قبل يومين، أفادت صفحة محلية صغيرة الحجم ومحدودة المتابعين على فيسبوك، بأنّ "سيارةً (فان) خمرية اللون فيها أشخاص ملثمون حاولوا اختطاف فتاة في السادسة عشرة من عمرها من أمام مدرستها في قرية في ريف بانياس. ولكن تدخّل شباب من القرية أفشل عملية الخطف". لم يذكر الخبر ملابسات الحادثة بالتفصيل، ولكن بعد ساعة واحدة على نشره، ظهر على صفحات فيسبوكية أخرى، وتوالى تناقله حتى بلغ عدد نسخ الخبر قرابة الألف مع نهاية اليوم.
اتصالات عدة أجريتها مع شخصيات من القرية (نحجم عن ذكر الاسم قصداً)، شرحت تفاصيل متناقضةً. في حديث نقلته إليّ صديقة موثوقة، بناءً على طلبي، تروي البنت: "منذ سقوط النظام وما جرى من فوضى في المنطقة، طلب أهلي مني أن أهرب عند وقوف أي سيارة بجانبي مع الصراخ في الوقت نفسه. في ذلك اليوم، وقفت سيارة بقربي، وكان مع الشوفير سلاح شهره وخرج واحد من السيارة. هنا صرخت وركضت... إلى أن خرج رجل من حارة المدرسة وراح يصرخ عليهم فاختفت السيارة".
أخبرت البنت قريباً لها بالأمر، وفي ثوانٍ صارت القصة على منصة فيسبوك.
أما القصص التي تداولها الناس، فأفادت بالتالي: "سحبوها بإيدها واجتمعوا الشباب وأنقذوها"، و"أربعة شبّان مسلّحين بسيارة فان خمرية سألوها وين بيتكم تجي نوصلك؟"، "ما حدا حكاها، السيارة وقفت شوي حدّها ومشت وهي كبّرت القصة"، و"البنت معها وشّة بعقلها توهّمت القصة كلها".
إحدى الفتيات علّقت على منشور محاولة الاختطاف، سائلةً: "ليش طالعة لحالها من المدرسة؟"، فردّت أخت البنت بأنّ "مديرة المدرسة والتوجيه ما بيسمحولنا ننطر بعض... وإذا بدنا ننطر لازم نطلع ع الشارع ننطر برّا". ردّت صاحبة التعليق: "أوف لهي الدرجة؟"، فردّت أختها: "وأكتر ما فينا نحكي كيف بيعاملونا".
مديرة التوجيه رأت التعليق، واتصلت بالفتاتين طالبةً منهما حذف التعليق فوراً، وهذا ما حدث.
بين علم النفس وعلم الفيسبوك
في علم نفس الجمهور، سبب الحدث كله خوف ورعب مبرّران من حدث غير مألوف (محاولة اختطاف)، لفتاة مراهقة صغيرة السنّ (من مواليد 2009)، لم تشهد أو تتعامل مع سيارة فيها مسلحون يحملون سلاحاً ويخرجونه من شبابيك سيارتهم، وفوق ذلك هم ملثمون. أما في علم نفس فيسبوك، فإنّ الخبر/ الحدث، مناسب اليوم للانتشار بحكم تحوّل المنصة إلى منصّة قلق سورية ـ ساحلية حمصية على وجه الخصوص ـ بعد مجازر الخميس الأسود (آذار/ مارس الماضي)، التي لم تجفّ دماء ضحاياها بعد.
في بيئة أمنية هشة، تتحول محاولة اختطاف مراهقة من أمام مدرستها إلى "قصة فيسبوكية"، تتضارب فيها الروايات بين "أربعة شبّان مسلحين بسيارة فان" و"البنت معها وشّة توهمت القصة"، وبين الخوف المشروع والاتهام بالهستيريا، وخطورة الشكاوى والتوجسات، تضيع الحقيقة تحت ثقل الإنكار والتسخيف
اليوم، يغمر الخوف والرعب تلك الجبال، كما يغمران بدرجات متفاوتة الجغرافيا السورية الأخرى، ولكن يزداد الخوف في الساحل لأسباب باتت معروفة. أصبح الرعب من أيّ حدث أو شائعة سمةً مشتركةً لأغلب العائلات في قرى تفتقر إلى الحماية الأمنية. جاء "أبو العينين"، القائد أو المسؤول الأمني في الناحية (الأبوات مجهول اسمهم الأول والثاني)، وطلب اصطحاب الفتاة للتعرف إلى الخاطفين، إلا أنّ أهلها رفضوا حفاظاً على سلامتها (هذا ما ورد في الخبر).
في مكان لا يبعد كثيراً عن مكان وقوف سيارة الفان قرب المدرسة ـ أكثر من ثلاثة كيلومترات - حدثت مجزرة بشعة راح ضحيتها ستة أفراد لا ذنب لهم بالمطلق (وأصرّ على هذه)، سوى رغبة القتلة في الانتقام من "العلوية". في مجزرة "حرف بنمرة"، قبل أسابيع عدة، قتل عنصران من "الجيش السوري الجديد"، طفلاً في عمر الصبية نفسه، وطارت صورته بالبنطال المربوط بقطعة قماش على خصره حول العالم، مثلما طارت صورة الفتى "إيلان"، وهو مرتمٍ على شاطئ البحر "الأسود" قبل سنوات عدة. بالضرورة هناك عشرات ومئات الصور الأخرى لأطفال في المعتقلات والسجون، وكلها توضح أنّنا بحاجة إلى كوكب أفضل من هذا الكوكب البشري.
كان سيناريو القتل أو الخطف للفتاة محتملاً، وهو محتمل اليوم في أي مكان في سوريا. كان من حق الفتاة الخوف والهرب مثلما كان ولا يزال من حق السوريين في أي وقت الهرب من آلة الموت التي خيّمت فوق سوريتهم عقداً كاملاً تهرس الأرواح والأجساد والأملاك والأحلام، ويبدو أنها لن تتوقف. كانوا يبحثون عن الأمان والهرب من صراع جرّتهم إليه رؤوس حامية لا تعرف حلولاً للبلدان في أزماتها الكبرى سوى الخراب. هذه اللغة ليس مرادها الهرب من توصيف الأسماء بمسمياتها، ولكن "من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر".
أكتب هذا كي أقطع الطريق سلفاً على مجموعات المطبّلين والمزمّرين واللاعبين دور المظلومين والظالمين بحق بلاد كان اسمها "سوريا".
أصبح الخوف سمةً مشتركةً لأغلب العائلات في القرى التي تفتقر إلى الحماية الأمنية. لا يكاد يمر يوم دون حادثة "تطرش" صفحات السوشال ميديا، باعتبارها كتاب التاريخ المعاصر للبشرية السورية. في أزمنة أخرى، ضاع توثيق مثل هذه الحوادث إلا من الذاكرة الجمعية، ولكن التكنولوجيا اليوم تحاصر النسيان ومحاولات تشويه الحقائق والسخرية منها من قبل ضحايا آخرين أو مطبّلين جدد للنظام الجديد. يكاد "الكاتالوغ" السوري بين النظام السابق واللاحق، يكون نفس الطبعة والصفحات والدار الناشرة، ولكن هذه المرة بغلاف "أمويّ".
لانا وحمزة ولبنى
غير بعيد عن قريتي، جرت واقعة خطف مشابهة ولكنها نجحت في مرادها: يوم 23 آذار/ مارس 2025، وقت الظهيرة، خرج الأخوة الثلاثة؛ حمزة، ولانا، ولبنى، من المزرعة التي يعمل فيها والدهم محسن حمود، في منطقة بيت شنتة في طرطوس، إلى دكان يبعد نحو مئة متر عن بيتهم باتجاه الطريق العام، لشراء أغراض للبيت. بقيت الأخت التوأم للانا في البيت مع بقية إخوتها في انتظار عودة الغائبين. قبل وصولهم إلى الدكان توقفت سيارة سوداء (فان)، ونزل منها شخص وقام بمحاولة سحب الأخ الأكبر حمزة. تمسكت الأختان لانا ولبنى، بأخيهما، فقام الشخص بسحب الأختين أيضاً معه. ثم غادرت السيارة مسرعةً بالأخوة الثلاثة. لم يُعرف عدد الأفراد الذين كانوا في السيارة. من المعتقد أنهم كانوا مسلّحين. بعد علمه بالواقعة، توجّه الأب محسن، إلى الأمن العام في مدينة طرطوس، وقدّم بلاغاً بالخطف. تابع الأب بلاغه مرات عدة، وحتى اللحظة لم يرِد أي ردّ من الأمن العام. أصيبت الأمّ بانهيار نتيجة الحادث.
