تغريبتي والشيب.. عجّزت يا أبنودي!

تغريبتي والشيب.. عجّزت يا أبنودي!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 16 مايو 202504:37 م

"والله وشبت يا عبد الرُّحمان...

عجّزت يا واد؟

مُسْرَعْ؟

ميتى وكيف؟

عاد اللي يعجّز في بلاده

غير اللي يعجز ضيف!!".

قبل أيام، أمام المرآة، لاحظت الشيب على جانب رأسي يتزايد. يغزو شعري كقائد يجرّ وراءه مقاتلين مؤمنين به دون بصر ولا بصيرة، واستغلّت ذاكرتي الفرصة وجاءت الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وقصيدته "يامنة"، وسمعتها بصوته بأذنيّ: "عاد اللي يعجّز في بلاده… غير اللي يعجّز ضيف!".

"يامنة"... يبدو للّحظة الأولى الاسم المؤنث ليامن، اسمي، وربما عكسي في كلّ شيء، إلا التغريبة التي تحدّث عنها الأبنودي في قصيدته، حين توفي كل من حولها تقريباً بما في ذلك بناتها.

لست عجوزاً، ما زلت في الثلاثينات من عمري، لكنني كنت ضيفاً دائماً مذ كنت طفلاً وغريباً ومتغرباً عن كل ما يُفترض ألا أغتربَ عنه.

الشيب ليس سوى مرآة للمواجهة الأولى مع الزمن... وما خلّفه من ندوبٍ في الروح

ظهرت جدّتي بجانبي وهي تردد أبيات القصيدة "شبت يا يامن؟!"، ثم سألت مستغربةً ومتعجبةً: "متى يا ولدي؟ ما زلت طفلاً!".

قبل أعوام، زارتني جدّتي في منامي خلال قيلولة في وقت العصر، قالت لي حينها إنني تأخرت، وعدتُها بالعودة واعتذرت منها عن الغياب الطويل (لم نلتقِ منذ 2011)، بعد ساعات من هذا المنام جاء خبر وفاتها، وكما أنّ الأبنودي ذهب في النهاية لاحتساء الشاي ولم يجد عمّته، أنا كذلك، لم أستطع رؤيتها لسنوات قبل وفاتها، ولحظة معرفتي بالخبر كأنني كنت واقفاً على قاسيون ودمّرت دمشق كلها مرةً واحدةً وبات كلّ ما فيها على الأرض في الثانية ذاتها.

هي التغريبة، تغريبتي. في مثل هذه الأيام قبل عام، وصلت إلى فرنسا بعد سنوات طويلة في تركيا، حيث عشر سنوات وبضعة أشهر، سبقتها خمس سنوات في القاهرة، وسنوات في السعودية. قلّة هي سنوات معيشتي في دمشق، خرجت منها طفلاً، واليوم أنا رجل عزب وأبٌ لطفلة وصحافي ومخرج، وسط تغريبةٍ طويلةٍ طويلة حتى زارني الشيب!

انتماءات كاذبة

قبل عام وبضعة أشهر وصلت إلى فرنسا مغادراً إسطنبول التي منحتني انتماءً كاذباً، هبطت الطائرة، مطار متواضع وصغير، سلّمت أوراق لجوئي للمسؤول عنها، ابتسم! ابتسم وشعرت بالدهشة. في كلّ تغريبتي، هذه هي المرة الأولى التي يبتسم فيها ضابط مطار، في وجهي، وتمرّ الأمور بسلاسة.

غادرت إسطنبول، وحين حطّت رحالي في فرنسا، ابتسم لي ضابط المطار؛ كانت تلك المرّة الأولى التي أرى فيها موظف أمن لا يعبس في وجهي

قبلها بساعتين وبضع دقائق، كان ضابط المطار في إسطنبول يبتسم ساخراً: دفعت المخالفة لكنك لن تعود إلى هنا، سنمنعك من الدخول لخمس سنوات برغم الدفع، وسأفعل ما في وسعي لأجعلها عشرةً! وما دفعته وعائلتك لن يكون سوى مكافأة لعملنا في المطار! 

