شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل تخاف من الموت؟

هل تخاف من الموت؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الجمعة 18 أكتوبر 202411:57 ص

في الحرب نعود إلى البديهيات. هناك حيث يبدأ كل شيء.

والسؤال البديهي الأول الذي يراودنا، نحن الذين تطالنا الحرب، هو: هل نخاف من الموت؟

قد يبدو السؤال عادياً، إذ لطالما تداولناه في سهرات النار مع أصدقائنا، أو في ليالي الشتاء الباردة أمام المدفأة، لكن وقعه تحت القصف مختلف.

أكتب هذا النص بينما تحوم فوقي "الزنانة"، وهي طائرة الاستطلاع الإسرائيلية التي تجوب أجواءنا وتنخر مسامعنا بصوتها، وقلوبنا بغدرها. كنت أفكر اليوم أن من صمّمها كان بالتأكيد عالم نفس، قبل أن يكون تقنياً عسكرياً، فقدرتها على إيلامنا نفسياً تفوق قدرتها على جمع المعلومات عن تحركاتنا اليومية. وكيف لي ألا أفكر في الموت بينما ترافقني كل يوم في جولتي على النازحين المنكوبين، مراقبةً عن كثب عدّاد عمري، بل تتحكم به؟

عندما تسمع صوت الطائرات أو ترى الدمار حولك، يشعر عقلك بأنك محاصر، ليس فقط في المكان، بل في أفكارك وقلقك. الخوف ليس مجرد ردّ فعل طبيعي على الخطر، إنه شعور يتغلغل إلى أعماق النفس، ليُصبح جزءاً من كل فكرة تمرّ برأسك. كل لحظة قلق تنمو فيها مشاعر العجز، ولا مفرّ من طرح أسئلة مرعبة: هل سيكون هناك غد؟ هل سأرى وجوه من أحبّ مرةً أخرى؟

في قلب الحرب، وفي وسط كل هذا الدمار والخراب، ينبعث السؤال الذي يخشاه الجميع بصوت خافت: هل تخاف من الموت؟ إنه سؤال يتردد في النفوس، تصحبه نبضات قلوبنا المتسارعة. في كل زاوية، تجد وجوهاً تقرأ في عيون بعضها البعض هذا السؤال المعلّق في الهواء، وكأن الموت بات رفيقاً مزعجاً لا يفارقنا

حاولت شرح الخوف الذي يعتريني لمن هم حولي، وكانت إجاباتهم مؤلمةً وملهمةً على حد سواء. كيف يكون الحديث عن الموت ملهماً؟ إنها أشياء لا تحدث إلا في الحرب.

السؤال الذي يخشاه الجميع

في قلب الحرب، وفي وسط كل هذا الدمار والخراب، ينبعث السؤال الذي يخشاه الجميع بصوت خافت: هل تخاف من الموت؟ إنه سؤال يتردد في النفوس، تصحبه نبضات قلوبنا المتسارعة. في كل زاوية، تجد وجوهاً تقرأ في عيون بعضها البعض هذا السؤال المعلّق في الهواء، وكأن الموت بات رفيقاً مزعجاً لا يفارقنا.

تقول مروى إنها تخاف من الموت، فهي "تحب أن تكون جاهزةً لتلقى الله كما يحبّ". كيف أُثبت لها أن الله يحبّنا، كما نحن، وأن ما نعيشه كفيلٌ برفعنا درجات على "عرش ثواب التضحية"؟

دعاء، صبية نازحة أخرى أصيب زوجها بجروح بالغة، وصلت "إلى درجة اليقين بعد إصابته"، وتشرح بصبرٍ ملهم أنها "راضية بامتحان الله". تقول بجرأة صلبة إنها "لا تخاف الموت، فدار الخلود أجمل". أي إيمان هذا الذي يحمله شعبنا في قلبه؟ ربما هذا هو سرّ استمرارنا. مواجهة هذا الخوف بيقين لا يمكن تفسيره مادياً.

على المقلب آخر، هناك من يصف الموت بأنه "لحظة". الموت يأتي بلحظة، لا نعلم إن كنا نستشعر خلالها شيئاً أم لا. لكن خوفه مختلف. رائد يخاف أن يعيش، خصوصاً في لبنان.

