شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الولايات المتحدة تغلق بعثات دبلوماسية في العالم… أين تراجع نفوذها؟

الولايات المتحدة تغلق بعثات دبلوماسية في العالم… أين تراجع نفوذها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

السبت 3 مايو 202501:28 م

حملت رياح التغيير التي صاحبت عودة دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، تحولات جذريةً في تموضع الولايات المتحدة على الساحة الدولية، ولا سيّما في إفريقيا، وحالياً تلوح في الأفق قرارات بإغلاق ما يقارب 27 سفارةً وقنصليةً أمريكيةً، معظمها في إفريقيا جنوب الصحراء. 

في عالمٍ تتشابك فيه المصالح، تبرز السفارات كأذرعٍ إستراتيجية للسياسات الخارجية. لم تَكن خدماتها يوماً تقتصر على تقديم الخدمات القنصلية، بل تحوّلت إلى منصاتٍ للنفوذ والتحرّك الدبلوماسي. وتُعَدّ السفارات الأمريكية النموذج الأبرز، إذ تُشكّل امتداداً مباشراً لحضور واشنطن في الخارج، وأداةً لتجسيد مصالحها وتعزيز رؤيتها في مختلف أنحاء العالم. فما الذي تغيّر؟ 

ترامب وإغلاق السفارات... إستراتيجية جديدة تجاه إفريقيا 

كشفت شبكة "CNN"، استناداً إلى وثيقة سرّية، أنّ إدارة دونالد ترامب، تدرس إغلاق نحو 30 بعثةً دبلوماسيةً أمريكيةً في الخارج، من بينها 10 سفارات، منها 6 في إفريقيا. 

وشملت الدول الإفريقية المعنية كلّاً من إريتريا وغامبيا وليسوتو وجمهورية الكونغو وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بالإضافة إلى قنصليات في دوالا في الكاميرون، وديربان في جنوب إفريقيا، فضلاً عن تقليص العمليات الدبلوماسية في الصومال. ويُنظر إلى هذا التوجّه كإشارة إلى انكفاء دبلوماسي أمريكي عن مناطق إستراتيجية، في وقت نشهد فيه تنافساً دولياً متزايداً على النفوذ في القارة الإفريقية.

انسحاب واشنطن من السودان والنيجر ووسط إفريقيا، ترافق مع فقدان قاعدة تجسّس ضخمة وتراجع في إنشاء قواعد عسكرية، ما جعل واشنطن عاجزة عن مواكبة التحولات في القارة. استطلاعات الرأي تُظهر أن الصين باتت تتفوّق في الشعبية والنفوذ، في مشهد يُنذر بتغير موازين القوى

جاءت الرغبة في إغلاق عدد من السفارات ضمن توجّه أوسع لتقليص الدور الدبلوماسي للولايات المتحدة، تجلّى بوضوح في مساعي إدارة الرئيس دونالد ترامب، لخفض ميزانية وزارة الخارجية بشكل حادّ. 

كما كشفت وكالة "رويترز"، أنّ الإدارة تسعى إلى تقليص مخصصات الوزارة من 54.4 مليارات دولار في العام الحالي إلى 28.4 مليارات دولار في السنة المالية الجديدة التي تبدأ في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. 

وتضمّ وزارة الخارجية الأمريكية، نحو 13 ألف عضو في السلك الدبلوماسي، و11 ألف موظف في الخدمة المدنية، بالإضافة إلى 45 ألف موظف محلي موزعين على أكثر من 270 بعثةً دبلوماسيةً حول العالم. وتسعى الإدارة إلى خفض هذه القوة العاملة بنسبة 10%، ضمن ما سُمِّي بـ"الخطة المرتجعة".

وبحسب التسريبات، تحمل هذه التوصيات التي قدّمتها إدارة ترامب، بشأن استبدال السفارات الأمريكية في مراكز إقليمية، تداعيات كبيرةً على المواطنين الأفارقة الراغبين في التقدم للحصول على تأشيرات الولايات المتحدة، ما يعني أنّ المواطنين في الدول التي سيتمّ فيها إغلاق السفارات سيتعيّن عليهم السفر إلى دولة أخرى للحصول على الخدمات القنصلية المطلوبة. 

