أثناء سيري بجوار الاستاد الذي هدم معظمه، أتذكر صورة فوتوغرافية رأيتها قبل سنوات قليلة لخالي في مدرجاته، يجلس جنباً لجنب مع ابن خالتي، الذي كان طفلاً وقتها. وما لبثت أن حضرت كل ذاكرتي مع الموت.
قبل عدة سنوات كتبت صديقة لي على فيسبوك تسأل متى وكيف تتحدث الأهل مع أطفالهم عن الموت أول مرة؟ أحاول أن أتذكر متى عرفت الموت لأول مرة وفشلت في التذكر. لكنني أعرف أنه لطالما قورن بسؤالي عن جدي. لم يكن لي وقتها سوى جدة وحيدة على قيد الحياة (جدتي لأمي). أهل أبي توفوا منذ زمن. وجدي لأمي توفي وهي طفلة. ولطالما كانت فكرة وجود جَد أشعرتني بالغيرة من أقراني.
قبل عدة سنوات كتبت صديقة لي على فيسبوك تسأل متى وكيف تتحدث الأهل مع أطفالهم عن الموت أول مرة؟ أحاول أن أتذكر متى عرفت الموت لأول مرة وفشلت في التذكر
عندما كانت أمي تخبرني وأنا صغيرة بأن جدي توفى قبل سنوات كثيرة، كنت أتخيله في بدلته الأنيقة وشاربه المشذب، وبيده عصا كنت قد رأيتها مرة في دولاب جدتي وأنا طفلة، وأقنعني عقلي وقتها أنها لجدي. ولم أتخيل أنها في حقيقة الأمر لجدتي، ولكنها تخفيها لشعورها بالخجل إن رآها أحدهم تستخدمها.
أتصور جدي بهيئته تلك يجلس في كرسي فخم في السماء أسفل عرش الرحمن. ينتظر في هدوء من سيصعد للسماء بعده. صورته تلك كونتها من نظرة سريعة اختلستها وأنا طفلة على صورته الكبيرة التي احتفظت بها جدتي في الدولاب وحفرت في ذاكرتي حتى امتلكت تلك الصورة عقب سنوات من تلك النظرة بعد وفاتها، وأرسلتها لأخصائي لترميم القطع الذي حدث بها. وفي نظراتي المتفحصة لملامح وجهه بعدها، أدرك أني أرث عينيه وحاجبه. جدي بالنسبة لي وأنا طفلة كان أول الأموات في السماء. لا أحد قبله. يجلس في السماء وحيداً ومبتسماً وهادئاً. ينتظرنا هناك لنصاحبه، حتى انضم إليه ابن خالتي، الشاب المراهق بعد سنة أو سنتين ربما من تكويني لتلك الصورة عنه أسفل عرش الرحمن.
جدي بالنسبة لي وأنا طفلة كان أول الأموات في السماء. لا أحد قبله.
كنت تقريباً في السادسة من عمري حينما سمعت صرخة أمي المدوية في مطبخ المنزل الصيفي بعد أن دخل أبي العائد لتوه من الخارج ليخبرها أن ابن خالتي مات غرقاً أثناء رحلة صيد خرج فيها مع زملائه. لم تصدق أمي. هرول إخوتي على سلم المنزل يتساءلون عمّا حدث لتأتيهم صرخات أمي بأن إبراهيم مات. وانزويت أنا في ركن المنزل لا أفهم تماماً ماذا يترتب على تلك الجملة.
لا أزال أذكر أني لم أستطع البكاء يومها لأن ذكرياتي مع ابن خالتي كانت محدودة بفارق السن الذي بيننا، وقد كان غالباً مرافقاً لخالي الصغير. كان يعتبره ابناً له يصاحبه في الاستاد لمشاهدة مباريات كرة القدم، وعرّفه إلى شغف الصيد. أذكر أن خالي انقطع بعدها فترة عن رحلات الصيد، وإن ذهب كان يذهب على استحياء. كما أذكر أننا بعدها قاطعنا البحر. نحن سكان المدينة الساحلية تعاملنا لسنوات على أن البحر غير موجود في المدينة. انتحبت أمي وخالاتي وأخواتي وارتدين السواد بينما لم أفهم أنا تماماً ما معنى الموت، أهو أن ابن خالتي انضم إلى جدي في السماء؟
هل بكيت الموتى أم بكيت دموع محبيهم؟
استغرق مني الأمر وقتاً طويلاً لأدرك أنني لم أحزن ولم انتحب على وفاة ابن خالتي. فسّرت ذلك بأنه ربما لصغر سني وقتها، أو لأني لم أملك ذكريات معه، لكني وجدت الأمر غالباً ما يتكرر كثيراً أمام كل خبر وفاة يصادفني، كأني أشعر أن الحزن ليس من حقي، وأني إن حزنت غالباً فسأزيد من حزن أحبائه.