على هامش ليس بهامش، وبينما أكتب هذا النص أيضاً، وصلني خبر مفاده إخلاء مبنى كبير في وسط بيروت يضمّ مكاتب إعلاميةً وسفارات بعد تلقي إنذارات إسرائيلية بقصفه. هل خاف العاملون هناك من الموت؟ كيف يمكن وصف الدقائق المعدودة التي يحظى بها الناس للإخلاء؟ دقائق معدودة وثقيلة... لكنها تحتاج إلى خفّة!

صديقتي حددت مخاوفها بدقة ملهمة أيضاً، فهي تخاف أن تتعذب قبل الموت. بتنا نقبل الموت، شرط الارتحام من عذابه. وقالت ما هو أعمق: "بتمنى لما موت ما حسّ، وكون مستورة". الستر عند الموت رحمة، ومجرد التفكير في عكس ذلك مرهق. أما محمد، فهو "يخاف على من سيبقى من بعده إذا مات"، وآخرون يجيبون بوضوح تام: "نحن نحبّ الحياة". ومن منّا لا يفعل؟

المرور بكل هذه الإجابات منهك. قلبي يكتب بثقل كبير. نحن نتحدث عن احتمالات موتنا ونحاول رسمها في مخيلتنا، لعل ذلك يخفف من وطأة القلق والألم.

علم النفس وقلب الإنسان

علم النفس يقول إن خوفنا من الموت طبيعي. إنه جزء من رغبتنا العميقة في البقاء. لكن في لحظات كهذه، في الحروب والدمار، يصبح الخوف أشدّ وأعمق. إرنست بيكر، يقول إننا نبني حياتنا ونحاول خلق إرث نتركه وراءنا، لنُنسينا حقيقة أننا فانون. نحن نبحث عن الخلود في ذاكرة من نحب، في الكلمات التي نكتبها، في الأفعال التي نترك أثرها.

علم النفس يقول إن خوفنا من الموت طبيعي. إنه جزء من رغبتنا العميقة في البقاء. لكن في الحروب والدمار، يصبح الخوف أشدّ وأعمق. إرنست بيكر، يقول إننا نبني حياتنا ونحاول خلق إرث نتركه وراءنا، لنُنسينا حقيقة أننا فانون. نحن نبحث عن الخلود في ذاكرة من نحب، في الكلمات التي نكتبها، في الأفعال التي نترك أثرها

وعلم النفس يخبرنا أيضاً بأن الإنسان في مواجهة الخطر يعود إلى غرائزه الأساسية: الهروب أو المواجهة. ولكن في الحرب، ليس هناك طريق للهروب، ولا قدرة حقيقية على المواجهة. هذه الحالة من "الجمود" تغلق أبواب الأمل، وتجعل الخوف أشبه بشبح يرافقك أينما ذهبت.

نقول الآن ونحن للأسف خبراء في هذا: الحرب ليست فقط ما يحدث خارجنا، بل هي أيضاً ما تفعله بنا من الداخل. إنها حرب على عقلنا، على قدرتنا على الثقة بالحياة. نحن نحاول أن نحافظ على إنسانيتنا، على بقايا الأمل، لكن في قلب كل منّا خوفاً عميقاً، لا يزول حتى وإن انتهت الحرب.

إذاً هي كالتالي، الموت هو المجهول الذي نخشاه جميعاً، خاصةً في زمن الحرب، فيصبح قريباً كظل ثقيل يذكّرنا بهشاشة وجودنا. يختلف الناس في خوفهم منه؛ فالبعض يرى فيه خلاصاً، بينما يواجهه آخرون برعب الفناء وانتهاء الوجود. في لحظات الحرب القاسية، يتجسد الخوف جماعياً، لكنه يُضيء الدرب من حيث التضامن الذي يحدثه. يجد البعض الطمأنينة في الإيمان، وآخرون في حبّهم للحياة والآخرين، يعيشون كل يوم كأنه الأخير. الموت ليس نهاية الرحلة، بل هو دعوة لأن نحيا بعمق، وأن نترك وراءنا أثراً من الحب والذكرى.

في الحرب نجد أنفسنا نتساءل: هل سنعود كما كنّا؟ هل يمكن أن نعيش مرةً أخرى دون هذا العبء الثقيل من الخوف؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image