ما أن انتهيت من مشاهدة فيلم "يلّا بابا" للمخرجة اللبنانية أنجي عبيد، حتى انتابتني موجة حزن وحنين كبيرة لوالدي الراحل؛ ليس فقط لأن الفيلم ردني للأوقات التي جمعتني بوالدي وكنا نتحدث خلالها حول أمور حياتية كثيرة، إنما لمرور الفيلم على مدينة كوكبا الواقعة جنوب لبنان، حيث سينتهي الترحال وسيطلب الأب من ابنته شيئاً يشبه الوصية: أن لا تبيع دارهم الموجودة هناك حتى لو احتلتها سوريا أو إسرائيل، لأن جدها بناها بنفسه. هذا العبارة تحديداً وقفت عندها طويلاً، وآلمتني كثيراً؛ فكيف وصلت سوريا لتكون، بنظرة، دولة محتلة في مصاف إسرائيل؟ كيف وُضعنا في ذلك القالب وتلك الخانة؟
أما عن علاقتي بكوكبا التي أتوقع أن معظم الشباب السوري وحتى المخضرمين منهم لا يعرفونها، فهي علاقة فريدة؛ فقد كان لي النصيب الأكبر لزياتها مرات عدة بسبب عمل والدي في السياحة الدينية والحج المسيحي، حيث كنت أرافق الحجاج الأوروبيين في تلك الرحلات الاستكشافية التي تبدأ من سوريا، مروراً بكوكبا أو ما يطلق عليها "عين المسيح". وكانت تلك الرحلات تتابع طريقها نحو القدس، بينما كنت أتوقف بدوري؛ فكانت هناك فلسطين، الحلم الموعود والممنوع زيارته.

وبرغم أن كوكبا لم تذكر في الإنجيل، في حين ذكر جبل حرمون (جبل الله المقدس)، وهو المكان الذي حدث فيه التجلي، إلا أن زيارتها تعتبر مقدسه بالنسبة للحجاج لدرجة كادت تقارب في الأهمية زيارة القديس مار شربل، لأن المسيح، وكما يشير الدكتور نبيل أبو نقول المتخصص في شؤون التاريخ والميثولوجيا والأديان القديمة في كتابه "حرمون، من آدم إلى المسيح، حقائق لم تكشف بعد"، حين وصل لها قادماً من مرجعيون شمالاً، مرّ بتلةٍ تعرف باسم "الهرماس"، فجلس ليرتاح، وحين شعر بالعطش ولم يكن معه الماء، قام بغرز عصاه في الأرض، فخرج من باطنها ماء عذب نقي، فروى عطشه، وباتت تلك العين منذ تلك الواقعة محطّ أنظار الشعوب المؤمنة بالمسيح؛ تزورها بهدف المعالجة من الأمراض التي يعجز الأطباء عن علاجها، فيشربون من مائها ويصلّبون لنبيّها.
الفيلم سيكشف التناقض الكبير بين جيلين؛ جيل كبير مؤمن ومحافظ، يحترم مؤسسة الزواج ووجود رفيق الدرب، ويعتبر الزواج الحلَّ الوحيد والأكيد لكل انسان، وجيل أصغر نسبياً، يرى الحياة بمنظور مختلف تماماً، فرفيق الدرب لا يحتاج وجوده لرباط مقدس، بل إنه لا يجد ضرورة أو حتى أهمية فيه لاستمرار الحياة
وبالعودة إلى الفيلم ومخرجته أنجي عبيد، فقد انتقلت للعيش في بلجيكا منذ سنوات، رغبة منها في الحصول على حياة مستقلة، بعيداً عن عائلتها التي تبدو مؤمنه ومحافظة، وعاشت في بروكسل، وسكنت برفقة قطها الذي اعتبره والدها حفيده، كنوع من المداعبة الساخرة.
تدور أحداث الفيلم بشكل مختصر حول عبيد ووالدها منصور، الذي سبق له أن قام برحلة طويلة برفقة الأصدقاء، انتقل خلالها من بروكسل، مروراً بجزء كبير من أوروبا، ومنها لتركيا فسوريا، وصولاً إلى لبنان، فتُقرر بدورها أن تعيد تلك التجربة برفقته، فتقوم باستقباله لأيام في بروكسل لتبدأ بعدها رحلتهما.