رفضت عائلة الفتاة ذهابها للتعرف إلى الخاطفين، "حفاظاً على سلامتها". بينما في مكان آخر، حدثت مجزرة انتقامية قُتل فيها طفل بنفس عمرها.
أمام هذه الواقعة، يجب عليّ أن أقدّم للرأي العام إجابات عن ثغرات عدة في هذه الرواية. لماذا؟ لأنّ المحقق "كونان" السوري المرابط على السوشال ميديا، يضحك بسخرية ويتحدّاني لأقول له: إذا كان هؤلاء الإخوة قد اختُطفوا وهم وحدهم شهود الحادثة، فكيف عرفت بها؟ كيف علم الأب بالواقعة؟ هل كان في المزرعة ورأى ما حدث؟ هل بلّغه أحد آخر (الجيران، أصحاب الدكان، أحد الأطفال تمكّن من إبلاغ أحد قبل الخطف التام)؟ كم من الوقت مرّ بين لحظة الخطف ولحظة علم الأب وتقديمه البلاغ؟ وعليّ أيضاً أن أشرح الدافع المحتمل وراء خطف هؤلاء الإخوة تحديداً، وهل طلب الخاطفون فديةً بفرض صحة الواقعة؟ كيف عرفت أنّ السيارة نمرتها (...)؟ وعشرات الأسئلة الأخرى.
أن تظهر الأمّ في مقطع فيديو، وتروي ما جرى بقلب مجروح محطم بعد صدمتها الأولى إثر سماع الخبر، غير كافٍ. لماذا؟ لأنّ الأمّ عضو افتراضي "مندسّ"، في زمرة تهدف إلى تشويه صورة البلاد الزاهية "الأمّورة" بعد سقوط نظام الأسد. هكذا ببساطة. أما الجهة المفترض أنها تعمل على حماية الناس، فليس من حقّي سؤالها: ما هي الإجراءات التي اتخذتها بعد تلقّي البلاغ؟ هل عممت أوصاف السيارة أو الأطفال على نقاط التفتيش؟ هل تم فتح تحقيق رسمي؟ هل تم استدعاء الأب أو غيره للاستماع إلى إفاداتهم؟ وما هو سبب عدم وجود أيّ ردّ حتى الآن بعد مضيّ شهر على الواقعة؟ هل التحقيق جارٍ بصمت؟ هل هناك صعوبات معينة؟ هذا ممنوع في نظر المحقق "كونان" السوري.
حسناً، من سوء حظ الخاطفين وجود كاميرا مراقبة في محل على الطريق أوضحت التفاصيل السابقة، وأن السيارة ذهبت من أمام المحال مسافةً ثم عادت إلى مكان الأطفال وقام الشخص بالخطف. هناك محقّق أذكى سيطالبني بالجواب عن سؤال: "هههههه وهل كانت هناك كهرباء وقتها؟"، أو قد يسأل ساخراً عمّا إذا كانت دقّة كاميرا المراقبة تسمح بالتقاط نمرة السيارة؟ هل أنا مطالب الآن بإحضار مقطع الفيديو ونشره على السوشال ميديا؟ أو أن هذه مهمة "الجهات المختصة"؟ المحقق "كونان" فكرة، والفكرة لا تموت.
في لقاء جرى عبر صديق (طلبتُ منه الذهاب إليهم لعدم قدرتي على الوصول إلى هناك)، طلبت العائلة حلّاً لهذه الكارثة المحيقة بها. لم يطلبوا سوى ما تطلبه أي عائلة: عودة أولادها سالمين. هل علينا أن نتجادل في تفاصيل الواقعة طالما هي مؤكدة مليون في المئة، أو في ضرورة التحرك سريعاً كي لا نستقبل جثامين المخطوفين قريباً؟ ساعتها سيتأكد المحقق "كونان"، من أنّ القضية "وقعت فهي إذاً واقعية". المطلوب وفق جوقة المحقق "كونان"، أن نكذّب واقعةً كرمى لعيون أبي محمد وأبي سيف وأبي خطاب وبقية الأبوات.
