صديقتي العزيزة،
أكتبُ إليكِ في بدايات الربيع، وأنا أجلس على طاولتي في برلين. أجلس بجانب الزجاج الخارجي، وأراقب المارّة وهم يذهبون ويجيئون. أوراق الأشجار تخضرّ وتزيّن الرصيف الرمادي بألوانها الفاقعة. لا أتذكر الربيع في بلادنا جيداً. لا أتذكر. هل كانت هناك ألوان كثيرة مثل التي نراها في أوروبا؟ لا أتذكر من الفصول سوى الأغنيات، وتجوالنا الطويل في حارات دمشق القديمة. أنا وأنتِ وحدنا، وكأنّنا نملك العالم. كنّا صديقَين مثلما لم يكن أحد، فلماذا إذاً انقطعت أسباب دنياكِ عن أسباب دنياي؟
التقينا قصيراً مرةً أخرى، حين عدتُ قبل أشهر إلى دمشق، بعد أكثر من إحدى عشرة سنةً على لقائنا الأخير. مرةً أخرى مشينا طويلاً في شوارع دمشق القديمة. أتذكر الآن لقاءنا وبكاءك حين تحاضنّا طويلاً في منتصف الشارع.
ربّما أتذكركِ اليوم أكثر من يوم آخر. أهزّ ذاكرتي وأعصرها. أحاول تذكّر كلّ ما أستطيع تذكّره. ربّما لأنّني بدأت صباحي، على غير العادة، بسماع فيروز وأغنية "بتذكّرك بالخريف". فكرتُ فيكِ عند سماع الأغنية. تذكرتُ وجهك الأليف "مثل الهوا اللي مبلش عالخفيف". كم كنتُ أحبّ وجهكِ! كان يشعرني بالأمان. سنوات طويلة مرّت حتى استطعت أن أصادق وجوهاً أليفة مثل وجهك.
بالطبع أعرف وردة الجزائرية من قبل. من عاش في بلاد عربيّة ولم يسمع أغنيةً لها في إذاعة ما أو على قناة فضائية ما؟! وردة دائمة الحضور، لكن لم أكن أعرف شيئاً عنها، ولم أكن منتبهاً إلى كلمات أغنياتها.
كيف حالك؟
كيف انقضت سنوات العمر؟ أكثر من عقد من العمر مرّ، قضيتِه مختبرةً الحرب والقصف وفقدان الأصدقاء، وقضيتُه مختبراً اللجوء والمنفى وفقدان الأصدقاء. أتكون حياتكِ الوجه الآخر لحياتي، فنكمل صورةً لحياة أي شخص سوري (لبناني، فلسطيني، عراقي، سوداني، يمني… إلخ)، أراد أن يعيش حياةً طبيعيةً، فجاءته الحياة بأشياء أكبر منه فلم يستطع احتمالها، فصار هو والعدم رفيقَين؟
يُخيّل إليّ كثيراً أنّ حياتي تشبه قطرات الندى، ما إن تشتدّ الشمس حتى تتبخّر قطرات الماء التي تبلّل زهرة الحياة.
أتذكرين مهرجان الجاز في قلعة دمشق خلال السنوات الممتدة من 2008 إلى 2010، حين كنّا نتسكع هناك طوال الوقت، نسمع الموسيقى، نتبادل الحكايات، ونحكي عن أحلامنا الكبيرة وأحلامنا الصغيرة؟
أكتب إليكِ اليوم لأخبركِ عن وردة، وردة الجزائرية. أسمعها هذه الأيام وأفكر في أيامٍ مضت، وأتذكر كلّ من مرّ بها، وأقول في سرّي: لو كنتِ هنا لحكيت لكِ عن اكتشافي الجديد لوردة.
بالطبع أعرف وردة الجزائرية من قبل. من عاش في بلاد عربيّة ولم يسمع أغنيةً لها في إذاعة ما أو على قناة فضائية ما؟! وردة دائمة الحضور، لكن لم أكن أعرف شيئاً عنها، ولم أكن منتبهاً إلى كلمات أغنياتها. لم أعرف وردة، ولم أحفظ لها جملةً واحدةً حتى ذلك اليوم من السنة الماضية الذي سمعت فيه حلقةً من بودكاست "دم تك" تحت عنوان "وردتي"، وتحكي فيها امرأة تُدعى بيان عاروري، عن تأثرها بأغنيات وردة، ودور تلك الأغنيات في مراحل مختلفة من حياتها، كما تحكي فيها عن محطات من حياة وردة فتوكي، أو وردة الجزائرية مثلما نعرفها.
كيف حالك يا صديقتي؟ كيف انقضت سنوات العمر؟ أكثر من عقد من العمر مرّ، قضيتِه مختبرةً الحرب والقصف وفقدان الأصدقاء، وقضيتُه مختبراً اللجوء والمنفى وفقدان الأصدقاء.
