كنتُ أمشي في شوارع دمشق كثيرًا، والمشي عادة اكتسبتها من والدي. كنت أحبّ شوارع دمشق التي صنعت شكل قدميّ وأنا أجوبها في كلّ الاتجاهات. كنتُ أمشي في شوارع المدينة، من منطقة ركن الدين حيث ترعرعت وصولًا إلى أقصى أقاصي المدينة.
في حيّ الأكراد، في ركن الدين، مشيتُ خطواتي الأولى. في ذلك الحي المتموضع على أحد سفوح جبل قاسيون، والمتخم بقبور الأولياء والأنبياء، ولعلّ أشهرها قبر وجامع ومزار الشيخ محيي الدين بن عربي -وقد كان هذا اسم مدرستي الابتدائية-، ومغارة الأربعين -حيث دُفن أربعون وليًا (ويُقال نبيًا)- والمغارة التي قتل فيها قابيل أخاه.
المشي بين مدينتين
من ذلك المكان انطلقتُ، وصرتُ أتجوّل في أحياء المدينة، أمشي مرافقًا فروع نهر بردى، أدخل شوارع وأخرج من أخرى، أبحث عن قصص وأساطير أخزّنها معي. أبحث عن قصة "دُمّر" الذي حفر الجبل ليمرّ به النهر من أجل إرضاء الملك، وكي يستطيع أخيرًا الزواج من الأميرة. أبحث عن حكايات الناس في شوارع المزّة، وعن أصوات السجناء السياسيين الذين مرّوا من هناك وغابوا في سجنها الشهير. أبحث عن حكاية بيت حي الجسر الأبيض الذي كنّا نقول إنه مسكون بالأشباح. أبحث عن أسرار العمارة والحجارة المستخدمة في بناء الجامع المُعلّق في حي العمارة البرّانيّة.
هكذا صرتُ أتذكر نفسي في دمشق وأنا أمشي في شوارع برلين، وبعد أكثر من عقدٍ على مشيي في شوارع دمشق للمرة الأخيرة، أتذكر طريقي الأثير الذي يبدأ من مدخل القلعة وصولًا إلى باب توما. وأحاول رسم نفس المسار في شوارع برلين.
كنتُ أمشي في شوارع دمشق كثيرًا، والمشي عادة اكتسبتها من والدي. كنت أحبّ شوارع دمشق التي صنعت شكل قدميّ وأنا أجوبها في كلّ الاتجاهات. كنتُ أمشي في شوارع المدينة، من منطقة ركن الدين حيث ترعرعت وصولًا إلى أقصى أقاصي المدينة
أحبّ برلين وشوارعها. صارت عندي علاقة معها بعد كلّ هذه السنوات من العيش فيها، وبعد أن وُلدَت ابنتي هنا، وصار لي مع المدينة رابط أبدي.
كنتُ أدخل دمشق القديمة من جانب سور القلعة، بالقرب من السروجيّة، أرى دكاكين الجلديّات المعلّقة فوق النهر، أمشي في الشارع الحجري وأصل الحديقة البيئية التي تتبع الجمعية السوريّة للبيئة حيث قضيت سنوات شبابي الأولى متطوعًا فيها. وأصل إلى منطقة العصرونية، ثم أمشي إلى جانب حمام الملك الظاهر وقبر صلاح الدين الأيوبي وأصلُ سور الجامع الأموي.
أراقب الحمام الذي يطير هناك، والرجل الذي يطعمها كلّ يوم. أراقب الحمام وهو يراقب المدينة من فوق سور الجامع.
أرى حمامات برلين، وأتذكر تلك التي في دمشق. أنعطف يسارًا خلال سيري في أحياء نويكولن البرلينيّة، وأتذكر مدخل سوق الحميديّة على يميني وأنا أنعطف يسارًا مع سور الجامع الأموي، وأدلّ مَن معي إلى صورة النبي عيسى منحوتة فوق إحدى حجارة السور. ألم يكن الجامع كنيسة مسيحيّة من قبل، ومن قبلها كان معبدًا يهوديًا، ومن قبلها معبدًا وثنيًا؟ فلماذا إذًا نتفاجأ من تراكم التاريخ فوق بعضه البعض، ليظهر لنا على شكل حجر؟
في مواجهة الحجارة
يومًا ما كنتُ في قرطبة الأندلسيّة، التي بُنيت على شكل دمشق. تناولت طعام فطوري في مطعم بجانب سور الكاتدرائية. تلمّست حجارة ذلك السور وتذكرت حجارة سور جامع دمشق. لا حكم على الذاكرة، تفعل بنا ما تشاء، متى شاءت.
في مواجهة الحجر الذي نُحت عليه وجه المسيح يقع مدخل سوق السلاح وسوق الصاغة الذي يصل بالمرء إلى سوق البزورية، ومن هناك إلى قصر العظم ومن خلفه جادة الحمراوي والحارات الضيقة التي تصل إلى الطريق المستقيم وسوق مدحت باشا.
أحبّ برلين وشوارعها. صارت عندي علاقة معها بعد كلّ هذه السنوات من العيش فيها، وبعد أن وُلدَت ابنتي هنا، وصار لي مع المدينة رابط أبدي
أبقى مع سور الجامع وأراقب محال الصناعات اليدويّة والحرفيّة وباعة النحاس والشرقيات، حتى أصل إلى مقهى يسبق الأعمدة الأثرية والدرج الذي يجعل الجامع في خلفنا ومقهى النوفرة على يميننا، ومقهى خبيني على يسارنا.
يُقال إنّ ثوار دمشق ضد الفرنسيين كانوا يختبئون في هذا المقهى، لذا صار له هذا الاسم. وفي المقهى المقابل والأشهر، مقهى النوفرة، كان يجلس الحكواتي أبو شادي ويحكي حكايات أبو زيد الهلالي وعنترة بن شدّاد؛ صورة يحبها السيّاح والفضوليون وأولئك المصابون بحمى حبّ الماضي.
إلى جانب مقهى النوفرة، تُوجد بحرة ماء صغيرة، ومدخل أحد البيوت القديمة، وهناك صوّرت مشاهدًا من فيلمي الأول "بيتان وحكاية" سنة 2010. حكينا في ذلك الوثائقي القصير عن عمارة البيوت الدمشقيّة القديمة ومقارنتها ببيوت السكن العشوائي المنتشرة في محيط دمشق.
أتخيلها دمشق
أكمل الطريق مستقيمًا في زونن آليه، أو شارع العرب، في برلين، وأنا أتخيل نفسي أمشي في الشارع الواصل بين الجامع الأموي وحي القيمريّة. أراقب المحلات والمطاعم العربية المنتشرة في برلين وأتخيلها المطاعم والمحال الدمشقيّة. أتناول فتة الحمص وأراقب المارة وأتذكر الفوّال في القيمريّة وفرن الخبز الملاصق لمطعمه الصغير. أتذكر محال الموسيقى، وتلك التي تبيع لوحات مقلّدة، والدكاكين التي تبيع أشياء لا يقتنيها إلّا السيّاح، والمطاعم والمقاهي التي كانت في الأصل بيوتًا قديمة، استثمرها أغنياء المدينة وأصحاب السلطة فيها. أتذكر بائعًا يبيع خبز الصاج في دكان يقع في إحدى الزوايا، يضع عجينه فوق الصاج الحار، وفوق العجين يضع الجبن أو الزعتر أو ما تشاء من طعام، بعناية مثل جرّاح.
في برلين هنالك مكان يذكرني بذلك المطعم. في شارع كارل ماركس، الموازي لشارع العرب، مطعم كردي صغير، يبيع خبز التنور. يفعل مثلما يفعل رجل الصاج في دمشق. يعتني بكلّ عجينة. لا يستعجل. يصنع خبزه على مهل، فيصير شهيًا.
أتذكر متجرًا يبيع الأسطوانات الموسيقيّة. كان يبيع موسيقى وأغنيات غير تلك المنتشرة في كلّ مكان. موسيقى سوريّة جديدة، وأغنيات الفرق العربيّة التي ظهرت بعد سنة 2000، والتي صارت تسمى بـ"الموسيقى البديلة". كان يبيع اسطوانات لموسيقى عالمية لم نكن نسمع بها في أمكنة أخرى. كنتُ أقضي وقتًا طويلًا في ذلك المكان، وصار العامل فيه صديقًا لي. وقد جمعتنا الصدفة بعد سنوات في برلين.
في برلين، أتخيل نفسي أمشي في الشارع الواصل بين الجامع الأموي وحي القيمريّة. أراقب المحلات والمطاعم العربية المنتشرة في برلين وأتخيلها المطاعم والمحال الدمشقيّة
بعد ذلك المتجر ببضعة أمتار كان المخبز الذي يبيع أشهر كروسان في دمشق. المخبز الذي كان يتجمهر العشرات أمامه من أجل أن يأكلوا كروسانًا طازجًا محشوًا بالجُبن. كان بعض الناس يزورون دمشق القديمة فقط من أجل ذلك المخبز.
أكمل الطريق، وأمشي في أزقة وحارات تخفي تاريخًا طويلًا من القصص والحكايات، منها قصصٌ شخصيّة ومنها ما صار جزءًا من تاريخ المدينة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. أصل إلى حمام البكري، فيتسع الزقاق وتتفرع منه أزقة جديدة تصل إلى حارات أخرى.
لا تبكِ... ولا تنسَ
أمشي بجانب كنائس دمشق. أعدّ حجارة الأرصفة. أرسم صورة لأبواب البيوت في رأسي. أحفظ ذكرى الحفلات الموسيقيّة في حديقة القشلة، وأحاديث الحب والسياسة والشعر. أتذكر صديقًا قتلته قوات الأمن. أتذكر صديقة انتحرت. أتذكر صديقة صارت ممثلة لها جانب من الشهرة. أتذكر صديقًا انقطعت علاقتنا بعد أن كنّا شريكين في كلّ شيء. أتذكر صديقتي الأقرب، والتي انقطعت أسباب دنياها عن أسباب دنياي. أتذكر الدرج الذي بجانب مركز شرطة باب توما، حيث جلست ساعات طويلة أنتظر حبيبة أو صديقًا. أتذكر كلّ هذا وأنا أمشي في شوارع برلين.
أقول لنفسي: كانت لكَ بلادٌ تحبها، لكن لا تعش في الماضي. لديك حاضرك الذي تبنيه حجرًا حجرًا، لديك بلادٌ جديدة، وعندك عائلة صغيرة جميلة ودافئة. تذكر ماضيك، لكن لا تبكِ على الأطلال. كلّ ما عشته في الماضي كان سببًا لما تعيشه الآن، فلا تندم. تذكر وابتسم، واحفظ ذكرى من رحلوا. كن وفيًا لذاكرتك، ولمن أحببتهم ذات يوم. لا تنسَ بلادك. لا تنسَ أهلها. لا تنسَ شوارعها، فلكَ فيها قبر أخيك الصغير، ولكَ فيها كلّ ما لك في الحياة، فلا تنسَ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم