شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حسناً أيها الموت... نحن الآن وجهاً لوجه

حسناً أيها الموت... نحن الآن وجهاً لوجه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 6 مايو 202311:31 ص

الخشية

 

" أشعر بأن الموت يتسرّب إلى جسدي". يوكيو ميشيما

المقبرة صامتة وفارغة في ذلك اليوم الربيعي. حيث وُضع الصندوق الخشبي داخل حفرة ضخمة، وأهالوا عليه التراب. قرأوا بعض الآيات، رُشّ بعض الماء على القبر، وانتهى كل شيء.

ذهب أبي، ثم أمي، والآن، أنا هنا، وحيد. للمرة الأولى التي أحس فيها أنني وحيد تماماً، أكثر من أي وقت مضى. لقد فقدت آخر شخص لي في هذا العالم. الشخص الوحيد الذي أستطيع الكلام معه، حتى لو كان هذا الكلام مجرّد هراء. حتى لو كان هذا الشخص في خضم غيبوبة، تعرف أن نهايتها هي الموت.

ليالٍ طويلة من البكاء والوحدة والضياع...

مرّ اليوم الأول بصعوبة. كان الزمن يسير ببطء، ببطء شديد، ببطء ظننته لانهائياً. في الليلة الأولى بعد دفن أمي بكيت، بكيت طويلاً، طويلاً جداً، ولم أستطع النوم. أغمضت عينيّ لكنني لم أنم. خفت أن أنام فأموت.

قضيت الأيام التالية أجرجر خلفي إحساساً بالضياع وبالحزن. أنتقل من ركن إلى آخر، ثقيلاً مثل حجر، لا، مثل جبل. لا أعرف كم مرّ عليّ من وقت. لم يكن الزمن مهمّاً. في المنزل ساعة حائط وساعة يدي التي اشتريتها من عند الأفارقة في وسط المدينة، ومنبه أبي العتيق، وكلها كانت تتكتك ويتحرك الزمن داخل بطنها... تك.. تك.. تك.. تك...

لم يكن للزمن أهمية، ولا لتعاقب الليل والنهار. كانت النوافذ والأبواب مقفلة. لاضوء يدخل. العالم يسبح في بحر من السكون الراكد. سكون جمّد كل شيء من حولي. لم يعد للعالم الخارجي صوت: ضجيج الشارع، السيارات، صراخ الناس وأصواتهم، التلفاز، الموسيقى، هدير الثلاجة، صوت الرياح، انهمار المطر... سكون هادئ وطويل، فقط.

لقد ذهبا تباعاً، وبقيت وحدي، أمام الموت، أنا الضحية التالية.

للموت عينان: عينان جاحظتان، تشعّان في الظلام، وتتربّصان مثل نمر في غابة. للموت رائحة: رائحة ثقيلة، رائحة دبقة، رائحة تخترق المسام. للموت لون: لون أسود، حالك... مجاز

للموت عينان: عينان جاحظتان، تشعّان في الظلام، وتتربّصان مثل نمر في غابة. للموت رائحة: رائحة ثقيلة، رائحة دبقة، رائحة تخترق المسام. للموت لون: لون أسود، حالك، ينتشر ويذوب ويذيع. للموت صوت: صوت صامت، تسمع تنفسه المنتظم في الظلام، تسمع لهاثه، تسمع صوته المقلق الذي يدمر الأعصاب.

أعرف رائحة الموت، أعرف صوته، أعرف لونه، أعرف رائحته... أعرفه ملمحاً ملمحاً. الموت كائن يشاركني المنزل. لقد أخذ أبي وأمي، وجاء ليأخذني أنا أيضاً. الموت يسكن جدران الشقة وبلاطها، يسكن الأبواب والنوافذ، يسكن الصنابير والمرآة وثقب الحمام، يسكن مجلى المطبخ ورخامه الأسود، يسكن غرفة والداي المترعة بالصمت والذكريات، يسكن غرفتي وكتبي وأوراقي وطاولتي وسريري.

تصير الشقة فجأة عائمة في الفراغ، بلا تفاصيل وبلا ملامح وتسقط جدرانها. تصير حيّزاً كبيراً من الظلمة . ثمة ضوء وحيد. مصباح. مصباح المكتب الأسود 15 وات. نور المصباح الأبيض القوي يسقط على وجهي، يتغلغل في عينيّ حتى لا أكاد أرى إلا البياض. جثة بلا روح تتمدّد في الفراغ والعتمة. جثة جامدة، عارية، باردة. جثة بعينين مغلقتين أو مفتوحتين، تحدقان في الفراغ، الفراغ الأبدي القاسي.

