هو مشوار واحد يستغرق اجتيازه 90 دقيقة مشياً، ولكن هذه الدقائق كافية لتنقلك من حياة إلى أخرى ، ومن عالم إلى آخر.
هناك، في الدائرة التاسعة عشرة ، وتحديداَ منطقة porte Clignancourt، لا شيء يعطيك الانطباع بأنك في دولة من دول العالم المتقدم. ويصعب عليك أن تصدق أنك ما زلت في باريس، مدينة الأضواء والحب والموضة.
هناك حيث لا مجال لأي مظهر من مظاهر الحضارة في الشوارع أم في الأبنية أو حتى في السلوك، الحب هو ترف لا أظنه متاح للجميع. وأما الموضة فحدًث ولا حرج، فهي هنا عالم مستقل، يستوحي أزياءه من طبيعة المكان وقاطنيه ، ولا علاقة له بتغير الفصول والحرارة، فهو زيٌ واحد صيفاَ وشتاءً ، ويصلح إن شئتم أيضاً لقضاء الليل والنهار ، فكما تعلمون : للضرورة أحكام.
إن أردت الذهاب بالمترو، فليس عليك الانتباه ومعرفة في أي محطة أنت، يكفي أن ترى من حولك اختلاف الوجوه والأمكنة والألوان. فهناك محطات المترو ليست كبقية المحطات في باريس، لا إعلانات فيها ولا ملصقات تجارية على الجدران، لأن الجدران هي حجارة بدون دهان. أعمال الصيانة قد بدأت منذ دهر ولم تنته بعد، ويصعب عليك معرفة إن كانت ستنتهي أصلاَ أم أنها من أصل المكان.
تخرج من المترو لتطالعك وجوه رجال كالحة من الصعب تحديدها بسنين عمر، فهي نتاج عذاب وشقاء ومعاناة أعمار متواصلة، شباب يعرضون عليك أن تشتري بطاقة مترو بالسوق السوداء، نعم حتى بطاقة واحدة لها سوقها السوداء.
إن أردت أن تتعلم أو تسمع اللغة الفرنسية، فلا يُنصح بالذهاب إلى هناك ، لأنك من الممكن أن تسمع كل اللغات الأفريقية والعربية والشرق أسيوية ، ما عدا اللغة الفرنسية.
إن رغبت بالكلام ولم يكن معك من تكلمه، فلا تخجل من الكلام مع نفسك وحتى بصوت عال، فهذا شيء متعارف عليه هناك، والكل يمشي ويحدث نفسه، سواء أكان يبث همه لربه أو يروي أخباره لنفسه ويتجادل معها بحثاَ عن حل لمشكلة ما.
عليك الانتباه وأنت تمشي على الرصيف، لا لكثرة المقاهي المنتشرة على الأرصفة كباقي دوائر العاصمة الفرنسية ، وإنما لكثرة قاطنيها، فعليها يقضون لياليهم على فرشة بالية، ومن كان محظوظاً ينام تحت خيمة صغيرة تتسع لشخص واحد، وما أكثر هذه الخيمات على الأرصفة حيث أيضاً يتناولون وجباتهم إن تيسر لهم وجبة يومياً.
تكثر في تلك المنطقة مخازن بيع الشعر المستعار، لا أدري لماذا، ربما هناك مقولة إنه من غيّر شعره ووضع شعراَ مستعاراَ قد يخطئه قدره المكتوب ولا يعرفه فيتغير نصيبه وتتغير معه أيامه ولمَ لا حياته كلها.
تمشي في Barbès وتنسى حنينك إلى بلدك، فكأنك تمشي في السوق المسقوفة في حمص أو حي الصالحية في دمشق حيث تنوء الواجهات بثقل معروضاتها من أثواب مطرزة وملونة بكل ألوان الحياة والحب والفرح، ومعها الأحذية ذات اللون نفسه وذات الكعب العالي الذي يضمن لكي سيدتي الارتقاء عالياً حيث الحياة الجميلة. ولا تستغرب إن وجدت مع الثوب الأحمر عوداَ موسيقياَ، نعم أليست الموسيقى من مقومات الإغراء؟
إن كنت رجلاَ، فيجب أن تتوقع وأنت تمشي أن يقترب منك أحدهم ويخرج من جيبه بكل خفة آيفون من أحدث الموديلات ليبيعك إياه بأرخص الأسعار. أما أنتِ، سيدتي، فسيقترب منك نفس الرجل ويخرج من جيبه الثاني زجاجة عطر شانيل 5 ويبيعك إياها على أنها الأصلية.
عندما تدخل من أحد أبواب باريس السبعين, فإنك تدخل عالماً مختلفاً وحياة جديدة. وهكذا عندما تدخل باريس من باب Clignancourt فسيدهشك أن كل أسماء المخازن تنتهي بكلمة حلال، بدءاً من اللحمة والدجاج، مروراً بالخضر، انتهاءً إلى الأزياء.
بعد عدة دقائق من المشي، فجأة تنتقل من مخازن الحلال إلى مخازن المتعة، لتعرف أنك وصلت لساحة " بيغال" حيث المخازن التي تبيعك المتعة الجنسية وأدواتها، وعليك بأن تقنع نفسك أنك ما زلت في الحلال.
يكفي أن تمشي نحو الجنوب بضع دقائق، لتنتقل إلى عالم أليس للعجائب، تجتاز الشارع لتحل ضيفاً على شارع الموضة والأزياء المعروف ب Faubourg Saint Honoré.
قد تفاجأ وتتغير عليك الألوان، وخاصة الروائح، ويحق لك أن تقول لنفسك :" ماذا حصل؟ أين أنا؟". لا تجزع فقد دخلت عالم باريس الثاني حيث يختلف كل شيء بدءاً من واجهات المخازن التي بالكاد تعرض شيئاً واحداً، إن كان محفظة يد أو حذاء، ونادراً ما تجد الشيئين معروضين في واجهة واحدة. يحصل كثيراً أن تقف مطولاً أمام واجهة ما وأنت تبحث عن السلعة المعروضة لتجدها معلقة وحدها في الواجهة.
وإن أردت الغوص أكثر وأكثر في عالم التناقضات، فما عليك سوى أن تقطع ساحة الكونكورد وتتجه نحو جادة Montaigne وهنا تدخل فعلاً عالم باريس السحري، وخصوصاً إن صادفك الحظ – أو قلة الحظ، لا أدري – وكان ذلك خلال أسبوع الموضة وعروض أزياء الفصل المقبل.
إلى هنا تتهافت سيدات المجتمعات المخملية أو على حد قول سيدة ما: " السيدات المهمات". لا أعرف أين يكمن مجال أهميتهن. حيث يتمايلن بألوان الفراء المختلفة والنعال الحمراء لأحذيتهن الثمينة.
قد تدهشك هنا- كما هناك - ملامح من تمر أمامك من السيدات، فهن محملات بأكياس، هي ليست بأكياس قاطني الأبواب الأخرى من باريس التي قد تحوي كل ممتلكاتهم الشخصية، وإنما هي أكياس قد تحوي حذاء أو محفظة يد يكفي سعرها لإطعام نصف مخيم.
من يمشي في الشارع هنا لا يشعر بالبرد، وخصوصاَ أولئك السيدات اللواتي يتهافتن على المخازن الباريسية الأنيقة ودور عرض الأزياء، مهما كانت درجات الحرارة منخفضة. لا داعي للدهشة، فمن شأن الأناقة أن تشعرك بالدفء ومن شأن الكعب العالي أن يشعرك، سيدتي، بالراحة الجسدية والنفسية.
إن كانت ليالي قاطني أو زائري الدائرة 16 الباريسية بيضاء من السهر في الحفلات الخاصة والصاخبة وفي الفنادق الفخمة حيث يلتقي مصممو الأزياء المشهورون مع المعجبات بهم والمعجبين، فإن ليالي قاطني وزائري الدائرة 19 الباريسية هي أيضاَ بيضاء مع اختلاف بسيط، هو أنهم يقضون ليلتهم واقفين على الرصيف ليشكلوا الطابور الصباحي لطالبي اللجوء أمام مركز الشرطة المختص.
مدينة واحدة، أبواب مختلفة، كيلومترات قليلة وعدة محطات مترو تكفي لاستيلاد تناقضات لافتة. إن قُدر لك أن تعيشها فما عليك سوى خيارين: إما أن تعجز على تقبلها وتضع نظارات سوداء وترتدي قبعة الإخفاء وتطلب من ربك أن يحملك بعيداً. أو أن تقبلها وتعيشها بملء جوارحك، تبتسم لكل من يمر أمامك وتقول: إنها باريس يا صديقي.
فاِدخلها من أي باب شئت، الطريق واحد والغاية واحدة، ثم ابتسم. إنها الحياة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...