قد تبدو رحلة عبيد برفقة والدها، والتي استغرقت قرابة 30 يوماً، مجرد رحلة عائلية لا تستحق التسجيل، لكن التفاصيل الصغيرة والسريعة، إضافة إلى الحوارات التي ستسجلها الكاميرا أثناء تلك الرحلة، ستبدو هامة جداً، وستحمل الكثير من الرمزية، بداية من الألم الذي يعيشه الأهل في ظل غياب أبنائهم عنهم دون سبب مقنع من قبلهم؛ فمثلاً عبيد لم تكن تعيش في بروكسل بسبب الدراسة ولا حتى بسبب الارتباط أو العائلة، بل إنها اختارت ذلك فقط لتبتعد عن عائلتها، برغم أنها شعرت، في وقت ما، بالخوف من فقدانهم، تحديداً مع أزمة كورونا.
ليس هذا فحسب، بل إن الفيلم سيكشف التناقض الكبير بين جيلين؛ جيل كبير مؤمن ومحافظ، يحترم مؤسسة الزواج ووجود رفيق الدرب، ويعتبر الزواج الحلَّ الوحيد والأكيد لكل انسان، وجيل أصغر نسبياً، يرى الحياة بمنظور مختلف تماماً، فرفيق الدرب لا يحتاج وجوده لرباط مقدس، بل إنه لا يجد ضرورة أو حتى أهمية فيه لاستمرار الحياة.

هذا من جانب شخصي ذاتي، أما من جانب عام وأكثر شموليةً، فيكشف الفيلم، عبر تلك الرحلة، الفرقَ الشاسع ما بين أوروبا وآسيا، بحيث كان يكفي الوقوف لدقائق عند النقاط الحدودية في أوروبا ليعبر والدها الطريق ولينتقل بكل سلاسة من بلد إلى آخر، حتى دون أن يغادر مقعد السيارة، فقط لأنه يحمل فيزا شنغن/الاتحاد الأوروبي، ولكن، بدءاً من نقطة الفصل في تركيا ودخول القسم الآسيوي منها، سيتحول الطريق إلى ضيق وصعب. وحتى في عدم انتظامه، كان الفرق بادياً تماماً، مقارنةً بالشقّ الأوروبي، إلى أن وصلوا للعبارة التي ستنقلهم إلى مرفأ لبنان، حيث الطريق إلى بلدة كوكبا، المعروفة بأشجار الزيتون التي يميزها أصحابها بعلامات فارقة.
ينتهي الفيلم بسؤال المخرجة لوالدها: هل تشعر أنك حزين لأننا عدنا؟ لكن الأب لا يعرف بماذا يجيب؛ فلبنان، صحيح أنه لا يؤمّن الراحةَ النفسية له، ولكنه يبقى الوطن، لذلك لا يمكن مغادرته كجزء من الانتماء، فالوطن، بالنسبة له، شبيه بالعائلة التي يجب أن نتعلق بها حتى وإن كانت سيئة
هنا يبدأ الكلام حول الوطن الذي يدفع بأبنائه لمغادرته، فالأب الذي كان يتمنى استقرار ابنته بقربه في لبنان سيتحدث معها عن الشباب الذين يضحون بحياتهم ويتعرضون للموت بركوب القوارب سعياً منهم لمغادرة بلادهم، لأنها الطريقة الوحيدة لنجاتهم.
وينتهي الفيلم بسؤال المخرجة لوالدها: هل تشعر أنك حزين لأننا عدنا؟ لكن الأب لا يعرف بماذا يجيب؛ فلبنان، صحيح أنه لا يؤمّن الراحةَ النفسية له، ولكنه يبقى الوطن، لذلك لا يمكن مغادرته كجزء من الانتماء، فالوطن، بالنسبة له، شبيه بالعائلة التي يجب أن نتعلق بها حتى وإن كانت سيئة.

استغرق إنتاج فيلم "يلّا بابا" على بساطته ما يقارب الأربع سنوات، لأن الرحلة بحد ذاتها كانت مكلفة جداً، إضافة إلى المونتاج الذي اعتبرته المخرجة أصعب مهمة، لأنها ستفاضل وتختار بين الحوارات والمواقف الأنسب للفيلم، وذلك تطلب منها الكثير من الوقت والجهد، وكانت عبيد قد حصلت في العام 2019 على منحة من مؤسسة "آفاق" لإنتاجه، ثم لاحقاً على تمويل من شركة "سافاج فيلم" البلجيكية، وعلى شراكة من الجزيرة الوثائقية، وبدأت بتصويره في العام 2022، ما استغرق 30 يوماً، قطعت خلالها نحو أربعة آلاف كيلومتر بالسيارة اختصرتها سينمائياً بـ100 دقيقة سينمائية.
أما أول عرض للفيلم فكان في أكتوبر العام الماضي 2024 في مهرجان بروكسل، كما عرض في لبنان ضمن "مهرجان بيروت لسينما المرأة"، وحصل على جائزة هناك، وهو حالياً أحد أهم الأفلام الوثائقية المشاركة في مسابقة النقاد العرب في مهرجان كان السينمائي الدولي في فرنسا، والتي ستعلن نتائجها قريباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاتمحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا
Aisha Bushra -
منذ يومA nice article,I loved it..
رزان عبدالله -
منذ 4 أيامشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ 5 أيامترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!
Naci Georgopoulos -
منذ 5 أيامOrangeofferis a convenient platform for finding the latest promo...
Naci Georgopoulos -
منذ 5 أيامgutscheine7.de is a German coupon platform that helps users discover...