لم أستغرب، فهو لن يقلّ قسوةً عن المدينة، ولا تطرفاً.

في الطريق، بعد خروجي من المطار الأوروبي، تمتدّ الأشجار والحقول على طرفي الطريق، قرى صغيرة كما تلك التي كنا نراها في مسلسلات الأطفال، لكنها لم تكن مبهرةً، في إسطنبول ما يشبهها.

في كانون الأول/ ديسمبر 2013، حطّت طائرتي قادمةً من القاهرة في إسطنبول، كانت الثلوج تغمر المدينة، مع وعد ينتظرني بمغامرة لا تُنسى، كانت الوجهة الأولى ساحة تقسيم، قطعت الساحة مع حقيبتي متعثراً وسط بياض يعمي الأبصار، أبيض، كما الشيب في شعري.

في إسطنبول، من السهولة أن تشعر بأنّك في دمشق أو في حلب، يمكنك أن تطلب بعض الحنان من المدينة، وستنظر في طلبك، أن تجلس في "السليمانية" و"تحسّ إنك بالشام، بنص الشام"، وتشكو همومك وألمك، أن تتجول في الشوارع وحيداً ويداعب وجهك المطر والريح، وتجد عاشقين ينفصلان بحزن، وقطة تحاول منعهما. في الـ"غراند بازار" هناك ستكون في الحميدية وسط دمشق، أستطيع تخيّل جدّي الذي لم أعرفه يمشي هناك ويقولون له "هوش غالدينيز"، مئة عام فقط تفصل بيني وبينه، تعدك المدينة بالكثير لكنها مخادعة وكاذبة ومتطرفة.

حكاية مدينتين

في فرنسا هنا، قرب قصر ماري أنطوانيت المطلّ على النهر، مشيت، الحياة باردة ورتيبة ومنظمة لدرجة الملل، لكنها آمنة. على الأقل، يختفي القلق هنا، ممَّ سأخاف؟ لا شرطيّ سيطرق الباب ليسألني عن أوراقي كما فعلت إسطنبول، الشمس حارقة في الصيف والبرد قاس في الشتاء، عملية إتمام الأوراق تتم ببطء، وكأنها تكمل القطعة الناقصة في تغريبتي، الملل.

غادرت سوريا للمرة الأولى وعمري 40 يوماً، وعدت في عمر الخامسة، تخللتها زيارات هنا وهناك لظروف المرض والعلاج، إلى تركيا وفرنسا وإيطاليا دون طائل، ثم المغادرة في عمر الثانية عشرة.

تعصف بي الذكريات هنا، عشر سنوات طويلة جداً يا إسطنبول، تشكّل قرابة ثلث عمري، لم أتأقلم هنا بعد، الطريق طويل، أمشي كثيراً، أنظر إلى الحجارة الراصفة للطريق قرب القصر، الكثير من البارات، محل لبيع الشاي يقفون أمامه في طابور يمتدّ إلى الصين، وكأنّ الملكة إليزابيث في الداخل! 

لا سوريا صغرى هنا، تحاصرني الذكريات مجدداً، المكان غريب عليّ لا أفهمه ولا يفهمني، قد تنظر إليّ حجارة سور إسطنبول بحنان أكثر مما يفعل قندس قرب النهر الذي يقطع المدينة إلى نصفَين.

وسط موجات الذكريات والظروف الصعبة التي مررت بها هنا طوال أشهر، والقسوة التي أظهرها من ظننت أنهم من أيقونات الحياة، يأتي الصوت من بعيد: "سوريا بلا بشار الأسد"! 