وهذا سيتسبب في تكاليف إضافية للمواطنين، خاصةً في ظل رسوم التأشيرات المرتفعة، فضلاً عن تكاليف السفر إلى الدولة المجاورة. في المقابل، تهدف الإدارة الأمريكية إلى تحسين الكفاءة وتقليل التكاليف، ما يوفّر مرونةً أكبر ويقلل الحاجة إلى طاقم قنصلي ضخم.

ووفقاً لصحيفة "بوليتيكو"، أثارت هذه الخطوات، صدمةً وتوتراً في أوساط الدبلوماسيين الأمريكيين، حيث وصفها أحدهم للصحيفة بأنها خطوة مجنونة. وفي المقابل، نفى وزير الخارجية الأميركي هذه الروايات، مؤكداً عبر منصة X، أنّ الصحف الأمريكية "تنشر أخباراً كاذبةً".

الدبلوماسية الأمريكية بين نفوذٍ متآكل ومنافسين يتمددون 

يرى محللو السياسة الخارجية، أن تقليص الوجود الأمريكي في القارة الإفريقية قد يُخلّف فراغاً دبلوماسياً واسعاً، ما يفتح المجال أمام روسيا والصين لتعزيز نفوذيهما في المنطقة. 

ويأتي هذا التراجع في وقت يواجه فيه النفوذ الأمريكي تحديات متصاعدةً، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الدبلوماسي، من قبل الصين، في ظلّ تنافس محموم بين القوى الكبرى على تأمين موطئ قدم إستراتيجي داخل القارة الإفريقية. ويُخشى أن يؤدي هذا الانحسار الأمريكي إلى تقليص قدرتها على التفاعل بفعالية مع الأزمات والصراعات الإقليمية، فضلاً عن إضعاف قدرتها على جمع المعلومات الاستخباراتية.

خطط ترامب لتقليص وزارة الخارجية إلى النصف ليست مجرد تقشف، بل محاولة لإعادة تعريف النفوذ الأمريكي دون دبلوماسيين… لكن هل يُعقل إدارة العالم من دون أذرع على الأرض؟

وفي هذا السياق، ترى صحيفة "بوليتيكو"، أنّ الخطوات الأمريكية الأخيرة، من تقليص المساعدات وإغلاق بعض السفارات، قد تعود بالفائدة على الولايات المتحدة والدول الإفريقية، برغم كونها رهاناً محفوفاً بالمخاطر. 

إذ تهدف هذه السياسة إلى دفع الحكومات الإفريقية للاعتماد على نفسها، واستثمار المزيد من الموارد في القطاعين العام والخاص. فإذا رغبت دولة إفريقية في إقامة علاقات قوية مع واشنطن، عليها أن تكون مستعدّةً لدفع الثمن. ويتضح هذا التوجه من حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي قدّمت للولايات المتحدة امتيازات للوصول إلى معادن إستراتيجية، مقابل دعم أمريكي في مواجهة تمرّد حركة 23 آذار/ مارس.

تبريراً لهذا التراجع، يشير مركز أبحاث  "The Washingtone stand" الأمريكي، إلى أن النفوذ الدبلوماسي لا يُقاس بعدد البعثات الدبلوماسية فحسب، بل يرتبط أيضاً بمدى تأثير الدولة في الساحة الدولية. ويوضح أنّ هناك نحو 25 دولةً حول العالم لا توجد فيها سفارات أمريكية، ومع ذلك تواصل الولايات المتحدة أداء دورها كقوة مهيمنة على المستوى العالمي.

وكانت واشنطن قد أغلقت سفارتها في الخرطوم، في عام 2023، بينما تُدار شؤون سفارة غينيا بيساو من السنغال، وتُشرف السفارة الأمريكية لدى ليبيا على أعمالها انطلاقاً من تونس. أما في حالات مثل مملكة ليسوتو، فقد بُرّر الإغلاق بكونها دولةً جيبيةً محاطةً بالكامل بجنوب إفريقيا، فيما عُدّ صغر مساحة غامبيا، التي تُعدّ أصغر دولة في البرّ الإفريقي، مبرراً آخر لتقليص الوجود الدبلوماسي فيها. وفي جمهورية الكونغو، عُدّ القرب الجغرافي من السفارة الأمريكية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي لا تبعد سوى ثلاثة أميال، سبباً كافياً لإغلاق السفارة في برازافيل.

