياتي

يوم كانت شراييني شعلةً في طريق الشِّعر

حينئذٍ،

يضعُ عشّاقي الورودَ على قبري

في ليالي الخميس

لتبدأ العيون الحزينة

تتلو دفاتري المنسيّة"...

أتذكر حين قرأت هذه القصيدة للمرة الأولى. كنتُ جالساً في حافلة تقلّني إلى مركز مدينة برلين. كان عندي اجتماع عمل. لم أستطع إكمال الطريق. صرتُ أبكي. نزلت من الحافلة، وعدتُ إلى البيت، واعتذرت عن اجتماعي متعللّاً بسبب ما.

ربّما حين قرأت القصيدة في تلك المرة كانت أوضاعي الشخصيّة، النفسيّة والحياتيّة، تمرّ بمنعطف ما؛ ربّما اكتئاب عارض، أو حادثة قتل جماعي في بلادنا، الأرض المبنية فوق عظام أبنائها الذين قضوا في مجازرها. لا أذكر ما كان يحدث في حياتي آنذاك، لكن أذكر ما فعلته بي القصيدة. يوم كامل لم أستطع فيه أن أفكر بغير تلك القصيدة وبموت فروغ فرخزاد. 

كتبتُ كثيراً في الموت. كتبتُ رثاءً لأخي الذي مات سنة 2005، الموت القريب الأوّل، ثمّ تتالى الموت، ففقدت أقارب وأصدقاء وأحباباً، بعضهم ما زال حاضراً في حياتي. كتبتُ في رثاء بعضهم محاولاً تعزية نفسي بمن فقدت. فلماذا أكتب عن الموت مرةً أخرى؟


الموت/ الحياة… الحياة/ الموت

أعرف أنّ الموت والحياة جزءان يكملان بعضهما بعضاً، يين ويانغ، دائرة كبيرة تمثّل كل شيء فيها: جزء أبيض فيه دائرة صغيرة سوداء، وجزء أسود فيه دائرة صغيرة بيضاء. في كلّ سواد بياض وفي كلّ بياض سواد. كلّ منهما مكمّل للآخر، لا يكتمل الأبيض إلّا بالأسود، ولا يكتمل الأسود إلّا بالأبيض. لا "صحّ" ولا "خطأ". لا خير مطلقاً ولا شرّ مطلق. لا تكتمل الحياة إلّا بالموت. لا يكتمل الموت إلا بالحياة. 

حملت رمز اليين واليانغ لسنوات طويلة مربوطاً حول عنقي، آمنتُ (وما زلت أؤمن) بأنّ في كلّ خير شرّاً ما، وفي كلّ شرّ خيراً ما. وكذلك في الموت. في كلّ حياة موت، وفي كلّ موت حياة. هذا ما قاله الفلاسفة، وهذا ما نراه بأعيننا كلّ يوم. 

كتبتُ كثيراً في الموت. كتبتُ رثاءً لأخي الذي مات سنة 2005، الموت القريب الأوّل، ثمّ تتالى الموت، ففقدت أقارب وأصدقاء وأحباباً، بعضهم ما زال حاضراً في حياتي. كتبتُ في رثاء بعضهم محاولاً تعزية نفسي بمن فقدت. فلماذا أكتب عن الموت مرةً أخرى؟

أسأل نفسي وأنا أسمع الموسيقى. أسمع صوت آلة الكلارينيت وكأنها صوت الحياة الأزلي. الصوت القادم من مكان بعيد ليأخذني إلى مكان بعيد. يا لجبروت الموسيقى!

"وَالمَوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِس"

في كلّ مرة يهطل فيها الثلج، ينظر واحدنا إلى السماء أو إلى الشجر الذي علق عليه الثلج وينبهر بالجمال. في كلّ مرة نرى فيها شروق الشمس أو غروبها، ننبهر بهذا الجمال المؤقت. في كلّ مرة نرى فيها بحراً ممتداً يصل زرقته بزرقة السماء، ننبهر بهذا الجمال الأبدي. هكذا نحن البشر، محكومون بالأمل وبحبّ الحياة، برغم كلّ ما يحدث لنا/ فينا. 