في فرنسا، قد لا يكنّ لك الموظفون الحكوميون ودّاً، لكن الواجب عندهم أقوى من الوّد

يا إلهي ماذا أسمع! كيف؟ لا يمكن! هناك معجزة ما تحققت، أرواح الضحايا تتحلّق حولي محتفلةً، تنهمر دموعي كبردى أيام العزّ، لا أصدّق، أرسل الرسائل إلى دمشق، مدينتي الصغيرة التي لا تعرفني، أسأل عن الأخبار، تنتشر المقاطع المصوّرة كالنار في الهشيم "يا أهل الحارة… يا أهل الحارة، هرب بشار!". أشاهد المقطع مئات المرّات، ولا أصدّق، أعود للبكاء، أظن للحظةٍ أنّ عليّ حزم الحقائب والطلب من صديقي في إسطنبول إرسال كتبي إلى دمشق بدلاً من ستراسبورغ، التغريبة ستنتهي، لم تعد لديّ حجة، أستطيع الآن أن أذهب إليها راكعاً وخاشعاً وشاكياً ما فعلته بي المدن الأخرى وأطالب بثأري من القاهرة التي قهرتني وإسطنبول التي خدعتني وستراسبورغ التي لا تفهمني.

أركب المواصلات منتشياً، أرى تفاصيل أخرى عمّا اعتدته، الناس لطفاء ويبتسمون! الموظفون الحكوميون قد لا يحبّونك لكنهم سيفعلون واجبهم برغم ذلك، هناك مستقبل علميّ لابنتي، ما زلت هنا آمناً حتى اللحظة وأعتقد أنني سأبقى كذلك وابنتي ستحصل على ما تستحق من عناية في التعليم والصحة. الآن أقول: إن متّ غداً، لن أخاف عليها بالدرجة نفسها التي كنت فيها خائفاً قبل ذلك.

تختلف الحياة في فرنسا عن إسطنبول، في ستراسبورغ تحديداً، المدينة هادئة وجميلة، الملل يسود الأجواء بالنسبة لمن جاء حديثاً، كل شيء بموعد، الكثير من الأوراق التي تحتاج إلى مساعد شخصي لتنظيمها، أقول ذلك للموظف فيضحك، وأكمل: حافظوا على البيئة وكفى إنتاجاً للورق وقطعاً للأشجار! فيسكت ويهزّ رأسه موافقاً.

الحرّية لا تكفي

هناك مسارات كاملة للدراجات هنا، يمكنك أن تذهب على الدراجة من شرق المدينة إلى غربها دون قلق. أصطحب ابنتي في جولات يومية وسط الطبيعة، وأتعجّب: ما هذا الجمال كلّه؟ متى نظّمتم كلّ ذلك؟ بلادي أجمل؟ ربما لا نملك برج إيفل ولا بيت داليدا ولا مولان روج حيث تصورت مارلين مونرو صورتها الجميلة، لكننا نملك الكثير من تفاصيل الحياة.

الحياة رتيبة هنا، لكن هناك فرصاً لكل شيء، يمكنك أن تكون ما تشاء وتفعل ما تشاء، هناك مناخ من الحرية التي لست مضطراً إلى انتزاعها في كلّ مرة.

لكن الحرية لا تكفي لإنهاء التغريبة التي اكتشفت لاحقاً أنها ربما ليست كذلك، هي رحلة طويلة فحسب ضمن محطات قطار الحياة، الذي قرر الوقوف في ستراسبورغ هذه المرة، التي لن تكذب ولن تتجمل ولن تخدع كما فعلت إسطنبول، التي وعدت لسنوات طويلة بالحب والدفء ثم نزّ قيح كذبها وطردتني من جنّتها الموعودة كما ستفعل مع كثيرين غيري.

ماذا يعني أن أنتظر أكثر لأحصل على أوراقي في مقابل ألا يزورني القلق؟ وماذا يعني أن تتأخر أوراقي قليلاً، وأنا أمارس حرّيتي كإنسان كامل؟ لا شيء، ثمن بخس، ولن أمشي وراء عاطفة خرقاء لتمنعني من حب المدينة.

بعد أشهر من سقوط الأسد، وفي الظروف الراهنة، أعرف أنّ التغريبة ستستمر، إن عشت في إسطنبول أو القاهرة أو ستراسبورغ وحتى لو عدت إلى دمشق، التغريبة ذاتها وأنا تعبت من القتال!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image