من جانب آخر، أشار تقرير لوكالة "رويترز" إلى أنّ عدد الموظفين في البعثات الدبلوماسية الأمريكية في إفريقيا، قد تراجع من 2،175 موظفاً في عام 2018، إلى 2،057 في عام 2023. ويُعزى هذا الانخفاض، إلى محدودية الموارد المالية خلال إدارة الرئيس جو بايدن، ما أدى إلى إضعاف قدرة واشنطن على تنفيذ أهدافها الإستراتيجية في القارة. 

هذا التراجع في عدد الموظفين يعكس تحديات تواجهها الولايات المتحدة في تعزيز حضورها الدبلوماسي في إفريقيا، وهو ما قد يفتح المجال أمام قوى منافسة مثل الصين وروسيا لتوسيع نفوذيها في المنطقة. على المدى الطويل، قد يكون لهذا الانخفاض تأثير سلبي على قدرة واشنطن على متابعة مصالحها الأمنية والاقتصادية في القارة، خصوصاً في ظل الصراعات والتوترات الجيو-سياسية المتزايدة.

جزئياً، تسببت هذه القرارات في تكبّد الولايات المتحدة خسائر دبلوماسيةً ملموسةً في القارة الإفريقية؛ فوفقاً لتقرير نشرته "vonews"، فقدت الولايات المتحدة أكبر قاعدة تجسّس لها في النيجر خلال أيلول / سبتمبر الماضي، فضلًا عن تعثّر جهودها في إنشاء قواعد عسكرية جديدة في منطقة الساحل التي تشهد تصاعداً في النفوذ الروسي. كما غاب الدور الأمريكي بشكل لافت خلال الحرب في السودان. وفي ظلّ هذا التراجع، أظهر استطلاع للرأي العام تفوّق الصين على الولايات المتحدة من حيث الشعبية والنفوذ في عدد من الدول الإفريقية.

انسحاب أمريكي بين الفرص والتحديات

في السياق نفسه، أفاد موقع "hornreview" المتخصص في شؤون القرن الإفريقي، بأن قرار الولايات المتحدة إغلاق سفارتَيها في كلٍّ من إريتريا وجنوب السودان، يمثّل فرصةً إستراتيجيةً واعدةً لإثيوبيا، ولا سيما في ظلّ التراجع الملحوظ للجهود الأمريكية الرامية إلى تعزيز الأمن الإقليمي في المنطقة. فقد بات يُنظر إلى النفوذ السياسي والاقتصادي المتنامي لإثيوبيا كعنصر مؤهل لقيادة إقليمية محتملة، وسط احتمالات متزايدة لأنّ تتحول السفارة الأمريكية في أديس أبابا، إلى مركز محوري لإدارة المصالح الأميركية في منطقة القرن الإفريقي.

في خطوة لافتة، عيّن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، صهره مسعد بولس، مستشاراً خاصاً له في شؤون إفريقيا، وتحديداً في منطقة البحيرات العظمى، بالإضافة إلى تكليفه بمنصب مستشار للمنطقة العربية والشرق الأوسط، في ظلّ تقارير تؤكد إلغاء مكتب الشؤون الإفريقية في وزارة الخارجية الأمريكية، في خطوة تعكس إستراتيجية تقليص البعثات الدبلوماسية الأمريكية في القارة الإفريقية جنوب الصحراء. وفي إطار هذه المهام، قام بولس، في نيسان/ أبريل الجاري، بزيارة عدد من الدول الإفريقية، منها الكونغو الديمقراطية، وغينيا، ورواندا، وكينيا، بهدف توطيد النفوذ الأمريكي وتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع هذه الدول، في مسعى لتوسيع تأثير الولايات المتحدة في قارة إفريقيا، خاصةً في مجالات التعدين والطاقة ومكافحة الإرهاب.

بينما تغلق واشنطن سفاراتها في غامبيا وليسوتو وإريتريا، تقف إثيوبيا على أعتاب قيادة إقليمية جديدة. التراجع الأمريكي يمنح أديس أبابا فرصة لتحوّل سفارة واشنطن إلى مركز نفوذ مركزي في القرن الإفريقي، وسط تفكك الأذرع التقليدية للولايات المتحدة وتنامي الدور المحلي للقوى الصاعدة

سلّط تقرير آخر الضوء على أنّ قرار إغلاق السفارة الأمريكية في جوبا، ستكون له تداعيات كارثية على جنوب السودان، سواء من حيث المساعدات الإنسانية أو على صعيد الاستقرار السياسي الداخلي. ووفقاً للتقرير عينه، قد يؤدي غياب النفوذ الدبلوماسي الأمريكي إلى فتح المجال أمام أطراف خارجية للتدخل بصورة أعمق في الشأن الداخلي لجنوب السودان، بما في ذلك إمكانية دعم تحركات تستهدف تغيير النظام القائم. وعزا التقرير جذور هذه الأزمة إلى تصرفات جنوب السودان، بعد رفض جوبا استقبال أحد المرحَّلين من الولايات المتحدة بحجة عدم امتلاكه الجنسية، الأمر الذي قوبل بردّ فعل أمريكي تمثّل في ترحيل 132 مواطناً من جنوب السودان، ما فاقم من توتر العلاقات بين البلدين.

في سياق متصل، أشار تقرير إلى أنّ إغلاق السفارة الأمريكية في جمهورية إفريقيا الوسطى قد يشكل فرصةً حقيقيةً للبلاد لاستعادة سيادتها وتعزيز استقرارها الداخلي. وأوضح التقرير ذاته، أنّ وجود أكثر من 100 موظف في السفارة لم يسهم في تحسين الأوضاع، بل ساعد في زعزعة الأمن، خاصةً بعد التسريبات التي كشفت تورط دبلوماسيين في دعم احتجاجات مناهضة للحكومة، فضلاً عن علاقات مثيرة للجدل بين الحزب الحاكم والوكالة الأمريكية للتنمية، التي دفعت نحو 56 ألف دولار لتعزيز نفوذ سياسي تحت غطاء المشاريع التنموية.

تأتي هذه التحولات في إطار السياسة الحادّة التي انتهجها الرئيس ترامب، تجاه العالم وإفريقيا. فخلال 100 يوم فقط من ولايته الثانية، أوقف المساعدات التنموية والإنسانية، وعلّق عمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في إفريقيا لمدة 90 يوماً بهدف مراجعة البرامج القائمة وتقييم جدواها. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل انسحب أيضاً من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، في خطوة أثارت انتقادات واسعةً دولياً. كما أسهمت سياساته المتشددة في تأجيج التوتر بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، ما أدى إلى إضعاف التزامات واشنطن تجاه القضايا العالمية الكبرى، ولا سيّما الصحة العامة، وحماية البيئة، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

يكشف التوجّه الأميركي نحو تقليص وجوده الدبلوماسي في إفريقيا عن تحوّل إستراتيجي عميق في بنية السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القارة السمراء. فبينما تسعى واشنطن إلى ترشيد نفقاتها وتخفيف أعباء الانتشار الدبلوماسي الواسع، تأمل في أن تعوّض ذلك عبر مراكز إقليمية أكثر كفاءةً وقدرةً على التعامل مع الملفات الإفريقية متزايدة التعقيد. غير أنّ هذا الانكفاء لا يحدث في فراغ؛ بل يأتي في لحظة تشهد فيها القارة سباقاً محموماً بين قوى دولية وإقليمية تسعى لترسيخ نفوذها، وفي مقدمتها الصين وروسيا وتركيا وغيرها. 

فإذا كانت الولايات المتحدة تراهن على أن تقنياتها الاقتصادية وأدواتها الدبلوماسية الجديدة ستضمن لها موطئ قدم مستقبلي مستدام، فإنّ المخاطر تبقى قائمةً، إذ قد يُفسَّر التراجع عن الحضور الميداني المباشر من قبل كثير من الدول الإفريقية على أنه تخلٍّ أو تراجع في الالتزام، ما يدفعها للبحث عن شركاء أكثر حضوراً وديناميكيةً. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image