الشرارة الأولى
أعجبت الشابة وردة فتوكي ذات الستة عشر ربيعاً بأغنية (تخونوه) لعبد الحليم حافظ، لكنها، وبدلاً من أن تهتم، كسائر البنات، بمغنيها عبد الحليم، اهتمت بلحن الأغنية. سألت عن ملحنها، وعلمت أن اسمه بليغ حمدي، فصممت على التعرف إليه، والاستفادة من موهبته. سُئلت بعد سنوات عن مدى إعجابها بجماله، هو الشاب الأسمر القصير، وقد كان الحب والزواج والفن قد جمع بينهما، فقالت: "بليغ كان تخين كلبوظ، مكتوب عليَّ ألا أحب إلا الرجال الوحشين". وأردفت:"لقد عشقت في بليغ فنه". جمعهما عالم الفن والموسيقى والإبداع، عالم التناقضات والجنون والتمرد، ثم فرقهما.يذكر التاريخ الحديث للموسيقى العربية عدة ثنائيات فنية من طراز ملحن ومطربة. فهناك محمد سلطان وفايزة أحمد، عاصي الرحباني وفيروز، وطبعاً هناك وردة وبليغ حمدي. صحيح أن لكل قصة حيثياتها وظروفها، لكن ربما كان من الصفات المشتركة لتلك القصص هو قدرية ما جمع الفن وما فرّق. جمع الفن فيروز وعاصي وأبدعا أجمل الأعمال، لكن الطلاق كان بالانتظار في آخر المشوار، وكذلك فعلت الأقدار بمحمد سلطان وزوجته فايزة أحمد، ولم يشذ بليغ ووردة عن السياق، فكان الطلاق أيضاً. فكيف سار مشوار موسيقار كبير مثل بليغ مع مطربة من العيار الثقيل مثل وردة الجزائرية؟
أول الحرمان وأول الشغف
صممت الشابة وردة إذاً على لقاء ملحن "تخونوه".
من مرابع باريس حيث كانت تغني بالفرنسية وبالعربية، قصدت بلاد أخوالها في بيروت، فأمُّها لبنانية من عائلة يموت، ومنها يَمَّمت مع الملحن السوري محمد محسن شطر دمشق لتغني من ألحانه عدة أغنيات، كان من أشهرها "أنا من الجزاير أنا عربية" دعماً للثورة الجزائرية.
تردد صدى الأغنية في البلدان العربية، فكان أن انتهى المطاف بوردة في مصر لتلتقي فارسها الفني بليغ حمدي.
التقيا، وكانت أولى الثمرات أغنية يا نخلتين في العلالي لفيلم "ألمظ وعبده الحامولي". افتتن بليغ بالفنانة الشابة، وطلبها للزواج، فرفضه أبوها.
كان ذلك أول الحرمان وأول الشغف، وبدأ بليغ يعبر عن أشواقه عبر ألحانه التي كانت بمثابة رسائل حب جارف. ومن ذلك أن أم كلثوم قالت له ذات مرة: "أنا كوبري بينك وبين من تحب"، في إشارة منها إلى ألحانه لها أنساك ده كلام، وبعيد عنك حياتي عذاب، الحب كله، فيما تزوجت وردة واستقرت في الجزائر، واعتزلت الغناء.
وجمعهما القدر والعيون السود
لكن القدر أبى إلا أن يجمع الموهبتين، إذ تخوض وردة صراع الانحياز للفن، وتحصل على الطلاق، وتعود إلى مصر لتلتقي بليغ، وتبدأ معه مشوار الزواج والفن، بدأ بأغنية العيون السود، وهي الأغنية التي كتبها الشاعر الغنائي محمد حمزة بأفكار بليغ.ومن العيون السود، إلى الوداع (خليك هنا)، إلى وحشتوني، واشتروني وعايزة معجزة، ودندنة، وصولاً إلى بودعك، قدم الثنائي بليغ ووردة أكثر من 70 أغنية تعتبر من أجمل ما احتوته المكتبة الموسيقية العربية.
من العيون السود إلى آخر عمل بينهما، بودعك، قدم الحبيبان بليغ ووردة أجمل أغاني الموسيقى العربية
أعجبت وردة ذات الـ16 عاماً بأغنية تخونوه، سألت عن الملحن وعلمت أن اسمه بليغ، صممت على لقائه وكان الحبأنجزوا أعمالاً تعبر عن مختلف الحالات التي تمس الحياة الخاصة والعامة. فكما التجاذب في علاقة الحب بينهما، كانت الأغاني: عشق كبير وفراق، وعتاب، وكذلك الأمل والتفاؤل. وربما من باب الشمولية أو المصادفة قدما أغاني الأطفال، كما في أغنية كان عندي بغبغان، وقدما أيضاً الأغاني الوطنية. لذلك لم يكن فنهما فناً للنخبة فقط، وإنما مسّ أيضاً الحياة اليومية والعاطفية لمعظم الناس، فانتشر انتشاراً كبيراً في أوساط الجمهور على تنوع شرائحه.