تقول الفتاة: "صرخت وركضت... إلى أن خرج رجل من حارة المدرسة وراح يصرخ عليهم فاختفت السيارة". هذه الجملة ليست مجازاً روائياً، بل مشهد واقعي يصف لحظة فزع فردي وجَمعي. الخوف لم يعد استثناءً، بل "سمة مشتركة لأغلب العائلات" في قرى بلا حماية، تحكمها الشائعة ولا تحميها الدولة
هذا الفريق، العظيم بحضوره على السوشال ميديا والمتواطئ ضمنياً مع الحاصل من وقائع، يتعاطى مع كل جريمة ترتكبها جهة تابعة للسلطة أو أشخاص تابعون لها، وفق منطق الإنكار أولاً: لم تحدث هذه الواقعة لا بل إنّ محاولاتكم لن تنجح، ويضيف أنّ أهل الضحايا يكذبون (الكذب بدمهم وفق تحليله الجنائي)، وإن حدث واعترف بالواقعة فهي من فعل "الفلول"، وهؤلاء أخطبوط ذو أذرع لا تنتهي في كل مكان. وإن حدث واعترفت السلطة (الأمن العام استقبل البلاغ)، فهذا معناه "فصائل منفلتة أو حالات فردية" بلغ تعدادها في سوريا حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي، نحو عشرة آلاف حالة فردية، وأخيراً إن حاصرته الوقائع يقول العبارة الشهيرة: "أين كنتم عندما كان النظام يفعل أضعاف هذا منذ 14 عاماً".
فريق المحقق "توغوموري"
لدينا على النقيض من فريق المحقق "كونان"، فريق آخر: المحقق "توغوموري"؛ فريق التهويل والتشويش وادّعاء البطولات الافتراضية. يحاول هذا الفريق تحويل أي حادثة إلى "قضية عالمية" بمفردات صاخبة: "إبادة"، "مؤامرة"، و"تطهير عرقي"، مثل صفحة المركز السوري البريطاني لتوثيق الانتهاكات الذي لا يمتلك أدنى معايير التحقق الخبري، وبالطبع مجرد وضع كلمة البريطاني تكفي لإشعار المتابعين بأنه مركز دولي حقيقي ذو قيمة عظيمة يشرف عليه خبراء الـMI6، وبالضرورة تتيح "بالوعة" السوشال ميديا وجود آلاف الحمقى المتابعين والمصدقين. ينشر هذا الفريق وأنصاره قوائم مليئةً بالأخطاء (أسماء مكررة، وهمية، أو عادت من الخطف)، ويقدّمون "وثائق" هزيلةً تُضعف مصداقية القضية برمّتها. الأكثر خطورةً أن بعضهم قد يستغلّ الملف لغايات شخصية، مثل صفحة المدعو "بسام حنا". هؤلاء متخصصون في الأكشن، لا يهمهم ماذا يحدث بعد نشر الخبر. المهم فقط أن تغدو القضية "تراند" الساعة، وهم وراء هواتفهم وحواسيبهم يشربون المتّة أو القهوة، سعداء بإيصال هذا السعار إلى أقصاه.
قبل فترة قصيرة، انتشرت قائمة من خمسين اسماً لسيدات وصبايا علويات مخطوفات لا يُعرف بالضبط من أول من وضعها (ربما كان المرصد السوري لحقوق الإنسان)، ولكنها تعرّضت لإضافات هواة، نجد فيها أسماء مكررةً وأسماء سيدات عدن من الخطف أو أسماء دخلن بالصدفة هذه القوائم السريعة الإنجاز والنشر. هؤلاء يشكلون خطراً حقيقياً على القضية بسبب أفعالهم غير المسؤولة وادّعائهم المهنية في تصرفاتهم وهي أبعد ما تكون عن ذلك. إن القضية ليست لعبةً تتسلى بها في وقت فراغك. هذه قضية أرواح ومصائر.
"ليش طالعة لحالها من المدرسة؟" فردّت أخت الفتاة بأن مديرة المدرسة والتوجيه "ما بيسمحولنا ننطر بعض... وإذا بدنا ننطر لازم نطلع ع الشارع ننطر برا" لتضيف لاحقاً: "وأكتر... ما فينا نحكي كيف بيعاملونا".