أعجبتني الحلقة بشدّة، وأعجبتني الأغنيات. دفعني ذلك إلى القراءة عن وردة، وسماع أغنياتها بشكل مستمرّ. لن أحكي لكِ شيئاً عن وردة وعن محطات حياتها، ولا عن الرجل/ الزوج الذي منعها من الغناء لسنوات طويلة، ولا عن علاقاتها الإشكالية بالسلطات المختلفة، ولا عن علاقتها الشهيرة بالموسيقار الفذّ بليغ حمدي. هذا كله يُمكن قراءته في مقالات وكتب ومواقع إلكترونيّة مختلفة. كلّ ما تحتاجينه هو بحث سريع على الإنترنت وستصلين إلى كلّ المعلومات، لكن ما أريد قوله يتعلق بالمشاعر والعواطف التي أعطتني إياها أغنيات وردة؛ كلمات الأغنيات وألحانها وصوتها وأداؤها.
ذلك الحب كلّه، وتلك الابتسامات على مسارح مختلفة، وهذه السعادة، وتلك المشاعر كلها لا تأتي كلّ يوم وكلّ ساعة. تلك أشياء نادرة، وعلينا أن نحتفي بها.
أضغط على أزرار حاسوبي، وأكتب إليكِ عن وردة، وأراقب شاشةً أخرى تُظهرها واقفةً على مسرح ما في "سهرة الخميس"، تغنّي "أوقاتي بتحلو"، من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان سيد مكاوي، وهي أغنية كُتبت لأم كلثوم ولم تغنّها بسبب مرضها ومن ثمّ وفاتها، وبقيت حبيسة الأدراج لست سنوات، حتى اليوم الذي قُدّمت فيه لوردة، سنة 1979.
تقف وردة على المسرح مبتسمةً، وهي ترتدي فستاناً أسود لامعاً، لا شيء يمنعها من التحليق عالياً وهي تقول: "من كتر حلاوة الأيام/ ونعيمي وسعدي بلياليك/ مش بحسب فات منهم كم/ ولا بقدر أفكر غير فيك…".
في السنوات الأخيرة، كنت وبشكل شبه يومي أستمع إلى أم كلثوم قبل النوم، وأحياناً أسمعها إلى أن أنام. مؤخراً كسرت وردة هذه العادة، صارت أغنياتها ترافقني في بعض الليالي، ولا سيما ليالي الأرق الطويلة، التي ترافق عادةً الحوادث الكبرى كالمجازر المنتشرة في بلادنا.
كتابة هذه الرسالة عصرتْ ذاكرتي، فتذكرتُ شريط كاسيت لوردة في بيتنا في الشام، وكان يجمل على وجهه الأول أغنية "بتونّس بيك"، الأغنية المفضّلة لخالتي، وعلى الوجه الآخر أغنيةً أخرى لا أذكرها. أُعيد سماع الأغنية التي سمعتُها عشرات المرات خلال السنة الماضية. الآن أسمعها وأتذكر خالتي التي تعيش في العراق، والتي التقيتها مرتين فقط في حياتي -آخرها قبل سبع عشرة سنةً- وأتساءل إن كانت لا تزال تحبّ سماع وردة، خاصةً وهي تغنّي: "بتمرّ ساعات بعد لقانا/ والروح لوجودك عطشانة/ توحشني عينيك/ وبلاقي الدنيا بقت فاضية/ مع إن الناس رايحة وجاية/ وأنا بحلم بيك".
في السنوات الأخيرة، كنت وبشكل شبه يومي أستمع إلى أم كلثوم قبل النوم، وأحياناً أسمعها إلى أن أنام. مؤخراً كسرت وردة هذه العادة، صارت أغنياتها ترافقني في بعض الليالي، ولا سيما ليالي الأرق الطويلة، التي ترافق عادةً الحوادث الكبرى كالمجازر المنتشرة في بلادنا.
توازن أغنيات وردة الحياة. لا يُمكن تحمّل هذه الحياة كلها دون أن تكون الموسيقى والفن والروايات والشعر وزراعة النباتات والرياضة ممارسةً ولعباً على الطرف الآخر. كيف يُمكن تحمّل الحياة دون أن نشعر بالسعادة التي تقدّمها لنا هذه الأشياء، ولو كانت سعادةً لحظيّةً؟
"يا اللي كان طيفك على بالي وأنا بتمنّاك
مش حتصدق إيه كان حالي قبل ما ألقاك
كنت بحسد كل فرحة أشوفها بين قلبين…".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
ذوالفقار عباس -
منذ 9 ساعاتا
Hossam Sami -
منذ 10 ساعاتصعود "أحزاب اليمين" نتيجة طبيعية جداً لرفض البعض; وعددهم ليس بالقليل أبداً. لفكرة الإندماج بل...
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع و عظيم ..
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...
Bosaina Sharba -
منذ أسبوعحلو الAudio
شكرا لالكن
رومان حداد -
منذ اسبوعينالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...