في فيلم The Accused، المقتبس عن قصة حقيقيّة، يتتبّع الشّريط السّينمائيّ قصةً مرعبة لشابة تناوب على اغتصابها ثلاثة رجال في حانة. يغوص الفيلم في تفاصيل سعيها لنيل العدالة بمساعدة المدعية العامة التي جرى تكليفها بمتابعة القضية. وبدون أن يستجدي التعاطف، أو يحاول تقديم صفات زائفة تلفّ البطلة بثوب العفّة والسّذاجة، يمضي الفيلم قدماً.
الفيلم الذي جرى إنتاجه في نهاية الثمانينيات، وحازت بطلته جودي فوستر على أول أوسكار لها عن دورها فيه، يقدّم طرحاً هو الأذكى والأكثر جرأة لقصص الاغتصاب والتحرّش والعنف الجنسيّ.
الضحيّة في الفيلم الأمريكيّ ليست امرأة نموذجية، بل هي شابة مدمنة، تعيش حياةً ماجنة، ترقص في الحانات، ترتدي ملابس مثيرة، لكن كلّ هذا لا يسلبها حقّها الطبيعيّ بأن تقول: "لا".
لا ضرورة بأن تتعاطف مع البطلة حتى تدرك أن ما سيأتي لاحقاً هو جريمة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. لا أهمية لما يُقال عن الضحيّة، ملابسها، أسلوب حياتها، ستتكفّل وحشيّة المجرمين والمهلّلين لهم بشرح كل شيء. مشهدٌ من أقسى المشاهد في تاريخ السينما، يبدو كابوسيّاً لفرط وحشيته، سيجعل جودي فوستر تفصح عن حقائق تتجاوز قدرة اللغة على التعبير: ثلاثة رجال يتناوبون على اغتصاب امرأة، بكل وحشيّة، وسط حشد منقسم بين صامت ومتفرّج ومحرّض، وبدون أن يتقدّم أحد لإنقاذها. لقد صنع جوناثان كابلان مشهداً سينمائياً مرهقاً حتى لك كمتفرج.
إذن، فالجريمة جريمتان: جريمة المغتصب، وجريمة من شجّع وحرّض، ثم وقف ليشاهد اغتصاباً وحشيّاً كعرض جنسيّ.
لن يروق الفيلم لأصحاب ثقافة لوم الضحايا، لأنه ببساطة عنهم، فهو يقدّم صورةً واقعيّة عن وحشيّة المغتصب وساديّة المجتمع الذي يبرّر فعلته، بغضّ النظر عن الضحيّة التي قد تكون فتاة في حانة، فالضحيّة ضحيّة، والمجرم مجرم، ولا يمكن للضحيّة أن تكون في موضع الاتهام، فللضحايا وجوه كثيرة، وللمغتصب وجه واحد.
تذكّرت ذلك الفيلم وأنا أتابع ردود الأفعال على جريمة قتل البلوغر العراقية طيبة العلي، على يد والدها. بشرٌ مسعورون، تغصّ فيهم وسائل التواصل الاجتماعي، لا يختلفون كثيراً عن النماذج التي عرضها الفيلم الهوليوودي، يجدون الضحيّة مستحقةً للتحرّش والاغتصاب. هم ذاتهم، حرّاس الفضيلة والحشمة، الذين تخفت أصواتهم عند الحديث عن جريمة التحرّش بطيبة العلي من جانب شقيقها، وترتفع فقط لتبرّر جريمة قتلها.
التجرّؤ على أن تكون متحرشاً
تسجّل جرائم التحرّش بالأطفال أرقاماً مخيفة في السنوات الأخيرة. فبحسب منظمة اليونيسف، تتعرّض واحدة من كل خمس فتيات، وواحد من كل عشرين فتىً، للتحرش الجنسيّ سنوياً.
الكثير من جرائم التحرّش والاغتصاب التي جرى الإبلاغ عنها، لم تكن دوافع فاعليها الرغبة الجنسية كما يتصوّر البعض، بقدر ما كانت الرغبة في التسلّط وإذلال وترهيب الضحية، وهو ما يجعل الإدعاء الساذج بمسؤولية الضحايا محض هُراء
ويعدّ الأطفال من الضحايا المفضّلين في جرائم التحرّش والاغتصاب، لأسباب تتعلّق بضعف الضحية، وعجزها عن التعبير، أو تعريف وفهم ما جرى معها، فأغلب جرائم التحرّش التي يتعرّض لها الأطفال تُكتشف لاحقاً، بعد أن يعيش الطفل كامل تأثيراتها النفسيّة المؤذية، ما يصعّب مهمة التعافي أو تخفيف الأضرار الجانبية لتلك التجارب المريرة.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، تشير معظم الدراسات إلى أن المعتدي يكون غالباً شخصاً يعرفه الطفل، فنسبة 70% من المعتدين هم أشخاص مقرّبون من الطفل، وهم غالباً أشخاص موثوقون، يقدّمون له الألعاب والمال والهدايا، وتوحي تصرفاتهم بالثقة.
وتشير الإحصاءات إلى أن 5% من المُصابين بالميل الجنسيّ للأطفال يقومون بسلوكيات وفقاً لهذا الميل، بينما يطلب ما يقرب من ٥% المساعدة الطبية للتخلّص من هذا الاضطراب. الانتقال من الفكرة إلى السلوك يعني وجود استعداد لدى الشخص للقيام بهذا الفعل الجرمي القائم على الإكراه.
فإلى ذلك اليوم الذي نقف فيه بجانب أنفسنا، ونتوقف عن البحث في مسؤولية الضحايا، ستبقى الجريمة مستمرة، وسنستمر في دفن طيبة وعليا وكثيراتٍ غيرهن
الأمر إذن غير مرتبط بالضحية التي قد تكون طفلاً أو امرأة، فحتى في الزواج، تصير العلاقة الجنسيّة تحت الإكراه وبدون رغبة الشريك فعل اغتصاب، تجرّمه الكثير من الدول، ويُدرج بكونه انتهاكاً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. الملفت أن الكثير من جرائم التحرّش والاغتصاب التي جرى الإبلاغ عنها، لم تكن دوافع فاعليها الرغبة الجنسية كما يتصوّر البعض، بقدر ما كانت الرغبة في التسلّط وإذلال وترهيب الضحية، وهو ما يجعل الإدعاء الساذج بمسؤولية الضحايا محض هُراء.
وبالنظر إلى ازدياد نسب جرائم التحرّش بالنساء والأطفال، يمكن التكهّن بالأسباب التي تمنح المتحرّش أو المغتصب الجرأة لتكرار فعلته، والتي هي بالدرجة الأولى مرتبطة بالمجتمع الذي يبرر تلك الجرائم، وبخوف الضحيّة من الفضيحة، وفي ضعف النصوص القانونيّة التي تتفادى أحياناً مجرد ذكر مفردة "تحرّش".
الهجوم أفضل وسيلة للدفاع
قبل نحو شهر من الآن، ظهرت الشابة السوريّة حلا مغامز، على حسابها الشخصي على فيسبوك، للحديث عن واقعة التحرّش بها من قِبل أستاذها في مدرسة الأمل التي تتبع لمطرانية الروم الكاثوليك في حلب. عمر الجريمة ٧ سنوات، استجمعت حلا خلال تلك المدة شجاعتها، وقرّرت التحدّث بالعلن، بعدما فشلت محاولتها في إيقاف المتحرّش عن العمل، أومعاقبته على جرم التحرّش،
بعد الشكوى التي تقدّمت بها لمطرانية الروم الكاثوليك في حلب. غطّت المطرانية جُرم المتحرّش. لم تحرّك المؤسسة الدينية ساكناً لإيقافه عن العمل، أو التأكد من شكوى الضحية التي وثقت بمؤسستها الدينية ولجأت إليها. لابأس بأن يكرّر المتحرّش فعلته لسنوات، لا ضير من اتساع لائحة الضحايا إلى العشرات أو المئات، المهم هو درء الفضيحة التي قد تدنّس "شرف" المؤسستين، الدينية والتربوية.
لم تكد تمضي ساعات قليلة على إعلان حلا تفاصيل جريمة التحرّش، حتى بدأت الحملة المتوقّعة ضدّها من جانب بعض أقارب ومعارف المتحرّش. لم تخلُ تلك الحملة من استدعاء أكثر الوسائل انحطاطاً في لوم الضحية: انتقاد ملابسها، أسلوب حياتها "المتحرّر"، رقصها على تيك توك. بل وصل الأمر إلى حدّ اتهام البعض لـ "حلا مغامز" بالرغبة في الشهرة ولفت النظر!
يمكن التكهّن بالأسباب التي تمنح المتحرّش أو المغتصب الجرأة لتكرار فعلته، والتي هي بالدرجة الأولى مرتبطة بالمجتمع الذي يبرر تلك الجرائم، وبخوف الضحيّة من الفضيحة، وفي ضعف النصوص القانونيّة التي تتفادى أحياناً مجرد ذكر مفردة "تحرّش".
تلك إذن، أسباب كافية في نظر هؤلاء لجعل تلك الضحيّة مستحقة للتحرّش، فهناك دائماً من يبرّر أفعال ذلك الحيوان البشريّ المتأهب "للخروج عن طوره".
ورغم أن مبادرة التحدّث التي بدأتها حلا، بشجاعة كبيرة، كانت معدية، وانضم إليها لاحقاً آخرون، أكدوا ما قالته حول سلوك المتحرّش، لكن هذا لم يكن كافياً لإيقاف الهُراء الذي واكب إعلان حلا عن تفاصيل جريمة التحرّش التي تعرّضت لها.
لماذا يلوم البعض الضحيّة؟
يقول الخبراء النفسيّون إن إلقاء اللوم على الضحيّة هو ظاهرة يمكن أن يكون لها تأثير نفسيّ منهك على الشخص الذي يكافح للتعافي من الاعتداء و العنف الجنسيّ الذي تعرّض له. ويميل الكثير من ضحايا الاغتصاب والتحرّش أصلاً إلى لوم أنفسهم، ويأتي المجتمع ليكرّس تلك النظرة المشوّهة، بدل الميل إلى احتوائهم ودعمهم.
وتعود ثقافة لوم الضحية، بحسب الخبراء النفسيّين، إلى ميل الإنسان إلى إثبات أن لا شيء يصيبنا دون أن نكون سبباً له؛ فلا شيء خارج عن سيطرة البشر الذين يجذبون السوء لأنفسهم، فمعرفة أن شخصاً آخر قد وقع ضحية، يهدّد بتحطيم وهم كوننا مسيطرين على كل ما يحدث لنا.
فحتى في حالات المرض والموت، ورغم كوننا جميعاً عرضة لهما، يميل الكثير من البشر إلى الإيمان بأننا ندفع ثمن أفعالنا السيئة عندما نُصاب بالمرض أو نموت.
وبحسب الخبراء، فإن المشكلة في مثل هذه العقلية، هي أنها غالباً ما تثير رد فعل غير عادي لدى الشخص الذي تعرّض للتحرّش أو العنف الجنسي، وهذا يجعل من الصعب على الشخص التحدّث بصراحة عما حدث له، أو السماح للآخرين بدعمه في شفائه، أو التعامل مع مشاعره التي لا حصر لها، من الغضب إلى الحزن. ويمكن أن يقلّل أيضاً من احتمال أن يسعى الشخص إلى العلاج النفسيّ لمعالجة مشاكل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة الناجم عن تعرّضه للإيذاء. وقد يكون مفضياً للانتحار، كما حصل مع الشّابة المصريّة علياء عامر، التي أخبرت والدها عن جريمة التحرّش بها من جانب ابن عمها، فلم يصدّقها، فقرّرت الانتحار.
وعدا عن تأثيراتها النفسية الآنية على ضحايا التحرّش، تدفع ثقافة لوم الضحايا الكثير من الناس إلى التكتّم عن أي اعتداءات أو انتهاكات مستقبليّة قد يتعرّضون لها، خوفاً من عدم تصديقهم، أو اضطرارهم للتعامل مع الفضيحة وردود الأفعال السلبية بسبب خروج الأمر إلى العلن.
فإلى ذلك اليوم الذي نقف فيه بجانب أنفسنا، ونعترف بأننا جميعاً قد نكون ضحايا محتملين، ونتوقف عن البحث في مسؤولية الضحايا، ستبقى الجريمة مستمرة، وسنستمر في دفن طيبة وعليا وكثيراتٍ غيرهن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...