يمكن إضافة بعض المحققين القريبين من هذا الجو، إلى فريق التهويل السوري هذا. فريق "الصحافيين" الذين يضعون همزة كلمة "إعلامي" فوق الألف، ويشارعون في أنهم يساعدون الضحايا وأهاليهم في الوصول إلى "فوق" ـ مرةً أخرى لا يزال لدينا فوق وتحت ـ أو إيصال القضية إلى هيئات دولية وهم لا يعرفون الفرق بين "اليونيسيف" و"اليونسكو". هؤلاء تسببوا فعلياً في خوف أهالي الضحايا من أي تعامل إعلامي ومن نشر فيديوهات أو معلومات مضافة ليس بسبب خوفهم من الخاطفين فحسب (وهم محقّون في ذلك)، بل بسبب الخوف من تحوّل قضيتهم إلى فقاعة فيسبوكية تختفي بعد أيام عدة دون نتيجة، كما هو الحال في حالات عدة (لن نذكر الأسماء احتراماً لذوي المخطوفات والضحايا).
فريق المحقق "مورياتي"
بعد الضغط الواسع على منصّات التواصل (وهو دور إيجابي يعززه تجاهل السلطة الجديدة)، وبهدف حفظ ماء وجه بعض الأشخاص في مواقع المسؤولية الأمنية في السلطة الجديدة، ظهر فريق جديد هو جوهرة تاج التحقيق الأمني: فريق الكابتن "موريارتي"! (موريارتي في روايات شارلوك هولمز، هو الشرير العبقري الذي ينسّق الجرائم ويترك أدلّةً مزيّفةً)، وهذا الفريق لا يكتفي بنفي الوقائع، بل يصنع روايات بديلةً بلمسة "عبقرية" تذكّرنا بمسلسلات الخيال العلمي، ولكن بإنتاجات زهيدة وإخراج سيئ:
- واقعة "سيما" (القرداحة): طفلة في الثانية عشرة من عمرها تُختطف ثم تظهر في فيديو تُفيد بأنها "سافرت بإرادتها" من القرداحة (50 كيلومتراً عن اللاذقية)، إلى ريف دمشق (جرمانا)، عبر "البولمان"، أي 400 كيلومتر بكل أريحية، وحدها، برغم أنّ النقل العام بين الساحل ودمشق في أدنى درجاته، والمرور يتطلب وثائق شخصيةً لا تملكها طفلة بلا هوية! ومع ذلك قد يحدث في بلاد "أليس" العجائبية أن يجد المحقق "موريارتي"، تبريراً مناسباً: الأمن لا يسأل الفتيات عن وثائق شخصية!
- واقعة "آية" (طرطوس): ضحية اختطاف تُظهرها الفيديوهات الرسمية وهي "تعترف" بأنها هربت مع صديقة، بينما الصديقة نفسها اختفت في ظروف غامضة! "آية"، تبلغ من العمر 23 عاماً، لديها طفلة وهي منفصلة عن زوجها، كانت في طريقها من منزلها في "دوار الفقاسة" في طرطوس إلى دائرة الامتحانات لإحضار بطاقة امتحان الثانوية "الحرّة"، لكن الاتصال انقطع معها بعد عشر دقائق فقط من خروجها من منزلها وفق ما روى والدها لإعلام محلي. تم تشويه صورتها وحياتها في بوستات عدة على منصّات فيسبوك وفق طريقة المحقق "كونان".
- واقعة الإخوة حمود (بيت شنتة): سيارة فان مسلحة تختطف ثلاثة أطفال أمام دكان، والتحقيق الرسمي الوحيد هو فتح محضر و"انتظروا"!
- سبقت قصة آية، حادثة اختطاف لم تنتهِ إلى النهاية السعيدة نفسها لآية. نهاية آذار/ مارس الفائت، اختُطفت السيدة "بشرى مفرج"، وقال زوجها حينها: "إنها كانت في طريقها إلى مدينة جبلة لكي تجري معاملة نقل مدرسة ابنتهما من مدينة جبلة إلى قريتهم القلايع"، مضيفاً أنّ "آخر مكان شوهدت فيه كان كاراج جبلة في الساعة التاسعة صباحاً، من يوم 23 آذار/ مارس الماضي" (على صفحته). في تعليقات لاحقة على مواقع عدة على التواصل الاجتماعي، ابحثوا عن تعليقات جماعة المحقق "موريارتي"، على هذه القضية.
يبرر المحقق "موريارتي" (الذي يبدو أنه تدرَّب في مدرسة "الجزيرة")، التناقضات بمعادلةٍ مجاهيلها تساوي صفراً، ومجموع المجاهيل عشرة. تلك طريقة قديمة خارجة من كتالوغات النظام السابق، ولكن عليها بقع زيت. لا يؤتمن جانب هذا الفريق المتبرع بالأباطبيل، ولا ذاك المدعوم من "فوق" بقدرات عسكرية وأمنية واستخباراتية تعمل ضمن الجوقة نفسها التي يكذب فيها الجميع. "اكذب اكذب وسوف يصدّقك الآخرون". ويحدث أن يصدّقهم آخرون. انظروا إلى التعليقات على منصات التواصل الاجتماعي، وسوف تقتنعون بأنّ الله في عليائه وزّع العقول بطريقة غامضة!
"قد تعود/ين إذا دفعتِ منيح"
عودة بعض المختطفين والمختطفات إلى عائلاتهم في مناطق الساحل السوري، لم تكن تعني نهاية معاناتهم، بل كانت بداية معاناة جديدة. كثرٌ منهم عادوا تحت تهديدات بالقتل إذا ما كشفوا الحقيقة، أو تحدّثوا عن تجربتهم بشكل يخالف الرواية الرسمية. وبذلك، تحوّلت عملية الإفراج عنهم من "تحرير" إلى استمرار للابتزاز، حيث أُجبروا على تبرير اختطافهم وتحميل أنفسهم مسؤولية ما حدث، وبالضرورة أي حديث هنا عن الكرامة الإنسانية محض هراء.
الأمر الأكثر إيلاماً هو أنّ معظم هذه العمليات لم تكن مجانيةً، بل كانت نتيجة مفاوضات مالية مكثفة. حسب شهادات أهالي مختطفين/ مختطفات سابقين/ ات، دُفعت فديات كبيرة تراوحت بين ألف دولار وعشرة آلاف دولار (ما يعادل 100 مليون ليرة سورية)، وذلك عبر وساطات متنوعة شملت عناصر من ... (حُذفت الجملة قصداً)، وقادةً محليين، أو شخصيات مؤثرةً في المنطقة. هذه المدفوعات تؤكد أنّ جزءاً من عمليات الاختطاف تحوّل إلى تجارة مربحة، حيث تُباع الضحايا مرّتين: مرةً عند اختطافهم، ومرةً عند إعادتهم. هذه الوقائع تُظهر انعدام الأمن في المنطقة، وتكشف أيضاً عن بنية فساد منظَّمة تشارك فيها أطراف متعددة، من الخاطفين إلى الوسطاء، وحتى بعض الجهات المفترض أنها مسؤولة عن حماية المدنيين.
ولكن نسبة العائدات من المخطوفات تقلّ كثيراً عن مخطوفات لم يعدن حتى الآن، وتصل إلى أهاليهن دلائل تفيد بأنّهنّ تعرّضن للضرب والاغتصاب مع تصريحات تفيد بأنهنّ قد "سُترن"، أي تزوجهنّ خاطف ما. يذكّر هذا الأسلوب الوضيع بأسلوب تنظيم داعش وبعض الحركات الإسلامية الأخرى التي تتبع فتاوى "جواز زواج السبيّة". وهذه الشريحة الأخيرة تكاد لا تنطق بحرف أمام أيّ أحد خوفاً من الفضيحة الاجتماعية والضرر النفسي الهائل على عائلاتهنّ بما في ذلك نساء متزوجات ولديهنّ أطفال (كذلك نمتنع عن ذكر أسماء). وهناك شريحة ثالثة لم يسمع بها أحد: نساء اختفين في سياقات مختلفة من ضمنها الاختفاء القسري في أثناء الانتقال بين المدن، أو في أثناء العمل، أو خلال مجازر الساحل الأخيرة، وأسماء بعضهنّ تظهر في سجلات أسماء الضحايا التي لم تكتمل بعد. وهناك أخيراً روايات متداولة عن ضحايا تمكّنّ من التواصل مع ذويهنّ ليُخبروهم بأنهنّ قد أصبحن خارج سوريا. وهذه الإشارة الأخيرة تمكّننا من إثباتها في حالة مخطوفة تواصلنا مع زوجها، وأخبرنا بأنّ الزوجة بعد أيام من غيابها تواصلت مع ابنتها الكبرى (16 عاماً)، عبر رقم إماراتي عليه تطبيق واتس آب، لمرة واحدة في 23 آذار/ مارس الماضي، وأخبرتها بأن "يعيشوا وينسوها ويهتموا بحالهم". مع إضافة مهمة: "ما حدا تعرّضلي ولا ضربني"، و"كتب كتابو عليّ". كما جرى التواصل مع الرقم من رقم سويدي والشخص الذي ردّ من بنغلادش وفق رواية الزوج، الذي نفى في الوقت نفسه وجود أي خلافات مع الزوجة المخطوفة. اليوم تمضي 70 يوماً على غياب الزوجة دون أي خبر جديد.
نتائج استقراء أوّلية
في استقراء أوّلي تكشف هذه الروايات حقائق عدة مقلقة:
- وجود نمط منهجي لخطف النساء من الطائفة العلوية في الساحل السوري.
- تورّط فصائل متنوعة في هذه الانتهاكات.
- استخدام النساء كأدوات في الصراع الطائفي والسياسي.
- وجود تواطؤ غير معلن بين الجهات المعنية بقضايا الاختطاف، يتمثل في غياب أي آلية متابعة لما يجري. من المقلق جداً أن يتلقّى وزير الخارجية المعيّن من قبل دمشق "أسعد الشيباني"، معلومات عن هذا الملف من المبعوث الدولي إلى سوريا غير بيدرسون، في أثناء وجود الشيباني في نيويورك قبل يومين، في وقت تقوم فيه قوات تابعة للحكومة الانتقالية الحالية بعشرات عمليات الاعتقال عبر الأراضي السورية ومن ضمنها اعتقال نساء وأطفال ومنهم من يعود لأهله وذويه في صندوق أو قد لا يعود.
- يمكن تأكيد أهمية وخطورة هذه القضية عبر سحبها أبعد من سياقها الجندري إلى حيّز أوسع: هناك حالات خطف للرجال والأطفال في حمص وريف حماة وريف طرطوس ومناطق سورية أخرى. والضحايا في الغالب من الساحل السوري، فإذا لم يكونوا من هناك، الحلول متاحة: دفع مبالغ مالية للخروج من الاختطاف. قبل أيام عدة تواصلت معي سيدة وطلبت منّي المساعدة في التقصّي عن والدها المختطف عبر منصّتي الشخصية على فيسبوك، عارضةً دفع أي مبلغ مالي مقابل حرية والدها.
وبرغم كل الاهتمام الإعلامي العالمي بهذه القضية، واعتبارها مؤشراً على طبيعة السلطة الجديدة في دمشق، وموضعاً يمكن محاسبتها عليه في المفاوضات الدائرة بينها وبين المجتمع الدولي، إلا أنّ السلطة وإعلامها لا يبدوان مهتمّين بهذه المسألة وربما يصنّفانها تحت بند "نساء فلول النظام".
يوم السبت 19 نيسان/ أبريل الجاري، جرت محاولة اختطاف الفتاة "سارة سعد الدين" (14 عاماً)، وهي طالبة في المرحلة الإعدادية، من شارع غسان حرفوش في مدينة اللاذقية، من قبل مجهولَين اثنَين كانا يستقلّان سيارة (فان) سوداء اللون، حيث أقدم الخاطفان على سحب الفتاة فور خروجها من المعهد، ولاذا بالفرار إلى جهة مجهولة. أحد أقرباء الفتاة قال: "إنّ تدخّل الأهالي وعناصر من الأمن العام، وملاحقتهم للفان المشتبه به، دفع الخاطفين بعد نحو عشر دقائق من المطاردة، إلى رمي الفتاة في أحراش منطقة ‘دمسرخو’ القريبة والفرار إلى جهة مجهولة"، في حين أنّ الفتاة ما زالت تعيش هول الصدمة والرعب.
والسؤال هنا: لماذا لم يطلق الأمن العام النار على سيارة الخاطفين بهدف تعطيلها بدل السماح لهم بالهروب إلى جهة مجهولة؟ قد يجيبنا عن هذا السؤال المحقق "كونان" السوري.
ويبقى السؤال الذي يطارده الجميع: كيف تحوّل حلم الحرية إلى كابوسٍ يجعل من "البقاء داخل البيت" أقصى طموحات السوريين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Bosaina Sharba -
منذ 4 أيامحلو الAudio
شكرا لالكن
رومان حداد -
منذ 6 أيامالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوع'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...
Mohammed Liswi -
منذ أسبوععجبني الموضوع والفكرة