شهد المجتمع المصري، قبل أيام، فاجعةً مأساويةً بعد انتشار أنباء عن اعتداء مُسنّ على الطفل "ياسين"، الذي لم يتجاوز الخامسة من عُمره داخل المدرسة.
هذه الفاجعة ذكّرت المصريين بمأساة أخرى كانوا أكثر اصطفافاً حولها، وتتمثل في الطفل "يوسف"، بطل مسلسل "لام شمسية"، الذي تعرّض للتحرش على يدَي مُدرِّسه، فنالَ تعاطفاً كبيراً من الجميع بلا شوائب تعكّر المشهد.
الحشد حول "ياسين" كان مختلفاً عن الحشد حول "يوسف"؛ لم يدُم لوقت طويل، وعرفت الانشقاقات صفوفه مبكراً، بعكس ما جرى مع "يوسف" الذي تعاطف معه الجميع طوال 15 يوماً، هي مدة عرض حلقات المسلسل، وما خلّفته من توابع جعلت يوسف محط الانتباه والشفقة لأيام طويلة حتى بعد الانتهاء من العمل.
على النقيض تماماً، واجه "ياسين"، رأياً عاماً مضاداً تمثّل في محاولات مستميتة لشيطنته وتكذيبه وإنكار رواية أسرته والتعاطف مع الجاني باعتبار أنه يُواجه اتهامات مُدبّرةً ضده، برغم صدور حُكم قضائي بالإدانة من أول جلسة في المحكمة.
فلماذا وقعت هذه الظاهرة اللافتة للنظر؟ وكيف نتعاطف مع المأساة في التلفزيون أكثر مما نفعل في الحقيقة؟
"لام شمسية"… الدراما تفوز دائماً
يقول المخرج الأمريكي الإيطالي فرانك كابرا، إنّ الدراما الحقيقية لا تحدث عندما يبكي الممثلون، وإنما عندما يبكي الجمهور. ولكي تتحقق المهمة المقدّسة -بكاء الجمهور- يجب أن تحتشد كل الأسلحة الفنية معاً، بما يحقق هذا الغرض، وهو المفهوم الذي عبّرت عنه المخرجة الفرنسية ياسمينا رضا، ذات يوم، بشكل غير مباشر حينما وصفت المسرح بأنه "انعكاس حاد للمجتمع"، بينما ذهب الشاعر الألماني برتولت بريشت، إلى أبعد من ذلك بمفهومه للتأثير الأمثل للدراما بقوله: "الفن ليس مرآةً تعكس الواقع، بل مطرقة تشكّله".
على الخطى ذاتها، فإنّ المسلسل كي يطرق بحزم على رأس المجتمع، ويحقق الغرض من صناعته، فإنّ صنّاعه يخلقون أفضل الأجواء لإجبار المتابع على التعاطف مع الضحية فوراً؛ فالطفل عادةً ما سيظهر وسيماً أنيقاً مهذّباً مطيعاً لوالديه يعيش حياةً جميلةً وهادئةً، حتى يباغته المتحرّش ويفسد كل شيء بشهوته التي لا ترحم أحداً.
يقدم مسلسل "لام شمسية" نموذجاً مثالياً للضحية المهيّأة لاستدرار التعاطف؛ طفل وسيم، مهذب، من أسرة محبة، يُصدم بعنف خارق للمنطق. هذه التركيبة المثالية تخلق تعاطفاً نقياً بلا ضجيج، على عكس الواقع المليء بالضباب والأسئلة، كما في حالة "ياسين"
على الجانب الآخر، سيظهر البطل وغداً شريراً معتلّاً مغضوباً عليه حتى من أهل بيته، وسنكرهه طوال الأحداث، وسنظلُّ طوال الحلقات نلعن اليوم الذي وُلد فيه، ونتمنّى الإيقاع به بأيّ شكل.
بجانب ذلك، فإنّ اللمسات الدرامية تلعب دوراً لا شك فيه في إضافة عوامل الجذب إلى المشهد، فالحدث الذي نراه بشكلٍ بطيء، مُصوّر بأدق التفاصيل بواسطة كاميرا حديثة جيدة الإضاءة وسط موسيقى تراجيدية متصاعدة تضمن تعاطفاً مؤكداً قد لا يحدث مع الحدث ذاته لو وقع في الطبيعة أمام أعيننا، أو لو شاهدناه عبر كاميرا مراقبة سيئة الجودة بلا أي مؤثرات.
وهذا مما يفسّر قُدرة الدراما على مباغتة المجتمع وإجباره على حل مشكلاته المستعصية حتى لو لم يرِد ذلك، فالقوانين الجائرة التي ارتضاها لسنوات وخلّفت آلافاً من النساء ضحايا قواعد الأحوال الشخصية، لم تتغيّر إلا بعد تسليط الضوء عليها بواسطة أعمال فنية، بدءاً من فيلم "أريد حلّاً"، وحتى مسلسل "تحت الوصاية".
الشيطان يقف وحيداً
في المسلسل، تُنسج الخيوط جيداً ليكون الحصار كاملاً حول الشخص الذي يستحقُّ أن تُلقى السهام حوله، كي ينال نصيبه من اللعنات كاملاً بلا شريك، ودون أن يزاحمه في دائرة الضوء الأسود أحد، وتالياً يكون التركيز ومن ثم السبّ واللعن كاملةً عليه.
أما في الواقع، فعادةً ما تكون هناك الكثير من الأسئلة بلا إجابات، وستظلُّ كذلك، ما يفتح أبواب الشيطان على وسعيها ليصعد على قائمة الاتهامات آخرون.
مثلاً، إذا استرجعنا قضية نيرة أشرف، طالبة كلية الآداب في جامعة المنصورة التي قتلها زميلها أمام بوابة الجامعة، بعدما رفضت الانخراط معه في علاقة عاطفية… إذا تخيّلنا أنّ مسلسلاً تلفزيونياً سيعرض تلك المأساة، فإنه سيُقدّمها بلا شوائب؛ فتاة بريئة راحت حياتها ذبحاً على يدي عاشق مجنون.
لكن في مقصلة الحياة والحقيقة كان الوضع مُختلفاً؛ اتهامات باطلة متناثرة يميناً ويساراً بأنّ الفتاة كانت مُلحدةً، وأنها تستحقُّ مصيرها الدامي، بل إن بعضهم تمادى وصنّف قاتلها شهيداً، وجعل أهلها مسؤولين عن تلك الجريمة.
حين تكون المأساة قريبة وشخصية مثل حادثة "ياسين"، يختار المجتمع تجاهلها للهروب من الهلع الذي قد يولّده شعور الاحتمالية. بينما تمنحنا الدراما مساحة آمنة للتعاطف، لذا فالأسهل إنكار الواقع حفاظاً على وهم الأمان الشخصي.
أفكار خوارقية مثل محاولة إقناعنا بأنّ أسرة أي إنسان مسؤولة عن إلحاق الأذى بأحد أفرادها، تكررت على نطاقٍ أوسع في قضية "صبي البحيرة"، بعدما توزعت الاتهامات على المُجرم الآثم، وعلى مديرة المدرسة وإحدى العاملات فيها، بل حاول البعض مدَّ الرقعة لتطال مُحافِظة البحيرة، والكنيسة الراعية للمدرسة، ورؤوساءها انتهاءً بالبابا تواضروس نفسه، لتخرج المأساة من شقّها الجنائي إلى شقِّ طائفي لا يحتمله هذا النوع من القضايا، فآخر شيء يعني المجرم لحظة تورطه في مثل هذه البشائع هو دينه، ولنا في تورّط إمام مسجد طلخا بالتعدي على فتاة -قبل 4 أعوام- خلال ترددها عليه لحفظ القرآن، خير مثال.
في حمى المعارك الطائفية والسياسية الكبرى التي تظهر على هامش الموضوع، يتّسع هذا الهامش ليبتلع أجزاء من الحقيقة لدرجة أنه ينتزع الاهتمام من الضحية وتُصبح مأساتها هي الهامش في بعض الأحيان، فتضيع القضية الصغيرة المهمة في رحاب القضايا الأكبر التي لا أمل في حلّها أبداً.
في النهاية، يزيد هذا التشرذم من معاناة الضحية التي لم تعد البؤرة الوحيدة لمأساتها كما ينبغي، وإنما زاحمتها فيها مشكلات أخرى جدلية لن تنتهي وفتحت أبواب النقاشات والعراك لآفاقٍ أخرى بعيدة تماماً عن القضية وأكثر مدعاةً للاهتمام من الناس لأوقاتٍ أطوال.
كل ذلك الدخان الأسود حقق هدفه السامّ؛ عكّر المشهد وأفسد الوضع المثالي الذي عادةً ما لا نطالعه إلا أمام الكاميرات.
ما لا تفضّله الخوارزميات
بحسب تلك الدراسة التي أُعدّت في منتصف العام الماضي، فإنّ خوارزميات التواصل الاجتماعي تجتهد لمنح المستخدمين محتويات تُلبّي طموحاتهم ولا تغضبهم، بعبارة أخرى تجعلهم يعيشون في "فقاعة" من الآراء المؤيدة لما يعتقدون، حتى تضمن زيادة أوقات التصفح ونجاحاً في تسويق المنتجات التي تعرض إعلاناتها عبر الصفحة.
هذا الأمر يجعل المستخدمين فريسةً سهلةً للتطرف السياسي، والعُزلة عن باقي المجتمع الذي حُجبت عنهم آراؤه ومشكلاته.
من واقع هذه الدراسة، فإنّ الخوارزميات تميل إلى اختيار المحتوى "الممتع" و"الجذاب" لخدمة المصالح التجارية للشركات المالكة، على حساب القضايا المعقدة وغير السارّة، مثل تغيّر المناخ وموت المهاجرين في البحر والمشرّدين، ببساطة لأنها ليست عاطفيةً ولا ممتعة ولن تستفيد مواقع التواصل شيئاً من تأجيج التفاعل حولها.
هذا التوجيه بالغ الخطورة لا يقتصر على منْح المستخدمين معلومات متقطعةً، بل قد يقودهم إلى ما أسمته الدراسة "لامبالاة تجاه قضايا معيّنة".
وهو ما ينطبق على متزامنة "ياسين/ يوسف"، بامتياز. فإن لم تكن من المهتمين بمثل هذه القضايا، من الممكن جداً أن تظلَّ صفحتك الرئيسية على فيسبوك أو إنستغرام، مخمليةً لا تنقل لك إلا آخر أخبار قطة جارك وطفلة أختك الكبرى. أما المحاكمة وتوابعها بتفاصيلها كافة، فما لم تُظهر بنفسك اهتماماً بها فقد لا يصلك نبأها أو في أفضل الأحوال لا تُحاصرك طوال اليوم وتُجبرك على التتبع والتعاطف.
بمعنى أكثر وضوحاً، فإنّ لفيديوهات يوسف الدرامية ذات الموسيقى المشوقة والتصوير المميز، فرصاً أكبر في الرواج أكثر من أخبار قضية ياسين التي عادةً ما تكون معلومات قضائيةً جافةً، وتفاصيل صادمةً يأنف كثيرون من التفاعل معها.
خوارزميات التواصل الاجتماعي تحجب القضايا الصادمة وغير "الممتعة"، وتدفع المستخدمين إلى العيش في فقاعة من المحتوى المسلّي والمتفق مع قناعاتهم، ما يخلق عزلةً عاطفية عن المآسي الحقيقية، ويقلل فرص التعاطف أو الغضب الجماعي حول ضحايا الواقع مثل "ياسين"
وهذا ما أثبتته هذه الدراسة التي وثّقت كيف أنه في أعقاب مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد، عام 2020، فإنّ الحملات على "تويتر" سابقاً، إكس حالياً، أظهرت اهتماماً بالجانب السياسي للقضية (المعركة بين السود والبيض)، أكثر من الاهتمام بجوانب القضية نفسها، وهو ما يقودنا إلى ما جرى من محاولات لإضفاء طابع طائفي على الواقعة.
لحظات كسر الحاجز
يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، إنّ الفنّ الجميل يمنحنا القدرة على الارتفاع فوق الإرادة، فوق الرغبات والهموم، لذا فإنه بطريقةٍ ما يستطيع تحريرنا من أنفسنا بكل مشكلاتها وقيودها وعثراتها.
بشكلٍ عام، هناك عقد ضمنيّ يجمعنا دائماً بكل ما نراه على الشاشات، هو أننا بعيدون تماماً عن هذا الأمر، وبرغم ما نشاهده فيها من قسوة وأكشن وغدر وخيانة إلا أنها مجرد حكايات للعبرة والعظة وليست واقعاً.
لهذا يُقبل الملايين على مشاهدة أجزاء "Saw" و"Scream"، برغم أطنان الدماء والرعب التي تملأ مشاهدها، لأنها تجعلنا نخوض مغامرةً غير مسبوقة ترفع مستويات الأدرينالين إلى ذروتها حتى نصل إلى كلمة النهاية بالقضاء على البطل الشرير، فنخرج جميعاً سعداء بالنجاة، وبأنّ العالم بات أكثر أماناً بعد التخلّص من كتلة الشرّ ذي الحواجب السميكة.
أما الحقيقة، فعكس ذلك!
الحوادث الحقيقية المفجعة -مثل واقعة البحيرة- هي بمثابة إنذار صاعق بالخطر، صفعة نتلقاها جميعاً بلا رحمة، كوب ماء بارد كالثلج نفاجأ به يُسكب على رقابنا في عِزّ الشتاء يجعل أجسادنا تنتفض من فرط الصقيع. حقيقة أكثر مما ينبغي تزيد من متاعبنا في الحياة، ومن هلعنا من حقيقة أنه لا أحد آمناً.
فما جرى قد يتكرر مع أي شخص وفي أي مكان، لا أحد معصوم ولا حتى نحن ولا أولادنا، وقد نتعرض يوماً لخبرة مروعة مثلها تصلح للعرض على الشاشات للعِبرة والذكرى ذات يوم. حقيقة قاسية تفسد برمتها كل شيء، لذا فإنّ أسهل وسيلة للنجاة من هذا المأزق، الإنكار حتى يسهل المُضي قُدماً.
من وحي مقولة شوبنهاور، فإنّ التعاطف مع يوسف كان أسهل لأنه يأتي بعد أن نتحرر من أنفسنا وأثقالها. أما ما جرى مع "ياسين"، فهو العكس تماماً؛ كان حقيقياً وقريباً وصادماً بشكلٍ يعيق عمليات الاندماج الكاملة معه، وإلا لحسبنا أطفالنا جميعاً في البيوت، لذا اقتصر التعاطف معه على فقاعة الصدمة التي سُرعان ما ستزول وتُنسى مع القضية كلما تقادمت جلساتها، وسط مجتمع ينوء بالأثقال والمتاعب الاقتصادية التي خلقت شعوراً مزمناً بين الناس بالعجز، وآخر ما يحتاجه هو أخبار تزيد ذلك العجز وطأةً في نفسه، لذا فإنهم ببساطة يقررون تجاهل الأمر أو يكتفون بهزِّ رؤوسهم كي يستطيعوا استكمال حياتهم العادية بحدِّها الأدنى من الأمان الوهمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Thabet Kakhy -
منذ 4 أيامسيد رامي راجعت كل مقالاتك .. ماكاتب عن مجازر بشار ولا مرة ،
اليوم مثلا ذكرى مجزرة الحولة تم...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعيا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا
Aisha Bushra -
منذ أسبوعA nice article,I loved it..
رزان عبدالله -
منذ أسبوعشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ اسبوعينترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!