لم أزل أشعر بأني تك الطفلة الصغيرة التي لا تفهم معنى الموت تماماً. أهو حدث يغيّب أحدهم للأبد ليقف وراء ستار ما لا نراه؟ أقف دائماً حائرة أمام دموعي، أهي دموع فراقهم أم أبكي لدموع محبيهم؟ أتذكر أن بعد وفاة جدتي وأنا شابة، بكيت أكثر ما بكيت على دموع أمي. لطالما اقتنعت أن جدتي حية في منزلها، وأنني كلما قللت ترددي عليه ضمنت وجودها هناك. وعندما تم بيع المنزل بعد سنوات من وفاتها وجدتني أبكي عليها لأول مرة كأنها ماتت للتو. كانت تلك المرة الأولى التي أبكي فيها على جدتي بشكل شخصي ولرثائها، وليس بكاءً على حزن أحد.
لم أزل أشعر بأني تك الطفلة الصغيرة التي لا تفهم معنى الموت تماماً. أهو حدث يغيّب أحدهم للأبد ليقف وراء ستار ما لا نراه؟ أقف دائماً حائرة أمام دموعي، أهي دموع فراقهم أم أبكي لدموع محبيهم؟
كان دائماً شعوري بالبكاء هو استسلام للخسارة، كأني إن بكيت أدركت. وإن أدركت أصبحت أراهم على الضفة الأخرى من الحياة. أعترف بأن شعوري تجاه الموت هو دائماً كمقابلة صديق قديم، أجد في المقابر ألفة لم أعهدها في أماكن أخرى، وبكائي لوفاة أحد كان دائماً تعبيراً عن الفقد، لا عن الحزن المطلق ولا خوفاً على من توفى مما يمكن أن يقابله وراء الستار.
وراء ذلك الستار المعتم
بعد وفاة جدتي، وجدتني أجمع كثيراً من أغراضها، وألبوم صورها الذي جمع معظم أفراد عائلتها الذين غيب الموت معظمهم، هي، جدي، ابن خالتي، وكثيرين من عائلتها تعرفت عليهم بعد وفاتها. وجدتني أدقق أكثر مما أدقق في العينين، في تلك العيون الداكنة، والنظرات العميقة. كانت أغلب الصور دون ابتسامات، وكأن الابتسامة تفقدهم الرسالة التي جاؤوا ليبلغوا بها. لطالما شعرت أن تلك النظرة الجادة هي نتيجة وجودهم خلف الستار المعتم، ولم تكن الأصل في الصورة. نظرة جادة، ولكن بها ألفة. أشهر بها تعبر عدسة الكاميرا وتصل لي بعد سنوات وسنوات من التقاطها.
لكن جدتي زارتني في أحلامي، وغيرها ممن عبروا الستار المعتم في حياتي وكانت بيننا ذكريات. جاءتني بأحلامي أكثر من مرة، ودائماً كان الحلم متشابهاً، أنني الوحيدة التي أصدق أنها لا تزال على قيد الحياة
لم يزرني جدي بأحلامي، ولا ابن خالتي. ربما لأن رثاءهم كان شيئاً غريباً، فلا ذكريات بيننا لأنعيها. بكاؤهم كان بكاءً لفكرة الموت نفسه الذي لم أشعر بوحشة حقيقية وأنا أواجهه. لكن جدتي زارتني في أحلامي، وغيرها ممن عبروا الستار المعتم في حياتي وكانت بيننا ذكريات. جاءتني بأحلامي أكثر من مرة، ودائماً كان الحلم متشابهاً، أنني الوحيدة التي أصدق أنها لا تزال على قيد الحياة، بينما يرتدي الجميع الأسود في عزائها، وما تلبث أن تظهر في الحلم لتثبت للجميع أنني كنت على صواب. بعد أن بكيتها، بعد أن نعيت ذكرياتنا، ومنزلها، بعد أن أدركت لأول مرة أنها لم تعد موجودة في مكان ما آخر، على هذه الضفة من العالم، أدركت أنها لم تعد تأتي في أحلامي، ورأيتها بوضوح لأول مرة على الضفة الأخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com