تفكر الجثة طويلاً، تفكر في كل شيء، ولا تصل إلى شيء.

صحراء: صحراء خالية، رمالها ساخنة، شديدة السخونة. تهب الرياح، فتملأ الجثة بالرمل. حبات الرمل الصغيرة الخشنة تغطي الجثة وتتجمد فوقها، و تتكون طبقات فوق طبقات، حتى تمتصها الرمال في النهاية.

ثلج: ثلج صقيعي. أقصى درجات البرودة تتغلغل في عظام الجثة وتجمّد عروقها، تصير العروق أنابيب إسمنت خضراء دقيقة. تهب الريح، ريح عاصفة قوية، تهب لقرون بلا عدد. الثلج فوق الجثة ناعم، أبيض، بارد، يتصاعد منه بخار حارق. يجمّد الثلج الجثة، يجمد العيون والقلب والدماغ والعمود الفقري والقضيب بخصيتيه، يجمّد الأذرع والأرجل، الأقدام والأيدي، الأصابع والشفاه والأمعاء... يجمّد في داخل الجثة الأحلام والأفكار والشهوات والمشاعر.

تنام الجثة وتحلم، ولا تعرف إن كان حلمها موتاً... يصير للحلم طعم الموت، وللموت طعم الحلم.

في الحلم تظهر الجثتان: جثة الأب وجثة الأم.

جثة الأب متفحّمة، شديدة السواد، جامدة. عينان مسدلتان، ملابس محترقة ملتصقة بالجسم: قميص أزرق وسروال أسود وسترة كاكية. الملامح لاتزال كما هي: وجه صارم، أنف مستقيم، شارب دقيق، شعر أسود فاحم مسرح إلى الخلف. نفس الرائحة، رائحة الكهرباء، اللاذعة. الرائحة التي سكنت الجسد لسنين. رائحة قوية، مغثية، تشبه رائحة حيوان ميت. إنها رائحة الموت نفسه. أحاول الهرب فلا أجد مخرجاً، تطبق الرائحة على أنفاسي فتخنقني. في الحلم الجثة ممدّدة وسط غرفة بيضاء واسعة. في الحلم يظهر خرطوم ماء وقطعة صابون. أفتح خرطوم المياه وأمسك قطعة الصابون، أنزع عن الجثة ملابسها وأبدأ في الغسل. أغسل وأغسل، أدعك بالصابون جيداً حتى يكاد يغمى عليّ، لكن السواد يبقى عالقاً، وتبقى الرائحة تملأ الجو، رائحة الكهرباء.

تعود جثة الأم إلى الحالة الأولى، إلى الحالة التي كانت تتمتع فيها بالصحة والعافية والشباب. شعر أسود مصفّف، بشرة بيضاء، بيضاء مضيئة، عينان واسعتان، جمال غريب ينطلق من تلك الجثة. ترتدي الجثة بذلة نسائية سوداء، وحذاء كعب عالٍ أسود، وحقيبة يد سوداء. أظافرها مطلية باللون القرمزي، وسلسلة ذهبية في الرقبة. تجلس جثة الأم على مقعد، مقعد خشبي، يشبه مقاعد المحطات والجامعات والحدائق. تجلس وحيدة، تقرأ كتاباً، وأحيانا لا تمسك شيئاً، وأحيانا تأكل قطعة حلوى بالكريمة بتلذّذ.

أقترب من الجثة الجالسة على المقعد وأقول: " أمي! هذا أنا، ابنك".  لا تسمعني الجثة، تقرأ كتابها أو تلوك حلواها ،أو تصفر في الجو. أردّد: "أمي، هذا أنا ابنك. انظري". أمدّ يدي بتردّد بالغ، مرتعشاً، لأمسكها، لكنني لا أمسك شيئاً. تمرّ يدي عبرها كأنها فراغ. أحاول أكثر من مرة أن أمسك الجثة بيدي لكن بلا جدوى، لا أمسك إلا الفراغ. أصرخ: " أمي، أمي، أنا ابنك، ابنك، ابنك"، لكن الجثة لامبالية. تقف الجثة وتدير ظهرها وتسير. أتبعها، فتبتعد. كلما تقدمتْ خطوة، تقدمتُ خطوة.

حسنا أيها الموت! اهجم الآن، أرني شجاعتك، لاتكن جباناً، لا تختبئ في الأركان. أنا هنا، أنتظر، جامداً، لن أتحرك، لن أهرب. أعزل، وحيد. حتى إنك إذا أخذت روحي لن ينتبه أحد، لأنني وحيد، وحيد لدرجة لا يمكن تصورها... مجاز

أقف فجأة، بشكل لا إرادي، أحاول مدّ يدي لأسحبها من سترتها أو من حقيبتها، لكن يدي تعجز، مشلولة، كأنها ليست يدي، أحاول أن أصرخ لكن الكلمات لا تخرج من فمي. أقف ساكناً حتى تختفي في غياهب الحلم. (في أحد الأحلام، استدارت ونظرت لي نظرة غريب لغريب. كأنني لم أكن ابنها وكأنها لم تكن أمي).

أفتح عينيّ. نبضات قلبي متسارعة، حلقي جاف، لفمي طعم كريه مزعج. أصطدم بالظلام ، أحدق فيه طويلاً، كأنها سماء بلا نجوم. حتى لو كانت الشمس ساطعة في كبد السماء، وجميع النوافذ والشرفات مشرعة ومفتوحة، والمباني المحيطة تسمح بدخول الشمس. حتى لو كان القمر مضيئاً، مضيئاً وضخماً، ضخماً إلى حدّ أسطوري، ناشراً نوره الأبيض. يتضاءل القمر، يتضاءل حتى يصير في حجم حبة دواء، فالظلام يبقى منتشراً، يستوي النور والظلام كأنه عمى أبدي.

أصيح في جوف العتمة: "أبييي، أمييي..." لكن وحدها الجدران تردّ عليّ صدى النداء.

أنا خائف بشدة. لطالما تمنيت الموت، لطالما قرأتُ عن الموت، كتبتُ عن الموت، لكنني الآن خائف من الموت

*****

حسنا أيها الموت! أنا المتبقي إذن. لقد أخذت أبي وأمي. انتزعتهما مني وأنا الضحية التالية. اهجم الآن، أرني شجاعتك، لاتكن جباناً، لا تختبئ في الأركان. أنا هنا، أنتظر، جامداً، لن أتحرك، لن أهرب. أعزل، وحيد. حتى إنك إذا أخذت روحي لن ينتبه أحد، لأنني وحيد، وحيد لدرجة لا يمكن تصورها. أنا على الأقل رأيت جثتي والديّ ممددتين فوق مغسلة الموتى، وسرت في جنازتهما، وضعتهما تحت التراب، وبكيت عليهما... لكن أنا، عندما أموت، من سيسير في جنازتي، من سيلقي عليّ النظرة الأخيرة، من سيضعني لأنام داخل قبري إلى الأبد؟ من؟ لا أحد...

*****

أنا خائف بشدة. لطالما تمنيت الموت، لطالما قرأتُ عن الموت، كتبتُ عن الموت، لكنني الآن خائف من الموت، خائف من الدخول في الغياب، من العوم في ظلمة لانهائية، غير قادر على الحركة أو التنفس. لا أحسّ، لا أفكر، لا أحلم. مجرّد جثة عائمة في السواد المطلق، وحيد مثلما كنت دائماً، وحيد وإلى الأبد.

في طفولتي كنت أخافك، أخافك أكثر من أي شيء آخر. كنت أخاف أن تأتيني ليلاً، أن يخطف شبحك روحي. لم أكن أنام، أبقى مستيقظاً طوال الليل، عيناي مفتوحتان، أنصت للصمت منتظراً قدومك. لطالما سكنتَ أحلامي ولعبي، وفرحي وشقاوتي. لم أكن محمياً ضدك. يبني الناس فقاعات حولهم ليحموا أنفسهم من الموت، فقاعات وهمية تشعرهم بالأمان. فقاعتي ضدك كانت الكتابة، كنت أحمي نفسي منك بالكتابة، أكتب لأهرب منك، لأتحداك، لأهزمك... في كل كلمة، في كل سطر، في كل قصيدة وكل قصة، أتحداك رغم أنني أعرف أن معركتي خاسرة. معركة فأر ضد نمر. فقاعتي كانت وهمية، هشة. ضرطة منك قادرة على تدميرها.

حسناً أيها الموت أنا أستسلم، أضع سيفي أمامك بكل شرف المحارب. لقد انتصرتَ. نحن الآن وجهاً لوجه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image