في كلّ مرة نحاول فيها نسيان الموت، والتفكير في الحياة، وزرع نبات سريع النمو في مكان إقامتنا، يأتينا الموتُ بشكل ما: موتُ أحد الأحبّة، مجزرة، أو أيّ موتٍ آخر. هذا الموت الجمعي هو لعنة بلادنا. 

وعند كلّ موت يفكر المرء في الأسئلة التقليدية الكبرى: من نحن؟ من أين أتينا؟ لماذا وُلدنا على هذه الأرض؟ ما هي الروح؟ ما هي الأفكار؟ 

أؤمن بعدم وجود حياة أخرى بعد الموت (هل قلتُ هذا سابقاً؟)، وأنّ وجودنا على هذا الكوكب سببه تفاعلات وتطورات بيولوجيّة. لكن وبرغم ذلك: ما هو هذا الألم الذي أشعر به مذ عرفتُ بموت الطفل قريبي؟ ما هو هذا الألم الذي أشعر به حين أقرأ الأخبار الآتية من غزة؟ كيف يستطيع إنسانٌ تحمّل كلّ هذا الموت دون أن يكون مؤمناً بإله ما وبشيء ما يحدث بعد الموت؟ 

أؤمن بعدم وجود حياة أخرى بعد الموت (هل قلتُ هذا سابقاً؟)، وأنّ وجودنا على هذا الكوكب سببه تفاعلات وتطورات بيولوجيّة. لكن وبرغم ذلك: ما هو هذا الألم الذي أشعر به مذ عرفتُ بموت الطفل قريبي؟

ربّما لا أعرف الكثير علمياً عن كيفية عمل الأحاسيس والمشاعر، وعن "السيالات العصبية" والهرمونات المسؤولة عن كلّ هذا الألم. 

لو كان الموت موتي، لكنتُ رحلت… وخلاص. لا حزن، لا ألم، ولا شيء. خلاص. لكن أعرف أنّ بعض الأشخاص سيتألمون لموتي، مثلما أتألم اليوم لموت آخرين.

أحاول عند كلّ موت أن أدرّب نفسي على التعامل مع الموت كشيء أساسي في الحياة، مثل الهواء والطعام والشراب. لكن الحزن الكبير والفراغ الجديد اللذين يخلقهما هذا الموت الجديد، يصعب شرحهما وتحديدهما.

ربّما كان إنسان الزمن الحالي غير قادر على التأقلم مع الموت، وربّما في عصور قادمة، بعد مئات أو آلاف السنوات، سيتغير هذا "الشيء"، وسيصبح الإنسان قادراً على تقبّل الموت دون حزن ليصير شيئاً عادياً مثل التنفس وتناول الطعام.

وربّما كان هذا المقطع من رواية "سجناء جبل آيايانو الشرقي"، لسليم بركات، يقول شيئاً ما أحاول قوله ولا أستطيع: 

"لم أعشِ الموت؛ لم أصاحبه، فكيف أحنّ إليه؟"، ردّ راووت.

نحنُّ، أحياناً، إلى أمكنة لم نرَها، وإلى أزمنة سحيقة كأنّنا عشناها. أمكنة، وأزمنة بمذاق على لسان خيالنا. كان الموت نظيفاً في ما مضى. بات وسخاً الآن، قالت دالومي.

نقر راووت بأنامل يده اليسرى على غلاف الكتاب الضخم. تمتم: بل الموتُ أكثر أناقةً الآن.

هزّت دالومي رأسها بالشعر الأحمر المضموم ذيلاً، لا توافقه: كان الموت شريفاً في ما مضى.

ما شرف الموت؟ تساءل راووت، فردّت دالومي: حنينه إلى أناسٍ لا يقاومونه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image