"عندما كان يلحن لي كان يوقظني ليُسمعني"
استفاد الزوجان في علاقتهما من موهبة الطرف الآخر في إبراز موهبته هو وإبداعه. هي بصوتها القدير الذي جعلها خيار الملحنين لغناء الأغاني التي كانت قد أُعدت لأم كلثوم عند رحيلها، مثل "أوقاتي بتحلو" للسيد مكاوي، أو أغنية "معندكش فكرة" ألحان حلمي بكر. وهو بموسيقاه وروحه التلحينية المتدفقة التي احتاجت الصوت. وقد تمكن بليغ، بحكم العاطفة والقرب والتعايش اليومي، من التقاط مزايا صوت وردة، واستثمر معظم تلك الطاقات في ألحانه. فقد كان بإمكانه أن يجرب ويبدل ويعدل حتى اللحظة الأخيرة قبل إذاعة العمل. وفي ذلك تقول وردة: "لقد كان بليغ يأخذ رأيي في ألحانه، وعندما كان يلحن لغيري كان ينتظر استيقاظي ليسمعني اللحن… أما عندما كان يلحن لي فقد كان يوقظني ليُسمعني الجمل اللحنية فنؤديها ونتناقش حولها لنستقر على الخيار الذي أعجبنا معاً".ما الذي أعطاه صوت وردة لألحان بليغ؟
1- الاتساع: يعتبر صوت وردة من الأصوات التي تستطيع الأداء على مساحة صوتية واسعة من أدنى القرار إلى الجوابات العالية، دون أن يظهر عليه القصور في الحالتين. وقد أعطت هذه الميزة بليغ حرية كبيرة في التنقل بين الطبقات الصوتية، فنراه يستخدم القرار الهادئ المعبر الحساس، وفي اللحن ذاته يصعد إلى طبقات الجواب العالية للحصول على انطباعات وتأثيرات تناسب الحالة الدرامية لكلمات الأغنية نجد ذلك في أغان كثيرة وخصوصاً أغانيها الطويلة كالعيون السود ودندنة.2- القوة: استفاد بليغ من صوت وردة القوي الشاب، فكان يستخدم في ألحانه لها مقاطع قد تبدو مغامرة فيما لو غنتها مطربة غيرها. لكنه كان مطمئناً أن وردة ستؤدي المقاطع الطويلة التي تحتاج للقوة بكل براعة، كما في أغنية ليلي يا ليالي، أو في القفلة الرفيعة لأغنية عاوزة معجزة في مقطع "واحنا في زمان يا عالم ما فيهش معجزات"، وغيرها.
3-المرونة: في إطار التجديد أو التجريب لاحظ بليغ ميزة المرونة في صوت وردة، فوظَّفها بشكل كبير في ألحانه. والمقصود بالمرونة هنا القدرة على سرعة التبدل من حالة لحالة، أو تحقيق قفزات صوتية غير متوقعة، والانتقال من طبقة دنيا لطبقة أعلى، أو العكس، أو المرور على عدد كبير من العلامات الموسيقية خلال زمن قصير جداً. نجد ذلك بوضوح في أغنية دندنة، أو وحشتوني. في هذه الحالة يشعر المستمع أن جميع العلامات الموسيقية في حالة تأهب، لأن بليغ قد يستخدمها في أية لحظة. ويمكن القول أن هذه الخاصية استخدمت بشكل مكثف في ألحانه لوردة، في حين كانت ألحانه لأم كلثوم تمتاز برصانة، أو وقار التصاعد اللحني.
4- الأنوثة والدلع: يمكن ملاحظة اعتماد بليغ الجمل التي تظهر الأنوثة والدلع في صوت وردة، وذلك في استخدامه لجمل لحنية تحمل آهات، أو توقفات غير متوقعة، أو استخدام كلمات خاصة مثل "إيه؟ قلت إيه؟"، أو "وحشتوني"، أو الترنم ببعض الحروف، وما إلى ذلك.
5- الحساسية: يعتبر صوت وردة من الأصوات المطواعة التي تمتلك حساسية عالية، ويعتبر بليغ من أكثر الملحنين تركيزاً على الإحساس العالي في ألحانه. وقد استثمر ذلك في ألحان كثيرة، وخصوصاً في تلحين المقاطع غير الإيقاعية والتي اعتاد وضعها في بدايات ألحانه. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أداء أغنية العيون السود على عوده مع وردة، أو الدخول الشجي في أغنية الوداع، خليك هنا، وغيرها.
6- الشخصية: لوردة حضور قوي وشخصية صوتية، وقد لجأ بليغ في ألحانه لوردة إلى مقاطع إيقاعية استعراضية تعتبر في معظمها ذرا لحنية طربية اقتنصتها وردة بكل براعة، ومن ذلك الكوبليه "مال واشتكى القلب وبكى" أو كوبليه "السنين يا ما دوبت من عمرنا كتير السنين". وفي هذا المنحى نجد أن اختراقه الإيقاعي التصاعدي قد يكون في موسيقى الكوبليه أو في الغناء.
7- التعبيرية العالية (الشمولية): والمقصود بها قدرة صوت وردة على أداء جميع الحالات الانفعالية على جميع المقامات الموسيقية، الشرقية أو الغربية، وهذا أتاح له حرية كبيرة في التنقل المقامي، أو في الحالة التعبيرية. فاستخدم في ألحانه لوردة مقامات المينور والماجور الغربية، كما استخدم مقامات الراست والبيات والحجاز وحتى الصبا الذي يعتبر من المقامات الصعبة الأداء، لكن صوت وردة أداها باقتدار وفي جميع حالاتها. تتعدد النجاحات والأعمال الفنية الرائعة للثنائي، لكن الحياة المشتركة تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك؛ تحتاج زوجاً حاضراً للواجبات المنزلية والمعاشية، وحريصا على الوفاء بالتزاماته لزوجته التي تعرف مكانتها الفنية بين فنانات جيلها اللائي يتهافتن عليه وعلى ألحانه. تحتاج إلى زوج لا يسافر إلى لبنان ناسياً زوجته في مصر. اجتمعت إذاً عوامل الفراق فطلبت وردة الطلاق وحصلت عليه، لكن القصة لم تنتهِ. ظل الحب ينبض حتى غنت وردة آخر لحن من ألحانه لها بودّعك، كان لحناً غريباً وكأنما أراد فيه بليغ أن يجعل الموسيقى والكلمات تعبر تماماً عن قلبه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون